زيارة قبر الرسول الأكرم والأئمة الهادين سلام الله عليهم أجمعين
قد وردت أخبار كثيرة في فضل زيارتهم في كتب الفريقين عن المعصومين، أن زيارتهم مملوءة بما ينفع في الدارين، وأن فيها أسراراً كثيرة لا تتسع لذكرها هذه الرسالة، سأختصرها بما يلي:
أولاً: إن لزيارة الرسول الأكرم والأئمة سلام الله عليهم أجمعين في حال حياتهم أجر جزيل للزائرين، فكذلك لزيارتهم بعد وفاتهم ثوابٌ جزيل، كما رُوي عن الرسول الأكرم ص أنه قال: «ما مِنْ أحدٍ يَمُرُّ بقبرِ أخيه المُسْلمِ، كان يعرفه في الدنيا، فيُسَلِّمَ عليه، إلا ردَّ اللهُ عليهِ رُوْحَهُ، حتَّى يَرُدَّ عليه السلامَ»[209]. فإذا كان الميت المؤمن يرد سلام الزائر فكيف يمكننا أن نتصور أن سلام زائر قبر النبي والأئمة الهادين يبقى بلا جواب منهم[210]. أشْهَدُ أنَّكَ تَسْمَعُ كَلامِي وَتَرُدُّ جَوَابِي.
ثانياً: أن تلك البقاع المباركة محلٌ عناية الله تعالى ونظره وموضع نـزول الرحمة، فدعاء الداعين فيها جدير بسرعة الإجابة، خاصَّة عند قبر أبي عبد الله [الحسين بن علي] فإن إجابة الدعاء تحت قبَّته[211].
الثالث: ومن أسرار زيارة قبر الرسول ص والأئمة الهداة سلام الله عليهم أجمعين أنه إذا ورد الإنسان على تلك البقاع المباركة، حلَّت في قلبه سلسلة من الفضائل ومكارم الأخلاق، لأن الشخص الزائر يتذكر في نفسه التضحيات والخدمات التي قدَّمها للبشرية أولئك الأجلاء، ويتذكر الزائر وهو إلى جوار صاحب القبر تاريخه الوضاء المليء بالفخار، ولا ريب أن هذا التذكُّر والتدبُّر في سيرة صاحب القبر يبعثان في الزائر روح التأسي به، وكأن صاحب القبر يقول لزائره: لقد كُنْتُ شخصاً موحداً.. لم أشرك بعبادة الله أحداً ولم أعتبر أحداً سوى الله قاضياً للحاجات ومفرِّجاً للكُرَبات، ولم أتوسل بأحد من عباده، وكنت عفيفاً شجاعاً تقياً مضحياً، ولم أخش في قول الحق لومة لائم، فأمرتُ بالمعروف ونهيت عن المنكر، فزيارتك مقبولة إذا تأسيت بي، وتحليت بالشمائل الكريمة والصفات الكاملة والملكات الفاضلة.
أجل، إذا دققنا في الأمر رأينا أن كل بقعة من تلك البقاع المباركة مدرسة للتربية والتعليم، وهذا هو لبّ الزيارة ومقصودها الأعظم لا كما يتصوره العوام.
وأنا شخصياً لمّا تشرفت بزيارة قبر الرسول الأكرم ص ووُفقت لزيارة تلك العتبة المقدسة، ولمّا رأيت نفسي محاذياً للضريح المقدس، هجمتْ عليَّ سلسلة من الخواطر وأخذتني عظمة رسول الله ص، وكأن تياراً كهربائياً خرج من القبر المقدس فمسّ قلبي، فكأني برسولالله ص يتلو كتاب الله بصوته الجميل ولحنه العذب، ومرّ أمام ناظري أحداث سيرة هذه الشخصية العظيمة مروراً سريعاً كالبرق، فتذكرتُ أيام غُربته وظلم أولئك الوحوش وآذائهم له، وعظيم صبره وحلمه وحسن خلقه، فقلّبتْ تلك الخواطر كياني وهزتني، وحاولت أن أقول: السَّلامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّـهِ، السَّلامُ عَلَيْكَ يَا صَاحِبَ السَّكينَة، فانغلق لساني ولم أستطع أن أقول شيئاً، وأخذ قلبي يخفق، وغلبتني حالة لا أقدر أن أشرحها.. وفي تلك اللحظات، رأيت الشخص المسؤول عند القبر الشريف وقد انتبه إلى حالي فأخذ بيدي وأقعدني في زاوية وقال: شيخنا تفضل...
وخلاصة الكلام أن لزيارة قبور النبيّ والأئمة خواصاً قلّما يدركها الناس.
اللهُمَّ ارْزُقْنَا حَجَّ بَيْتِكَ الحَرام، وَزِيَارَةَ قَبْرِ نَبِيِّكَ والأئمة الطاهرين، بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.[212][209] سبق تخريجه. [210] عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَا مِنْ مُسْلمٍ يُسَلِّمُ عَلَىَّ إِلاَّ رَدَّ اللَّهُ عَلَىَّ رُوحِى حَتَّى أَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلاَمَ». رواه أبو داود في سننه (1/319) وأحمد في مسنده (2/227) وقال النووي: إسناده صحيح (رياض الصاحين ح 1409) وقال الألباني في صحيح الجامع الصغير (5679): حسن. [المترجم] [211] الأصل أن لا نثبت خاصية استجابة الدعاء لأي موضع إلا بدليل شرعي صحيح، لأن هذا من الأمور التوقيفية التي لا تثبت بالعقل، وقد ثبت الدليل في تعيين بعض الأماكن وبعض الأزمان بأنها مظانّ الاستجابة، كثلث الأخير من الليل، والملتزم -بين الحجر الأسود وباب الكعبة- وغيرها، ولم يثبت دليل من القرآن والسنة الصحيحة على تعيين أي قبر بأنه موضع استجابة الدعاء. ولتوضيح الأمر أكثر، نقول: الدعاء عند قبور الصالحين قد يحصل اتفاقاً كمن يزور قبر مسلم فيسلم عليه ويدعو لنفسه وللميت، فهذا مشروع، وقد يقع بقصد وتحري بحيث يقصد الإنسان الذهاب إلى قبر معين ليدعو عنده ويطلب حاجاته اعتقاداً ببركة الموضع وأن الدعاء هناك مستجاب. فهذا لم يرد فيه أي نص شرعي معتبر، بل هو منهي عنه، لأنه ذريعة إلى عبادة صاحب القبر، كما أنه نوع من اتخاذ القبور مساجد. وعبادة القبور الآن بين أدعياء الإسلام قد نشأ وتطور عن مثل هذه الزيارة وعن ذلك الاعتقاد. [المحقق] [212] راجع الهامش الرابع، ص164.