توحيد العبادة

فهرس الكتاب

[قواعد مهمة بشأن الأسباب والـمُسَبَّبات]

[قواعد مهمة بشأن الأسباب والـمُسَبَّبات]

ولكن ثمَّة أمور مهمة ينبغي أن نعلمها بشأن الأسباب والـمُسَبَّبات:

أولاً: إن الأسباب ليست علة تامة[185] تستقل بإحداث المُسَبَّبات، ولا هي الفاعلُ الحقيقي لها، فكل ما تراه من الأسباب هو مقتضيات ومُعَدَّات؛ والفرق بين العلة والمُعدّ، أن العلة تمنح الوجود وتعطيه، أي إذا وجدت العلة يوجد المعلول بالضرورة والبداهة، كما أنه إذا انعدمت العلة انعدم المعلول تلقائياً، وأما الأمر المُـعَدُّ، فلا يوجد المعلول بوجوده كما لا ينعدم المعلول بانعدامه، وذلك مثل وجود الأب بالنسبة إلى الابن، فوجود الأب ليس علَّةً تامَّةً لوجود الابن بل لا بد أن تجتمع شروط أخرى أيضاً، مثل وجود الأم وسلامة نطفة الأب ورحم الأم وانعدام موانع أخرى ووجود ظروف ملائمة مثل الهواء والماء والمواد الغذائية التي يجب أن تأكلها الأم، فإذا وجدت هذه الشروط، وزالت الموانع، وُجِدَ الولدُ عندئذٍ. إذن الأب ليس علَّةً تامَّةً بل هو سببٌ ومُعَدٌّ وبذهاب الأب لا ينعدم الابن. قال تعالى: ﴿أَفَرَءَيۡتُم مَّا تُمۡنُونَ ٥٨ ءَأَنتُمۡ تَخۡلُقُونَهُۥٓ أَمۡ نَحۡنُ ٱلۡخَٰلِقُونَ ٥٩ [الواقعة: 58-59]. ﴿أَفَرَءَيۡتُم مَّا تَحۡرُثُونَ ٦٣ ءَأَنتُمۡ تَزۡرَعُونَهُۥٓ أَمۡ نَحۡنُ ٱلزَّٰرِعُونَ ٦٤ [الواقعة: 63-64]. ﴿أَفَرَءَيۡتُمُ ٱلۡمَآءَ ٱلَّذِي تَشۡرَبُونَ ٦٨ ءَأَنتُمۡ أَنزَلۡتُمُوهُ مِنَ ٱلۡمُزۡنِ أَمۡ نَحۡنُ ٱلۡمُنزِلُونَ ٦٩ [الواقعة: 68- 69]. ﴿أَفَرَءَيۡتُمُ ٱلنَّارَ ٱلَّتِي تُورُونَ ٧١ ءَأَنتُمۡ أَنشَأۡتُمۡ شَجَرَتَهَآ أَمۡ نَحۡنُ ٱلۡمُنشِ‍ُٔونَ ٧٢ [الواقعة: 71-72].

فالعلة الحقيقية هي الله تعالى، إذا رفع عنايته عن العالم لحظةً عاد العالم فوراً إلى عدمه الأزلي. ﴿لَا تَأۡخُذُهُۥ سِنَةٞ وَلَا نَوۡمٞۚ [البقرة: 255].

فبناء على ما تقدم، فإن السبب المعين غير مستقل في تحصيل المطلوب، بل لا بد من ضم أسباب أخرى له، ورفع الموانع، حتى يتحقق المطلوب.

ينبغي للشخص الموحّد أن يعتقد بأن الأسباب ليست مؤثرة بذاتها، كما ينبغي له أن لا يعطل الأسباب، بل مع أخذه بالأسباب وتمسكه بها يعتقد بأن مسبِّبَ الأسباب هو الفاعل الحقيقي.

هناك فرقٌ بين تعطيل الأسباب وخلع الأسباب. والموحِّدُ يخلع الأسباب ويعتبر الله تعالى وحده مسبِّبَ الأسباب، ولكنه يأخذ بالأسباب بقدر استطاعته. أما المشرك، فعينه على السبب فقط وينسى الـمُسَبِّبِ، ولقد خلق الله تعالى الأسباب بغاية الإتقان إلى درجة خفي فيها مسبِّبُ الأسباب الحقيقي عن أعين الناس.

فما جاء في القرآن الكريم من إثبات الأسباب في بعض الآيات، ونفيها في بعض الآيات الأخرى، إنما يشير إلى هذا المعنى الذي ذكرناه، من أن الأسباب ليست مستقلَّة.

والناس – إضافة إلى ما عندهم من الشركيات-، فقد ابتلوا أيضاً بشرك الأسباب، فأصبحوا يعتقدون أن كل سبب ضعيف قاضٍ للحاجات:

[قال جلال الدين الرومي في المثنوي:]

«وإني لحائر من قولك بالأسباب، وكما أنني كالسوفسطائية [في خيالاتي لست متحققاً شيئاً] من إلغائك للأسباب.

أريد بصيرة نفاذة فيما وراء الأسباب، حتى تقتلع تأثير الأسباب من الجذور

حتى تبصر المُسبِّبَ في اللامكان، وترى الجهد والكسب والتجارة لغواً بلا تأثير

كل خير وشرٍّ يأتي من المُسَبِّب، فليـس للأسـباب والوسـائط أي تأثير»[186].

ثانياً: هناك بين السبب والمسَبَّب مناسبةٌ وعلاقةٌ خاصةٌّ وليس كل سببٍ يصح أن يكون علَّةً لأيِّ مُسَبَّب. فينبغي أن تكون ثمة خصوصية وعلاقة بين العلة والمعلول، والسبَب والمُسبَّب، وإذا لم نقل بالخصوصية والمناسبة بين السبب والمسبَّب لزم من ذلك الهرج والمرج في نظام العلل والمعلولات فيصبح أي شيء علة لأي شيء دون مناسبة. [وهذا باطل]. فمثلاً، توجد مناسبة بين النار والإحراق، فلا يمكن أن تكون النار سبباً للبَلَل. وبفضل هذه الواسطة والعلاقة الخاصة بين الموجودات، يستطيع الإنسان أن يعلم الموجودات ويحقق الحقائق، وإذا لم تكن هناك علاقة ومناسبة بين الأشياء لامتنع التعليل والاستدلال. فلا يمكن لشيء أن يكون علة لشيء آخر دون مناسبة وخصوصية، فما لم نجد طريق المناسبة والخصوصية لا يجوز أن نحكم بالسببية.

وهناك طريقان للحكم بسببيّة شيء لشيء:

الأول: التجربة. مثلاً، إذا قمنا بتجربة إشعال النار وكررناها، فرأينا أنها تحرق غالباً، حكمنا بأن النار محرقة. وطريقة التجربة طريقة صحيحة في الإثبات، وقد حققت البشرية التقدم والرقي في الماديات من خلال هذه الطريقة.

الثاني: الوحي. أحياناً لا تؤدي التجربة إلى كشف السبب، فهنا لا بد من الاعتماد على الوحي حتى يبين وجود هذه السببية. فمثلاً، جاء الوحي ليبين أن الأعمال الصالحة سبب للسعادة الأخروية، وأن الأعمال السيئة سبب للشقاء الأخروي.

وبهذا نعلم أن لكشف السببية طريقان: التجربة والوحي.

وكثيراً ما يخطيء الإنسان في تعيين سببية بعض الأشياء لبعضها الآخر، فيجعل أمراً ما سبباً لأمر آخر مع أنه ليس سبباً له في الواقع، ولا دليل لديه على كونه سبباً لا من تجربة ولا من وحي، وذلك كأن يقول إن العطسة علامة للصبر، وأن عدد الثلاثة عشر نحس.

***

والحاصل إن هناك خطآن يقع بهما الناس في مسألة السببية:

الخطأ الأول: أن يتصور الإنسان أن شيئاً من أسباب العالم علةٌ تامةٌ، ولا ينتبه إلى أنه ما لم تتعلق مشيئة الله تعالى بذلك السبب، فلا يمكن أن يكون له أي تأثير. «يظن الإنسان أن قَرْيَتَهُ ترزقه، وينسى أن الرزَّاق هو الذي يرزقه»[187] هنا مكمن لنشأة الشك والإلحاد في الدين: فالمعلِّمون الجهلاء يقولون لأتباعهم إن الدعاء الفلاني أو النذر الفلاني علة تامة لقضاء الحاجة الفلانية، فيدعو الشخص بذلك الدعاء أو يقدم ذلك النذر ولا يحصل على النتيجة المطلوبة، فينشأ في نفسه الشك وفساد العقيدة تجاه الدين، ويتصور أن الدعاء والنذر ليست سوى أكاذيب ولا أثر لها مطلقاً، ويغفل عن أن الدعاء والنذر ليسا علة تامة بل هما «مُعَد».

الخطأ الثاني: هو في فهم السببية والتناسب بين العلة والمعلول، فيظن الناس الغافلون أن أي شيء يمكنه أن يكون علة لأي شيء.

وهذا الخطأ سبب لنشأة الخرافات، مثلاً يظن البعض أن نعل الفرس سبب لتوسعة الرزق، وأن خاتم العقيق دافعٌ للبلايا، وأن قدر سمنو (نوع طعام) شافٍ، وأن الشيء الفلاني علامة للسعد والشيء الآخر علامة للنحس. ومثل هذه العقائد، إضافة لكونها شرك بالله، سبب لانحطاط العقل وحيرة الفكر. والمسكين الذي ينطلق من هذه العقائد، يخاف من كل شيء ويتشبَّث بكل وهم ويتمسَّك دائماً بأسباب وهمية، فقد أغلق على نفسه باب الاستدلال العقلي، فهو تائه متحير، لا يدري ماذا يفعل، وأين يلتجئ، يهزُّه كل ريح ويصاحب كل باطل ويعتقد كل يوم بشخص. ﴿صُمُّۢ بُكۡمٌ عُمۡيٞ فَهُمۡ لَا يَرۡجِعُونَ ١٨ [البقرة: 18]

[185] العلة التامة: ما يجب وجود المعلول عندها، وقيل: العلة التامة جملة ما يتوقف عليه الشيء، وقيل: هي تمام ما يتوقف عليه وجود الشيء بمعنى أنه لا يكون وراءه شيء يتوقف عليه. (انظر: التعريفات للجرجاني ص154). [المترجم] [186] از سبب سـازیت من سـودائیم و ز سبب سوزیت سوفسطائیم دیده‌ای خواهم سبب سوراخ كن تا سـبب را بركَنَد از بیخ و بُـن تا مسـبب بیـنَد اندر لا مكان هرزه بیند جهد و اكساب دكان از مسبب می‌رسد هر خیر و شـر نیست اسباب و وسایط را اثـر [187] خواجه پندارد كه روزی دِه دهد او نپندارد كه روزیده دهد