زيارة قبور المؤمنين
تهدف الأخبار المذكورة إلى سد باب الوثنية، كي لا يعبد الناس القبور. أما زيارة قبور المؤمنين فلا حرج فيها بل الزائر مأجور عند الله، فقد وردت أحاديث كثيرة في فضل زيارة القبور، خاصة قبرَي الوالدين.
وفي مثل هذه الزيارة، فائدتان:
الأولى: فائدة تَعُمّ الميت والزائر، حيث يسلم الزائر على الميت ويسأل الله تعالى لصاحب القبر الرحمة والغفران ورفع المنزلة والدرجات. وهذا الدعاء والاستغفار بمنزلة صلاة الجنازة على الميت، فينال الداعي أجرها. وفيما يلي [بيان بعض أحكام] الزيارة الشرعية:
فقد قال رسول الله ص لأصحابه، إذا زرتم المقابر فقولوا: «السَّلامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ دِيَارِ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لاحِقُونَ. يَرْحَمُ اللَّهُ الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَالْمُسْتَأْخِرِين[203]، نَسْأَلُ اللهَ لَنَا وَلَكُمْ العَافِيَةَ، اللَّهُمَّ لا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُمْ وَلا تَفْتِنَّا بَعْدَهُمْ»[204].
روي عن الرسول الأكرم ص أنه قال: «ما مِنْ أحدٍ يَمُرُّ بقبرِ أخيه المُسْلمِ، كان يعرفه في الدنيا، فيُسَلِّمَ عليه، إلا ردَّ اللهُ عليهِ رُوْحَهُ، حتَّى يَرُدَّ عليه السلامَ»[205]. والله يثيب المؤمن الذي يدعو للميت كما يثيب من يصلي عليه صلاة الجنازة. ولهذا، نهى الله تعالى عن زيارة قبور المنافقين. قال تعالى: ﴿وَلَا تُصَلِّ عَلَىٰٓ أَحَدٖ مِّنۡهُم مَّاتَ أَبَدٗا وَلَا تَقُمۡ عَلَىٰ قَبۡرِهِۦٓۖ إِنَّهُمۡ كَفَرُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَمَاتُواْ وَهُمۡ فَٰسِقُونَ ٨٤﴾ [التوبة: 84].
وعلى هذا، فلا يجوز طلب الحوائج من الأموات عند زيارة قبورهم أو التوسل بهم بل يجب أن يُسأل اللهُ لهم الرحمة والمغفرة ليكون ذلك فيضاً من الزائر لصاحب القبر.
الفائدة الثانية: الذكرى والعبرة التي تحصل للزائر الذي يشاهد كيف أنه قد دُفن في هذه المقبرة من الشباب اليافع الجميل، والرجال العظماء والأغنياء البخلاء والظالمين والعلماء والفلاسفة والسلاطين الذين كان لكل واحد منهم آماله وأمانيه التي ذهبت معه في التراب؛ ويرى كيف أن التراب قد ساوى بين الغني والفقير والعالم والجاهل والملك والفقير، فعندما ينظر إلى الأموات ويفكر في وضعهم الحالي يدرك أن الدنيا العجوز التي هي عروس لآلاف البشر لا تفي لأحد، فعندئذ تقلّ همّه وغمّه، ويرتاح باله، وينسى آماله وتحصل له السكينة والصبر، ولسان حاله يقول: يا أخي! لا الحاسد يبقى ولا المحسود.
يقول الخواجة عبد الله[206]:انظر إلى المقبرة ولا تكن كالسكارى من الغافلين، كي ترى كيف ضمت المقابر والمزارات مئات الألوف من أصحاب النعم والجاه الذين اجتهدوا وسعوا وغدوا في نار الحرص والأهواء، ولبسوا القلانس المرصعة بالمجوهرات وجلسوا على موائد النعم وملؤوا الجرار من الذهب والفضة، وجمعوا المال بشتّى الحيل، ولكنهم ماتوا وذهبوا بالحسرات بعد أن ملؤوا المخازن وغرسوا بذور حُب الدنيا في قلوبهم، فتركوها في النهاية ورحلوا عنها ثم أُدخلوا من باب الموت وأُشربوا من كأسه على يد ساقي الأجل.
أيها العزيز، فكّر في الموت وجدّ بالعمل قبل أجله، وإلا ويلك من جهنم، واعلم أن أصحاب التراب يلتسمون دعاءك ويقولون بلسان حالهم: أيها الشباب الغافلون والشيوخ الذين أضاعوا عمرهم، إنكم مجانين لا تدركون أننا نائمون في التراب، قد غطت وجوهَنا الأكفان، سرعان ما نسينا أهل الدنيا، نحن أيضاً كنا قبلكم نسير على بساط الدنيا الغَرُور بكل سرور، ونِمْنا على أبهى الأسرة بالراحة والهناء، وكنا نسعى نحو الكمال بأقدام الإرادة، وفي النهاية ذقنا تلك الشربة المرّة (شربة الموت)، فلم نرَ من الدنيا وفاءً ولا للحياة بقاء، بل رأينا أنفسنا فجأة قد قذف بنا إلى الفناء وإلى في تراب المحن والعناء، فلم نر من الأهل والعيال رحمة، ولا من المال والمنال منفعة، وكنا سنقنع بهذه الندامة لو لم تكن أمامنا القيامة. والآن ليس لنا دار ولا فراش، لا مال ولا قماش، ولا وسيلة لخطاب أو نداء، ولا إمكانية لصوت أو كلام، حظنا من الدنيا الحرمان، ولحمنا وجلدنا طعمة للديدان.
واحسرتاه! عندما كانت لدينا إمكانية الفعل والاختيار لم نميز الأمور ولم ندرك الحقيقة فآل أمرنا في النهاية إلى الحيرة والضيق وأسلمنا الروح....
إن كنتم عقلاء فانظروا إلى حالنا الآن.. كل واحد منا يبكي وينوح ويسكب دموع الحسرة على ما قدمته يداه وقد غطته ظلمات، ظلمة الندامة وفوقها ظلمة القبر...
أيها الأحبة! أقبلوا إلى الطريق وانظروا حالنا، لم يعد لنا ذكر ولا لاسمنا خبر، قد تحللت أجزاء أجسامنا وفسدت أبداننا، وخربت بيوتنا وكسدت متاجرنا، وحل محلنا الآخرون وضاع أيتامنا، قد أكل التراب خدودنا، وذبلت ورود وجوهنا، واختلطت شفاهنا بالتراب، وتساقطت أسنانا في اللحد، وسكتت ألسنتنا عن النطق، وتكممت أفواهنا، وفسد نظام جميع أعضائنا، وخبت نيران حرصنا، وطار طائر روحنا من رؤوسنا، ونبتت نبتة الحسرة من تربتنا، فنحن في الأرض المظلمة وأنتم في نوم الغفلة، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُولِي الأَلبَاب. انتهى.
وخلاصة الكلام، أن في زيارة القبور موعظة كبيرة للإنسان، قال رسول الله ص: «كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ، ألاَ فَزُورُوهَا فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الآخِرَةَ»[207].
وكان رسول الله ص قد نهى في البداية عن زيارة القبور، سداً لذريعة عبادة القبور، وحفظاً لحريم التوحيد، فلما انتشر الوعي بين الناس وعرفوا أنه لا يجوز طلب الحوائج من القبور ولا عبادتها، وتمكن التوحيد فى قلوبهم، فعندئذ أذن لهم فى زيارتها، وبين لهم الحكمة والغاية من زيارة القبور، وهي التذكر بيوم القيامة. قال رسول الله ص: «زُورُوا القُبُورَ، فَإِنّهَا تذكرُ المَوْتَ»[208].
[203] رُويَ عن الإمام الصادق كما في «الكافي» للشيخ الكُلَيْنِيّ، (3 / 229)، وفي «من لا يحضره الفقيه» للشيخ الصدوق، (1 /178-179)، ح رقم (533). ولفظه: «وَسَأَلَ جَرَّاحٌ الْمَدَائِنِيُّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (ع): كَيْفَ التَّسْلِيمُ عَلَى أَهْلِ الْقُبُورِ؟ فَقَالَ: تَقِفُ وَتَقُولُ: السَّلامُ عَلَى أَهْلِ الدِّيَارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ، رَحِمَ اللَّهُ الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَالْمُسْتَأْخِرِينَ وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لاحِقُونَ. وقال الصدوق: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم إِذَا مَرَّ عَلَى الْقُبُورِ قَالَ: السَّلامُ عَلَيْكُمْ مِنْ دِيَارِ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لاحِقُون». [المصحح] [204] رواه ابن ماجه في سننه ضمن حديثين كل حديث فيه بعض الجمل المذكورة دون غيرها وهما برقم (1546) وَ(1547) وليس في أي منهما جملة (يَرْحَمُ اللَّهُ الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَالْمُسْتَأْخِرِين)، ورويت أجزاء منه في موطأ مالك ح(58) وصحيح مسلم ح(249) وَ(974)، وسنن أبي داود (3239)، ومسند أحمد (6/71 وَ6/111) بسنده عن عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال نحو ذلك في زيارته لأهل البقيع. [المصحح] [205] رواه الحافظ ابن عبد البر القرطبي (463هـ) في كتابه «الاستذكار» [بيروت، دار الكتب العلمية، (1/185)] بسنده عن ابن عباس... بألفاظ مقاربة، وذكره بهذا اللفظ، الحافظ ابن كثير في تفسيره (6/325) وعزاه إلى الحافظ ابن عبد البر وصححه. [المصحح] [206] هو الشيخ أبو إسماعيل عبد الله بن محمد بن علي الأنصاري الهروي، ولد بهراة أفغانستان، عام 396هـ وتوفي ودفن بها في عام 481هـ، شيخ بلاد خراسان في عصره. من كبار الحنابلة ، من ذرية أبي أيوب الانصاري. كان بارعاً في اللغة، حافظا للحديث، عارفاً بالتاريخ والأنساب. مظهراً للسنة داعياً إليها. من كتبه: «ذم الكلام وأهله- خ» و «الفاروق في الصفات» وكتاب «الأربعين» في التوحيد، و«الأربعين» في السنة، و«منازل السائرين - ط» و «سيرة الإمام أحمد بن حنبل» في مجلد. والمناجاة (بالفارسية). انظر: الأعلام للزركلي. [المصحح] [207] علل الشرائع، للشيخ الصدوق (2/439)، و وسائل الشيعة، للحر العاملي، ( 14/170)، دون الجملة الأخيرة «فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الآخِرَةَ»، بحار الأنوار (63/498) بجملة: «فزيارتها تذكرةٌ»، والمعتبر للحلي (1/339)، والحدائق الناضرة للبحراني (10/21). وفي مصادر السنة روى نحوه مسلم في صحيحه (1977) والترمذي في سننه (1054) وابن ماجه في سننه (1571) وغيرهم. [المصحح] [208] أخرجه مسلم في صحيحه (ح 976) مطولاً، والحاكم في «المستدرك»، كتاب الجنائز، (1/375-376). وانظر: ذكرى الشيعة 2/62. [المصحح]