المصلح الديني الكبير آية الله شريعت سنكلجي - مؤسس المدرسة الإصلاحية التوحيدية في إيران

فهرس الكتاب

النشاط الدَّعَوي بعد العودة من النجف

النشاط الدَّعَوي بعد العودة من النجف

«بعد عودته من النجف إلى طهران حوالي سنة 1300 هـ.ش (1340 هـ.ق/1921 م)، انكب «شريعت» على مطالعة الكتب ودراسة مؤلفات الفلاسفة والحكماء والطبيعيين وأهل المنطق والكلام وكتب المفكرين الغربيين، وكان على اتصال بعلماء الدول الإسلامية والعالمية الكبار واتسعت معارفه الإسلامية اتساعًا كبيرًا ووصل إلى مرحلة من العلم الجامع والشامل الذي يندر نظيره في ذلك الزمن، إلى درجة أنه أصبح صاحب رأي في علوم ما رواء الطبيعة بالإضافة إلى علم الفقه والشرائع، فأصبح فريد عصره ونادرة زمانه. ومحاضراته ومناظراته وحواراته مع بعض علماء الشرق والغرب الكبار ومع ممثلي النصرانية وبعض الرجال والسياح الأوربيين والأمريكان معروفة لدى أهل العلم وموضع تعجب وتقدير واستحسان منه»[18].

كما انصرف «شريعت» بكليَّته -بعد عودته من النجف- إلى الدعوة والتبليغ وإلقاء الدروس. في البداية كان لديه مجلس في أمسيات أيام الخميس في مسجد والده الحاج الشيخ حسن سنكلجي في حي سنكلج، وبعد مدة وجيزة قام بمعونة الأصدقاء وأهل الخير والإحسان ببناء مسجدٍ جديدٍ في مكان المسجد القديم في عبَّارَة تقي خان المعروفة في حي سنكلج وسمّاه دار التبليغ الإسلامي. ونالت دروسه ومجالسه ترحيب الناس وازداد إقبالهم عليها. وبعد هَدْم أجزاء من ذلك الحي، نقل شريعت دروسه إلى مقصورة مَدْرَسة وكيل المُلك الكرماني في مكان آخر من الحي.

ولمَّا اتَّسع الهدم في الحي، وازداد إقبال الناس على دروسه، دفعت همَّة ذلك الأستاذ الكبير ومثابرته وحبه للدعوة والتبليغ إلى أن يقوم بتأسيس بناء خاص ليكون مركزًا لنشاطه الدعوي، فبنى في شارع «فرهنک» - من الشوارع الفرعية ويقع بين شارع شاهپور السابق (حافظ حاليًّا) وشارع أميرية في جنوب طهران - بناءً نموذجيًّا من الناحية المعمارية أَطْلَقَ عليه اسم "دار التبليغ" وعُرِف بين الناس باسم "دار تبليغ شريعت سنكلجي". وأصبحت هذه الدار منذ أوائل سنة 1319 هـ.ش (1359 هـ.ق/1940م) وحتى زمان وفاته سنة 1322هـ.ش (1363هـ.ق/1944م) مكان استقبال محبي دروس الشيخ شريعت والمشتاقين إلى سماع خطبه[19].

كان مبنى دار التبليغ يتألف من طبقتين، الطبقة العلوية تشبه الشرفة الواسعة التي تشرف على الطبقة السفلى. وكان الحاضرون يجلسون على السجاد في الطبقة الأولى؛ أما الذين يجلسون في الطبقة العلوية فكانوا يجلسون على الكراسي ويستمعون إلى خطب ودروس شريعت، فإذا انتهى الشيخ من درسه نزل إلى الطبقة السفلى وجلس على الأرض ليجيب عن أسئلة السائلين[20]. ولايزال هذا البناء باقيًا حتى اليوم في شارع فرهنک في جنوب طهران.

كان «شريعت»، زمن إقامته في حي سنكلج يُلقي دروس تفسير القرآن على بعض أتباعه الخاصين؛ لكنه بعد بنائه لدار التبليغ وانتقاله إليها أصبح يلقي عدة دروس في التفسير لأعداد متزايدة من الناس كما أصبح بعض تلاميذه أيضًا يلقون بعض دروس التفسير في بيوتهم بإذنٍ منه[21].

يقول الأستاذ نور الدين چهاردهي في كتابه «وهابيت و ريشه‌هاى آن» [الوهابية وجذورها]:

«لم يكن مسجد فرهنک واسعًا بمقدار سعة فناء منزل شريعت في سنكلج ولكن في شارع فرهنک بدأ الناس من مختلف الشرائح والطبقات يحضرون دروس شريعت وتعلقت قلوب بعض الشباب بشريعت ودروسه تعلُّقًا شديدًا إلى درجة أن بعضهم أخذ يغلو فيه»[22].

كان شريعت سنكلجي ينقد في دروسه ومجالسه الخرافات والأمور الدخيلة التي أُلصِقَت بالإسلام عبر التاريخ. وكان كثير من الشباب المثقفين الدارسين يحضرون حلقات دروسه ويستمعون إلى خطبه[23]. وقد كتب أحد الذين رثوه بمناسبة الذكرى السنوية لوفاته ما يشير إلى هذا الأمر قائلاً:

«يمكننا اليوم أن نشير إلى ما يزيد على عشرة آلاف شخص عرفوا حقيقة دين الإسلام الحنيف بفضل تربية هذا الرجل العظيم وبفضل دروسه وأخلاقه الصالحة، وتدينوا بالإسلام وتخلقوا بأخلاقه ونالوا السعادة. لقد أطاح المرحوم شريعت سنكلجي بشجاعة منقطعة النظير بجميع الخرافات التي غطّت جوهر الإسلام الناصع عبر القرون دون أن تأخذه في ذلك لومة لائم، ودون أن يعير أي اهتمام لمعارضة العوام وغوغائهم، وأثبت بالدلائل العلمية والعقلية والقرآنية بطلان كثير من العقائد السيئة والبدع المضرَّة والأساطير والخرافات والأحاديث الموضوعة والأخبار المكذوبة. وقد أدى به هذا التصريح ببطلان كثير من الخرافات التي اعتاد الناسُ عليها إلى الاصطدام ببعض من كانت تلك الخرافات تصب في مصلحتهم فحاربوه وعارضوه، لكن ذلك الرجل القوي الشجاع لم يخشَ شيئًا من محاربتهم، وواصل بياناته وأفكاره الإصلاحية التصحيحية بكل صراحة وجسارة... وقد تركت هذه الجهود الإصلاحية أثرها وأصلحت أفكار كثير من الناس. وكلما تعرَّض للأذى كانت روحه تزداد تألُّقًا وفي الوقت ذاته يزداد جسمه النحيف ضعفًا وتزداد صحته تدهورًا، على نحو أصابه بالشيخوخة المبكرة في السنوات العشر الأخيرة من حياته وجهوده، فكان يعاني من المرض في أغلب الأوقات. ورغم كل ذلك لم يترك منبره وكان يصعد المنبر للتدريس والوعظ وهو مصاب بالحمى في أغلب الأوقات، ويواصل جهاده ودعوته»[24].

كان معارضو شريعت سنكلجي يتهمونه بالتأثُّر بعقائد الوهابية[25] وببعض الكُتَّاب العصريين المتجددين في مصر[26]. أما مؤيدوه وأنصاره، فكانوا يرون فيه داعيةً عصريًّا فذًّا أنقذ الشباب المثقفين والمتعلمين في إيران من الوقوع في فخ الأفكار المادية والإلحادية والشيوعية والداروينية[27].

[18] حسينقلي مستعان، مقدمة كتاب محو الموهوم لشريعت سنكلجي، ص 5. [19] انظر: مرتضى مُدَرِّسي چهاردهي، سيماى بزرگان [ملامح العظماء]، ص 184 – 185؛ رسول جعفريان، جريانها وسازمان‌هاي مذهبي-سياسي إيران [التيارات والمنظمات الدينية-السياسية في إيران]، حاشية ص 1016. وأشار في ذلك إلى كُتَيِّب يحمل عنوان: «النشرة رقم 1 لدار التبليغ الإسلامي للمصلح الكبير والعلامة الشهير المرحوم آية الله الحاج شريعت سنكلجي، الناشر: محمد باقر سنكلجي وطبع في سنة 1323 هـ.ش». [20] نور الدين چهاردهي، وهابيت وريشه‌هاى آن [الوهابية وجذورها]، ص 161. [21] المصدر نفسه، ص 161 – 162. [22] المصدر نفسه، ص 162 - 163. [23] الدكتور محمد حسن ناصر الدين صاحب الزماني، ديباچه بر رهبرى [مقدمة للزعامة]، طهران، مؤسسة مطبوعاتي عطائي، 1348 هـ.ق، [542 صفحة]، ص 137. [24] أبو الحسن بيگدلى، «ضايعه بزرگ اسلامى» [خسارة إسلامية عظيمة]، صحيفة اطلاعات، العدد 17 الصادر في شهر دي من سنة 1322 هـ.ش (1363هـ.ق/1944م)، ص 28. [25] دَرَجَ أهل البدع والأعمال والعقائد الشركية على نبذ كل الذين يدعون إلى الإصلاح وتصحيح العقائد وترك البدع والعودة إلى الإسلام الأصيل والتوحيد الخالص، بالوهابية، الذي يعني بأنهم من أتباع الشيخ محمد بن عبد الوهاب التميمي النجدي (ت 1206)!! مع أن دعاة الإصلاح والتصحيح في إيران وغيرها ربما لا يكون بعضهم قد سمع باسمه، ولا قرؤوا له كتابًا! وإذا كانوا قد دعوا إلى التوحيد الخالص لاسيما توحيد العبادة وإلى نبذ البدع فهذا انطلاقًا من فهمهم للدين وهو من باب التقاء الأفكار وتوافقها وليس من باب التقليد والاتباع له، وربما لا يتفق دعاة التصحيح والإصلاح الديني مع الشيخ محمد بن عبد الوهاب في كثير من الأمور العقدية الأخرى أو الفرعية، غير التوحيد ونبذ البدع والأعمال الشركية. هذا بالإضافة إلى أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب لم يكن له مذهب خاص به بل كان متبعًا في عقيدته لمذهب السلف، كما كان في الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل والحنابلة الجدد كابن تيمية وتلميذه ابن القيم. فنبذ الموحدين والقرآنيين الشيعة بهذه التهمة خطأ من جهتين، فلا هم من أتباع الشيخ محمد بن عبد الوهاب ولا هو صاحب مذهب خاصٍّ به!! [26] مجلة «امامت پژوهى» [مباحث الإمامة] الفصلية، السنة الأولى، العدد 4، مقال «نگاهى تحليلى به تكاپوهاى فكرى شريعت سنگلجى» [نظرة تحليلية إلى مجاهدات شريعت سنكلجي الفكرية]، سيد مقداد نبوي رضوي، الصفحات من 249 إلى 271، نقلاً منه عن سيد عبد الحجت البلاغي، تذكره عرفاء [تذكرة العرفاء]، ص 258. [27] مرتضى مُدَرِّسي چهاردهي، سيماى بزرگان [ملامح العظماء]، ص 181 - 182.