2- التوحيد في الإدارة والعمل
وهو أن لا يريد الشخص سوى الذات الأحدية المقدسة، ولا يقصد سوى الحقيقة القيوميّة [أي أن لا يتوجه الشخص إلا إلى الله سبحانه وتعالى وحده ولا يقصد غيره]: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡإِنسَٰنُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدۡحٗا فَمُلَٰقِيهِ ٦﴾ [الانشقاق: 6]. وسورة الجحد المثبت (الكافرون) تثبت توحيد الإرادة وتحققه: ﴿قُلۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡكَٰفِرُونَ ١ لَآ أَعۡبُدُ مَا تَعۡبُدُونَ ٢ وَلَآ أَنتُمۡ عَٰبِدُونَ مَآ أَعۡبُدُ ٣ وَلَآ أَنَا۠ عَابِدٞ مَّا عَبَدتُّمۡ ٤ وَلَآ أَنتُمۡ عَٰبِدُونَ مَآ أَعۡبُدُ ٥ لَكُمۡ دِينُكُمۡ وَلِيَ دِينِ ٦﴾ [الكافرون: 1-6] [48].
إن أساس دعوة القرآن هو بيان توحيد الإرادة ووحدة المراد، لأن سبب اختلاف البشر هو اختلاف المراد وتشتت الإرادة، حيث جعل كل شخص لنفسه مراداً، يطلب حوائجه منه، ويدعو الناس إليه [معتقداً أن مراده الخاص له هو الحق]، وأن مراد غيره باطل.
وعندما تتعدَّد المُرادات يقع الاختلاف والنزاع بين المريدين، وسيبقى هذا النزاع ولن يزول ولن يصل الناس إلى الصلح والسداد طالما بقيت هذه المرادات مختلفة، لأن سعادة البشر رهينة اتحاد مُرادهم وتوحيد مَرَامهم وإرادتهم.
ومع الأسف، فإن اختلاف المُرادات الذي يستنتج اختلاف الإرادات، هو السائد بين الناس، بدءاً من الوثنيين الذين جعل كل فرقة منهم صنماً مراداً لهم واخترعوا لأنفسهم رباً: فالتاميليون اتخذ فريق منهم «بوذا» مراده، وآخرون «براهما»؛ واتخذ آخرون موسى[49]، وغيرهم عيسى معبوداً ومُراداً. ﴿وَلَا يَأۡمُرَكُمۡ أَن تَتَّخِذُواْ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةَ وَٱلنَّبِيِّۧنَ أَرۡبَابًاۗ أَيَأۡمُرُكُم ِٱلۡكُفۡرِ بَعۡدَ إِذۡ أَنتُم مُّسۡلِمُونَ ٨٠﴾ [آلعمران: 80].
إن دعوة خاتم النبيين ص، إضافة إلى الإطاحة بجميع الأصنام والأوثان والآلهة، كانت قائمة على وحدة البشر واتحاد مرامهم ومرادهم. لقد دعا النبيص الأممَ المختلفةَ إلى إلهٍ واحدٍ ومراد (معبود) واحدٍ، وجعل الفضيلة والعلم والتقوى قبلة آمال البشر لينالوا السعادة الكبرى. قال تعالى: ﴿يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ تَعَالَوۡاْ إِلَىٰ كَلِمَةٖ سَوَآءِۢ بَيۡنَنَا وَبَيۡنَكُمۡ أَلَّا نَعۡبُدَ إِلَّا ٱللَّهَ وَلَا نُشۡرِكَ بِهِۦ شَيۡٔٗا وَلَا يَتَّخِذَ بَعۡضُنَا بَعۡضًا أَرۡبَابٗا مِّن دُونِ ٱللَّهِ...﴾ [آلعمران: 64].
فهذه الكلمة التي دعا إليها تشتمل على ثلاثة أمور:
أولاً: ﴿أَلَّا نَعۡبُدَ إِلَّا ٱللَّهَ﴾ وهذا تعريض باليهود الذين عبدوا عُزَيْراً وبالنصارى الذين عبدوا عيسى.
ثانياً: ﴿وَلَا نُشۡرِكَ بِهِۦ شَيۡٔٗا﴾ أي لا نشرك مع الله معبوداً آخر بأي قسم من أقسام [العبادة] والشرك.
ثالثاً: ﴿وَلَا يَتَّخِذَ بَعۡضُنَا بَعۡضًا أَرۡبَابٗا مِّن دُونِ ٱللَّهِ﴾، وصورة اتخاذ الأرباب عند النصارى، أنهم كانوا يسجدون لأحبارهم، ويعتقدون أنه بفضل ممارسة الرياضة الروحية ظهر فيهم أثر حلول اللاهوت؛ وأما اتخاذ الأرباب عند اليهود، فإنهم كانوا يطيعون أحبارهم في التحليل والتحريم[50].
لماذا يجب أن يكون مراد البشر مراداً واحداً، وهي الذات الربوبية تبارك وتعالى؟ لأنه لو كان مراد البشر كائناً ممكناً وحادثاً، فإن هذا الكائن الحادث لا بقاء له بل سيؤول بالضرورة إلى الزوال والفناء، فإذا فني المراد وانعدم ماتت الإرادة وانهارت. والإرادة التي تتجه كل يوم إلى مراد جديد لن تكون قوية أبداً. هذا في حين أن سعادة الدنيا والآخرة هي نصيب أصحاب الإرادات القوية.
إن الإسلام والقرآن يحثان على تحصيل العلم وتقوية الإرادة، ولا سبيل لتقوية الإرادة إلا أن يكون مراد الإنسان موجوداً حياً لا يموت، لا يَفنى ولا يزول، [وهو الله جلّ جلاله]. ﴿ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلۡحَيُّ ٱلۡقَيُّومُۚ لَا تَأۡخُذُهُۥ سِنَةٞ وَلَا نَوۡمٞۚ لَّهُۥ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِ﴾ [البقرة: 255].
لقد مدح الله تعالى الرجال الذين يقصدون الحيَّ الذي لا يموت، فقال: ﴿وَلَا تَطۡرُدِ ٱلَّذِينَ يَدۡعُونَ رَبَّهُم بِٱلۡغَدَوٰةِ وَٱلۡعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجۡهَهُۥ﴾ [الأنعام: 52].
وقال تعالى في حق النبي ص في مقام آخر: ﴿وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُۥ مِن نِّعۡمَةٖ تُجۡزَىٰٓ[51] ١٩ إِلَّا ٱبۡتِغَآءَ وَجۡهِ رَبِّهِ ٱلۡأَعۡلَىٰ ٢٠ وَلَسَوۡفَ يَرۡضَىٰ ٢١﴾ [اللیل: 19-21].
وخلاصة الكلام، أن الإرادة إذا تعلقت بالمراد الحقيقي الذي هو الله تعالى الباقي الذي لا يزول، بحيث لا يكون للإنسان مقصودٌ سواه، فإن هذه الإرادة تستطيع أن تقتلع الجبال، وصاحبها ينعم بالسعادة الدائمة والهناء، ولازم هذه الإرادة هو إخلاص الدين لله رب العالمين. ﴿وَمَآ أُمِرُوٓاْ إِلَّا لِيَعۡبُدُواْ ٱللَّهَ مُخۡلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ﴾ [البینة: 5].
[48] قال أبو مسلم بن بحر الأصفهاني في تفسير هذه الآية: «إن المقصود من الأولين: المعبود، و(ما) بمعنى (الذي)، فكأنه قال: لا أعبد الأصنام ولا تعبدون الله، وأما في الأخيرين فـ(ما) مع الفعل في تأويل المصدر، أي لا أعبد عبادتكم المبنية على الشرك وترك النظر ولا أنتم تعبدون عبادتي المبنية على اليقين». (شريعت) [49] لم يُعْرَف عن قوم موسى أنهم عبدوه أو ألَّهُوه، كما فعل النصارى بحق عيسى، نعم عبد بعض قوم موسى العجل، وانحرف بعضهم عن التوحيد وقالوا عزير ابن الله. [المصحح] [50] المروي في كتب التفسير والحديث هو تفسير النبي ص لاتخاذ النصارى بعضهم أرباباً أنهم كانوا يطيعون أحبارهم طاعة الأرباب. عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ ص.... فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: ﴿ٱتَّخَذُوٓاْ أَحۡبَارَهُمۡ وَرُهۡبَٰنَهُمۡ أَرۡبَابٗا مِّن دُونِ ٱللَّهِ...﴾ [التوبة: 31]. قَالَ: قُلْتَ: يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَهُمْ. قَالَ: «أَجَلْ، وَلَكِنْ يُحِلُّونَ لَهُمْ مَا حَرَّمَ اللهُ فَيَسْتَحِلُّونَهُ، وَيُحَرِّمُونَ عَلَيْهِمْ مَا أَحَلَّ اللهُ، فَيُحَرِّمُونَهُ، فَتِلْكَ عِبَادَتُهُمْ لَهُمْ». [رواه الترمذي في سننه (3095) والبيهقي في سننه الكبرى (20847)]. ويقول الطبرسي مثلا في تفسيره «مجمع البيان» مفسِّراً الآية المذكورة: «ورُوي عن أبي عبد الله أنه قال: ما عبدوهم من دون الله ولكن حرَّموا لهم حلالاً وأحلُّوا لهم حراماً، فكان ذلك اتخاذهم أرباباً من دون الله». [المُصحح] [51] أي ليس لأحد حق عليه حتى يكون قصده من إعطاء المال أداء حق الناس. (شريعت)