2- نقد «شريعت» للمفهوم الخاطئ للشفاعة المنتشر بين عوام الشيعة
يقول المؤرخ الشيعي الإيراني المعاصر رسول جعفريان:
«بالنسبة إلى موضوع الشفاعة، كان لشريعت سنكلجي موقف متشدِّدٌ جدًّا، حيث نفى كل نوع من أنواع الشفاعة»[82].
وأقول: الواقع إن هذا الكلام غير صحيح، وغالبًا ما يُتَّهم دعاة الإصلاح والتصحيح بأنهم ينفون الشفاعة مطلقًا، مع أن ما ينفيه «شريعت» وجميع الذين يشاطرونه الفكر من أعلام تيار المطالبة بإعادة النظر في عقائد الشيعة، ليس مطلق الشفاعة التي أثبتها القرآن الكريم، وإنما ذلك المفهوم الخاطئ للشفاعة الذي انتشر بين أكثر الشيعة والذي يصور أن الشيعي ببكائه على الحسين بن علي عليهما السلام وزيارته لقبره، وبحبه لعلي ÷ واعتقاده بولايته، ينال شيكًا على بياض لدخول الجنة بفضل شفاعة الأئمة له مهما ارتكب من كبائر الإثم والفواحش!! كما أن الذي يردّه «شريعت» ونظراؤه من دعاة الإصلاح الديني وتصحيح العقائد هو ما يفعله عامة الشيعة من استغاثتهم بالنبيص والأئمة والصالحين ودعائهم وطلب قضاء الحاجات وكشف الكربات منهم بحجة شفاعتهم لمن يدعونهم عند الله كي يقضي لهم حاجاتهم ويكشف كرباتهم، فهم - أي الموحدون المصلحون - يرون أن هذا عين عمل أهل الجاهلية وعقيدتهم التي وصفها الحق عزَّ وجلَّ لنا بقوله: ﴿وَيَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمۡ وَلَا يَنفَعُهُمۡ وَيَقُولُونَ هَٰٓؤُلَآءِ شُفَعَٰٓؤُنَا عِندَ ٱللَّهِۚ قُلۡ أَتُنَبُِّٔونَ ٱللَّهَ بِمَا لَا يَعۡلَمُ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَلَا فِي ٱلۡأَرۡضِۚ سُبۡحَٰنَهُۥ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يُشۡرِكُونَ ١٨﴾ [يونس/18]، ويقول الموحدون: إن الشفاعة لا تحصل بناء على طلب فلان وفلان بل تبدأ من الله الذي يأذن للنبي ومن يشاء من الصالحين يوم القيامة أن يشفع لمن يرتضيه الله تعالى، فالشفاعة لِـلَّه تعالى وحده أولاً وآخرًا، تبدأ منه وتنتهي إليه: ﴿قُل لِّلَّهِ ٱلشَّفَٰعَةُ جَمِيعٗاۖ لَّهُۥ مُلۡكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ ثُمَّ إِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ ٤٤﴾ [الزمر:44]، فهي تنطلق من الأعلى للأدنى وليس العكس، وبناءً عليه فلا معنى لطلبها من غير الله - لا الأنبياء ولا الأئمة ولا غيرهم - ولا يجوز ذلك، لأنهم أولاً لا علم لهم بما في صدور العباد وبحقيقة أعمالهم، فلا يملكون أن يشفعوا لفلان وفلان حسب طلبه!! بل الله تعالى وحده العليم بذات الصدور والخبير بأفعال العباد، وثانيًا: لأن الله تعالى وحده الحاضر الناظر في كل مكان يسمع دعاء الطالبين ومناجاتهم ولا تختلط عليه أصوات الداعين، ولا يملك أحد من الخلق - مهما علا شأنه وارتفع مقامه عند الله - أن يؤثِّر على الله ويحمله على تغيير حكمه بشأن إنسان أو إنقاذ من حق عليه من العذاب: ﴿أَفَمَنۡ حَقَّ عَلَيۡهِ كَلِمَةُ ٱلۡعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي ٱلنَّارِ ١٩﴾؟ [الزمر:19].
وفيما يأتي موقف شريعت بشأن الشفاعة، كما جاء في كتاب تلميذه ومقرر دروسه الشيخ فريد تنكابني «اسلام و رجعت»، قال:
«كان اليهود مغترين بشفاعة أجدادهم ويعتقدون أنهم لن تمسهم النار إلا أيامًا معدودات لذا كانوا يعرضون عن الالتزام بأحكام كتاب الله «التوراة». وبعبارة أخرى، كانوا يعتقدون أنهم – بفضل انتسابهم إلى يعقوب «إسرائيل» ÷ وكونهم من ذريته- أحباءُ الله وسينالون الشفاعة، فلذلك أخرجوا أنفسهم من الحدّ الوسط الواقع بين الخوف والرجاء وهو الحالة المعتدلة التي تحرّك الإنسان نحو كل كمال، وتعلّقوا بأماني محضة واتخذوا كتاب الله ظهريًّا وارتكبوا كل قبيح مسرورين بأن يعقوب أخذ عهدًا من الله أن لا يعذب ذريته إلا أيامًا معدودات: ﴿أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبٗا مِّنَ ٱلۡكِتَٰبِ يُدۡعَوۡنَ إِلَىٰ كِتَٰبِ ٱللَّهِ لِيَحۡكُمَ بَيۡنَهُمۡ ثُمَّ يَتَوَلَّىٰ فَرِيقٞ مِّنۡهُمۡ وَهُم مُّعۡرِضُونَ ٢٣ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا ٱلنَّارُ إِلَّآ أَيَّامٗا مَّعۡدُودَٰتٖۖ وَغَرَّهُمۡ فِي دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفۡتَرُونَ ٢٤﴾ [آل عمران: 23-24].
وكذلك فعل إخوتنا في الدين حيث آمنوا -كما نعلم جميعًا- بشفاعة بغير حساب للنبي والأئمة الكرام، وضحُّوا بالقرآن الكريم ومعظم أحكام الإسلام على مذبح محبَّة كاذبة لآل عليٍّ ومشاركة في مآتمهم التي معظمها رياء وتزوير، وقالوا بكل صراحة: إن كل ما بذله النبيُّ وعليٌّ وسائر رجال الإسلام العظام وتحملوه في سبيل نشر الإسلام حتى قضوا نحبهم في سبيل الله بطرق مفجعة: فهذا عليٌّ ÷ الذي ضُرب على رأسه بالسيف وسقط صريعًا في محراب العبادة وذاك الحسين ÷ قُتل في كربلاء وأُخذت نساؤه وأبناؤه وأطفاله أسرى دون ذنب ارتكبوه وغير ذلك من المصائب التي تحملها الأئمة الكرام في سبيل الدين، كل ذلك لم يكن إلا ليشفعوا للعصاة والمذنبين من شيعتهم؛ كل ذلك كان لأجل أن نتمكن نحن شيعة عليّ ÷ أن نرتكب كل قبيح ومنكر في الدنيا، ثم يأتي عليٌّ والأئمة يوم القيامة فيأخذوا بأيدينا نحو غرف الجنة الجميلة ويضعوننا في أحضان الحوريات الجميلات لا لشيء إلا لكوننا قد صرفنا شيئًا من أموالنا في الدنيا في طريق محبة آل عليّ أي خصَّصنا شهرين من كل سنة لإقامة مجالس عزاء الحسين ÷، مجالسَ لا تخلو من مفاسد أخلاقية واجتماعية، هذا على الرغم من وجود فقراء كثر حولنا لا يسمع أحد ضجيج نسائهم الجائعات وأطفالهم الحفاة، أو نقوم بزيارةٍ عبادية ظاهرًا –وللنزهة والتجارة باطنًا- مرَّةً كل بضع سنوات إلى مراقد الأئمة أو أبنائهم أو بناتهم في قم ومشهد والعراق!!
والخلاصة كما أن اليهود - عُبَّاد الدنيا والجاه- تمسكوا بمعنى خاطئ لا أساس له للشفاعة، وتعاملوا نتيجةً لذلك مع تعاليم كتاب الله وشريعتهم بكل استهتار، فإن جماعتنا وإخوتنا [أي الشيعة] استغلوا موضوع الشفاعة أسوأ استغلال وتعاملوا مع معظم تعاليم القرآن والإسلام ببرودة وقلّة اهتمام.
أيها القارئ العزيز! إن الذين لا يهتمُّون بأحكام وتشريعات الإسلام –سوى قلة معدودة يؤدونها بسبب العادة والتقليد- وينتهكون كل يوم حرمة شريعة الإسلام ويرتكبون المنكرات، الأشخاص الذين ابتعدوا عن رحمة الحق بسبب أخلاقهم السيئة وأعمالهم القبيحة، وسلبوا عن أنفسهم أهلية الغفران والعفو، وباختصار الأشخاص الذين لا يقدِّمون من عمل سوى إظهار الحب المزيف للنبيِّ الأكرمص والأئمة الكرام عليهم السلام لا يكسبون من ذلك سوى سَخَط هؤلاء الأطهار عنهم ونفورهم منهم، ويهيئون أنفسهم لعذاب الله الأليم، هل ممكن للنبي والأئمة أن يشفعوا لأمثالهم؟ هؤلاء الذين لا يوجد أي شبه أو تناسب بينهم وبين النبيص والأئمة في محكمة العدل الإلهية؟!
هل يُنال الفلاح والسعادة الأخروية بأشياء مادية كالمال والجاه والمنصب التي تُعطى للناس بواسطة النبي؟ هل يمكن أن نتصور أن الله العادل على الإطلاق والقائل في كتابه: ﴿فَمَن يَعۡمَلۡ مِثۡقَالَ ذَرَّةٍ خَيۡرٗا يَرَهُۥ ٧ وَمَن يَعۡمَلۡ مِثۡقَالَ ذَرَّةٖ شَرّٗا يَرَهُۥ ٨﴾ [الزلزلة: 7-8]، والقائل في موضع آخر: ﴿وَمَن كَانَ فِي هَٰذِهِۦٓ أَعۡمَىٰ فَهُوَ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ أَعۡمَىٰ وَأَضَلُّ سَبِيلٗا ٧٢﴾ [الإسراء: 72] أن يأذن بالشفاعة لمثل أولئك الناس؟!»[83].
ويعلق نور الدين چهاردهي على هذا الكلام قائلًا:
«لقد تكلَّم شريعت سنكلجي بشكل مفصَّل في منابره وخطبه عن موضوع الشفاعة، وردَّ الشفاعة بكل نحو من الأنحاء، والذي شاهدته هو أن شريعت لم يكن يذكر في ختام خطبه ودروسه مصيبة الأئمة الأطهار أبدًا. وفي هذا الموضوع طرح شريعت سنكلجي ثلاثة مباحث أساسية من عقائد الشيعة مع بعضها ورد خلال صفحات بحثه عن موضوع الشفاعة كلّاً من: إقامة مجالس عزاء شهادة الإمام الحسين بن علي، و[شد الرحال] لزيارة الأماكن المباركة»[84].
وأقول: العلاقة بين نفي الشفاعة ونفي مجالس العزاء الحسيني والتردُّد لزيارة قبور الأئمة ومشاهدهم، هي أن عامة الشيعة يعتقدون أن قيامهم بتلك الأمور الأخيرة تنيلهم حتمًا شفاعة الأئمة وتؤمِّن لهم غفران جميع الذنوب، مما يضمن لهم دخول جنات الخلود! لذا كان شريعت ينفي الشفاعة بهذه الأمور.
ويواصل الشيخ فريد تنكابني شرحه - الذي يعكس عقيدة شيخه شريعت - لحقيقة معنى الشفاعة - في آخر كتابه «اسلام ورجعت»، فيقول:
«وإذا وصل الكلام إلى هنا فمن المناسب أن نوضح باختصار معنى «الشفاعة» بقدر ما يسمح به علمي الضعيف:
كلمة «الشفاعة» مشتقة من «الشفيع» بمعنى القرين. فعندما يجد صاحب الحاجة نفسه وحيدًا فإنه يجعل الشخص الشفيع قرينه، أي عندما يجد أنه عاجز عن قضاء حاجته والوصول إلى مطلوبه وحده، فإنه يمدّ يد التوسّل إلى شخص آخر أي «الشفيع» ويطلب منه مساعدته. ويجب أن نعلم أن نوع شفاعة الشفيع ليس واحدًا في كل مكان، بل تتغير الشفاعة بتغير مورد الحاجة وكونه من الماديات أم من الأمور المعنوية.
فمثلاً التلميذ الفقير الذي يجعل معلمه شفيعًا وواسطة له لدى وزير المعارف لكي يؤمن له وسائل عيشه، تختلف طريقة شفاعة المعلم هنا عن شفاعته عندما يطلب منه أحد أن يتوسط له لدى الوزير ليرفع من مقامه ويرقيه إلى مقام علميّ أفضل، لأنه في الحالة الأولى تكون صورة الشفاعة أن يأخذ المعلم يد التلميذ ويذهب به إلى الوزير ويشرح له أوضاع هذا التلميذ وفقره ويلتمس منه مساعدته في تأمين مصاريف دراسته، أما في الحالة الثانية فلما كان طلب التلميذ يتعلّق بأمور مرتبطة بالروح، وبعبارة أوضح يتعلق بأشياء مرتبطة برقيّ النفس وتنتج عادة عن كمال النفس وباختصار يتعلّق بأمور هي من المقامات النفسية والروحية، فإن شفاعة المعلم في هذه الحالة هي أن يُذكِّرَ التلميذَ بوسائل الرقيِّ بالنفس ومزايا كمال الروح، وشروط أهلية الوصول إلى المقامات العلمية الرفيعة، وبعبارة أخرى أن يجعل التلميذ خاضعًا لتعليمه وتربيته ويعمله أن يأخذ بالأسباب ويتعلّم المزايا العلمية والأخلاقية التي توصله إلى المقام الذي يبحث عنه.
فالآن لو اتبع التلميذ معلّمه بشكل كامل ووضع نصب عينيه على الدوام نصائح وتعليمات معلّمه، وباختصار قَرَنَ روحَه بروح المعلم فإنه سينال أهلية الوصول إلى ذلك المقام الذي يهدف إليه، وعندئذٍ بمجرد أن يُطْلِع الوزيرَ العالمَ على هذا الأمر فإنَّه سيضعه في ذلك المنصب الذي يستحقه. وهنا يجب أن نقول إن المعلم شفع لذلك التلميذ لدى ذلك الوزير ودخل التلميذ في شفاعته، أما لو أن التلميذ أهمل تعليمات معلمه واستهتر في دراسته وأمضى أوقاته بالكسل والبطالة وبدلاً من ابتدائه باتباع أفعال معلمه واهتمامه بأقواله اكتفى بإبراز المحبة له وتوقع في الوقت ذاته أن يقوم الوزير بسبب وساطة المعلم له بمنحه مقام الأستاذية مثلاً، فلا شبهة أن مثل هذا التلميذ قد حرم نفسه بسوء صنيعه من شفاعة المعلم وبالتالي فلا يحق لمثل هذا التلميذ توقع شفاعة المعلم لإيصاله لذلك المنصب ولو توقع مثل ذلك فلا ينبغي أن يُعتبر من العقلاء.
والحاصل أن الشفاعة في الحالة الثانية لها قواعد ومبادئ، وهي في الحقيقة مثل الشجرة التي لها بذور وأغصان وأوراق وثمار، بذرها التعليم الذي زرعه المعلم في أعماق قلب التلميذ، وأغصانها وأوراقها وثمراتها هي المقامات العلمية التي كانت محط نظر التلميذ؛ فإذا قام التلميذ بسقاية تلك البذور العلمية والأخلاقية بأعماله، فلا شك أنه سيتمتع بثمارها في الوقت المطلوب، أي ستقوم روح المعلم أو روح التلميذ ذاته التي هي في الواقع من رشحات ومظاهر روح المعلم بإيصاله قهرًا إلى ذلك المقام العلمي المطلوب. وباختصار ستُدْخِلُ هذا التلميذَ في إطار المعلم وحريم شفاعته.
أيها القارئ المحترم! لا بد أنك أدركت من هذا المثال معنى شفاعة الأنبياء – المعلمون في مدرسة الإنسانية - وفهمت جيدًا أن شفاعتهم ليست عبثيّةً بل لها عدة أسس و مبادئ، ولها بذور وأغصان وأوراق وثمار؛ فبذرها تلك التعاليم التي جاء بها أولئك الأنبياء مربّو البشر، كل واحد منهم بدوره، وبذروها في قلوب الناس، فالذين ربوا تلك البذور في أعماق قلوبهم بعملهم طبقًا لتعليمات الأنبياء، فلا شك أنهم سيتمتعون في نهاية الأمر بشجرة ذات أغصان وأوراق وبالثمار الناتجة عن المشقات والأتعاب التي تحمّلوها في تربية تلك الشجرة وتنشئتها والتي تمثل الفلاح والنجاح، وسوف يعيشون بلا نهاية في ظلها الوارف.
والخلاصة، إن كل من قرن روحه في هذه الدنيا بأرواح الذوات المقدسة للنبي والأئمة الأطهار وسار على هديهم أي جعل القرآن وسنة النبي والأئمة وسيرتهم نبراس حياته وميزان أعماله فإنه سيصل إلى منزل السعادة الأبدية وفي النهاية سيدخل في حريم شفاعتهم ويحشر معهم:
﴿قُلۡ إِن كُنتُمۡ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِي يُحۡبِبۡكُمُ ٱللَّهُ وَيَغۡفِرۡ لَكُمۡ ذُنُوبَكُمۡۚ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ ٣١﴾ [آل عمران: 31]
وما جاء في الأحاديث المروية من طرق الشيعة والسنة أن «العلماء» أيضًا سيكونون من الشفعاء يؤيد جيدًا هذا المعنى ذاته، لأن العلماء هم في الحقيقة ورثة الأنبياء، إنهم أولئك الذين يعلّمون الناس ما تعلموه من أولئك المعلّمين الإلهيين، وما درسوه من كتاب الله وسنة النبيّ والأئمّة وسيرتهم، وفي النهاية يبذرون بدورهم بذر الشفاعة في قلوب أفراد البشر، فكلّ مَن اتّبع أولئك العلماء وباتّباعهم اتّبع في الحقيقة النبيَّ وعمل بأقواله، وفي النهاية قرن روحه بأرواحهم فلا شك أنه سيدخل في الآخرة في دائرة شفاعتهم ويحشر في زمرتهم.
فهذا معنى شفاعة الأنبياء والأولياء، وهذه هي الشفاعة التي تدفع الإنسان دائمًا إلى العمل والجدّ والاستكثار من الخيرات، بدلاً من جعل الإنسان يتكل على غيره في أمور الدِّين ويستهتر بتعاليمه ويتكاسل في تطبيق شرائعه، وهذه هي الشفاعة التي تجعل الإنسان يعيش دائمًا بين الخوف والرجاء وهو الشعور الوحيد المؤثّر في دفع الإنسان نحو السعي والعمل، وتجعله ينظر بعين الإجلال والتعظيم لشعائر الله وأوامره واحترام أحكامه، وبالنتيجة يرى نفسه أصغر من أن يمكنه يخطو خطوة في طريق معارضتها ومخالفتها، بدلاً من أن يعيش على الأماني الفارغة التي تغريه بالتساهل في انتهاك نواميس الشرع وبارتكاب المعاصي.
وباختصار هذا هو فقط معنى الشفاعة التي توجب سعادة الدنيا والآخرة للمسلم، وليس قيام النبي والأئمة وجماعة آخرين في الآخرة بالشفاعة لأناس لا لشيء إلا لأنهم كانوا يظهرون محبتهم لهم ولكن في الوقت ذاته يستهترون بجميع أحكام دينهم ويعرِّضون أنفسهم لنار جهنم التي ستكون ملازمة لهم لا تنفك عنهم نتيجة عصيانهم اللهَ ورسولَه وتعدِّيهم حدودَه، فينقذونهم من هذا العذاب ويأخذونهم إلى جنات الرضوان التي لا ينالها إلا من اتبع الله ورسوله، لأنه كما قلنا مرارًا إن السعادة والشقاء الأخرويين –طبقًا لحكم الشرع والعقل ونصوص القرآن الكريم الصريحة- رهينان بأعمال الإنسان:
﴿فَٱلۡيَوۡمَ لَا تُظۡلَمُ نَفۡسٞ شَيۡٔٗا وَلَا تُجۡزَوۡنَ إِلَّا مَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ ٥٤﴾ [يس:54]
﴿ٱلۡيَوۡمَ تُجۡزَىٰ كُلُّ نَفۡسِۢ بِمَا كَسَبَتۡۚ لَا ظُلۡمَ ٱلۡيَوۡمَۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلۡحِسَابِ ١٧﴾ [غافر:17] فذلك اليوم تُجزى فيه كل نفس بما اكتسبته وبما عملته، فتنال فيه جزاءَها الذي تستحقه بالضبط، ولا ظلم اليوم: أي لا تُظلم نفس شيئًا فلا يُنقص من ثواب أحد شيئًا ولا يُعاقب شخصٌ زيادةً على ما يستحق»[85].
بهذا البيان الممتاز المفصَّل أعتقد أن وجهة نظر الشيخ «شريعت سنكلجي» وتلميذه ومقرر دروسه الشيخ تنكابني حول حقيقة الشفاعة أصبحت واضحة تمامًا.
[82] رسول جعفريان، جريانها وسازمانهاي مذهبي-سياسي إيران [التيارات والمنظمات الدينية-السياسية في إيران]، ص 1019 - 1020. [83] عبد الوهاب فريد تنكابني، اسلام ورجعت [الإسلام والرجعة]، النسخة الفارسية الأصلية المُعاد تنضيدها والمنشورة في موقع «كتابخانه عقيده»: http://www.aqeedeh.com ، ص 244-246. [84] نور الدين چهاردهي، وهابيت وريشههاى آن [الوهابية وجذورها]، ص 188. [85] عبد الوهاب فريد تنكابني، اسلام ورجعت [الإسلام والرجعة]، ص 246-249.