التوحيد مبدأ الفضائل
قال الله تعالى: «كلمةُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ حِصْنِي فَمَنْ دَخَلَ حِصْنِي أَمِنَ مِنْ عَذَابِي»[221].
إذا طالعتم صفحات هذا الكتاب بدقة أدركتم أن حقيقة التوحيد هي الإعراض عن غير الله والابتعاد عما سواه، وتبين لكم أن لبّ التوحيد هو عدم طلب الحوائج وذبح القرابين أو السجود أو الركوع لغير الله تعالى، وفهمتم أيضاً أن مقصد التوحيد أن لا يعتقد الموحد أن للأيام سعداً أو نحساً وأن لا يتوسل إلى الله بأي وسيلة سوى العلم والعمل الصالح. وخلاصة الكلام، أن التوحيد هو التفطن إلى حقيقة كلمة لا إله إلا الله.
ليس هناك فرق كبير بين المسلمين في هذا العصر وبين مشركي الجاهلية، سوى أن المشركين في عصر النبي ص كانوا أهل اللغة العربية ويفهمون بقريحتهم معنى كلمة «لا إِلَهَ إِلا الله»، أما المشركين من أهل اللغة الفارسية، فإنهم لعدم معرفتهم باللغة العربية لا يفهمون معنى هذه الكلمة. والدليل على ذلك، أن النبي ص لما قال: «قُولُوا: لاَ إِلَهَ إِلَّا الله تُفْلِحُوا» علم مشركوا ذلك العصر بعد ما سمعوا هذه الكلمة أن تصديقهم بهذه الكلمة يوجب عليهم أن يبتعدوا عمَّا سوى الله، وأن لا يطوفوا حول الأصنام ولا يعبدوا الملائكة، وأن لا يعتقدوا في عيسى أنه ابن الله، وأنه قاضٍ للحاجات، وأن لا يعتبروا مريم باب الحوائج، وأن يعتقدوا بأن سعد الكواكب ونحسها عقيدة باطلة، وفي النهاية أن تلك الكلمة تلزمهم أن ينبذوا الأصنام، ويحطموا تلك الأحجار التي كانوا يذبحون عندها القرابين ويقدِّسونها، وعلموا أن عليهم أن يحرقوا تلك الأشجار التي كانوا ينذرون لها النذور وينحرون لها القرابين، وأن يعرضوا عن الأحبار والرهبان الذين كانوا يعتبرون التقرب إليهم تقرباً إلى الله زلفى، وأن يكفروا بالطاغوت، أي الكهنة وسدنة معابد الأصنام. وباختصار، كان عليهم أن لا يعتبروا أحداً سوى خالق العالم مؤثراً في هذا الوجود.
ومن البديهي أنه كان لكل من تلك الأصنام والأحجار سدنة يستفيدون من عبادة الناس لها ويسترزقون مما يقدمه الناس لها من نذور وصدقات. فكانت عزتهم مرتبطة بتلك الأصنام فإذا زالت انقطع خبزهم وذهبت مكانتهم وانهدمت حياتهم وصاروا إلى عناء وشقاء، لذا لا عجب أن يرفضوا قول كلمة التوحيد تلك، وأن يكذّبوا النبي ص، رغم أن الرسول الأكرم كان يقول لهم: «أمرت أن أقاتلكم حتى تقولوا لا إله إلا الله».
في الواقع لقد كان التصديق بتلك الكلمة، معناه استئصال الخرافات وانهدام معابد الأصنام وزوال الأوهام وجميع العقائد الشركية، فلهذا لم يستطع المشركون أن يتحملوا هذا المعنى، فقالوا: ﴿أَجَعَلَ ٱلۡأٓلِهَةَ إِلَٰهٗا وَٰحِدًاۖ إِنَّ هَٰذَا لَشَيۡءٌ عُجَابٞ ٥﴾ [ص: 5]
كان أهل الجاهلية فئتين:
1- الأولى: فئة العوام الذين لم يكن لهم رأي ولا تفكير بل هم همج رعاع، أتباع كل ناعق، يحرّكهم كل ريح ويلعب بهم كل كاهن ودجال.
2- الفئة الثانية: هم الكهنة وسدنة معابد الأصنام وأحبار اليهود والنصارى الذين كانوا دائماً وفي جميع العصور يستفيدون من جهل الناس وسيطرة الأوهام عليهم ويسترزقون من ضعف الجماهير وجهلهم ويعيشون على امتصاص عروقهم ودمائهم.
وقد سمى ابن رشد القرطبي هذا الفريق بـ«الجناة على العقول»، فقال: إن الناس يحصرون المجرمين بالسارقين والقتلة والسلاطين المتجبّرين مع أن جريمة هؤلاء أقل بالنسبة إلى جريمة ذلك الفريق. فهؤلاء المجرمون يجرمون بحق أموال الناس وأبدانهم في زمنهم فقط، بينما جناية علماء السوء بحق عقول الناس وأرواحهم حيث يزرعون في أدمغتهم العقائد والآراء السخيفة التي تحط من إنسانيّتهم، وإذا استحكم هذا الجهل والحمق والتيه في الناس وضربت جذورها في نفوسهم انتقلت عنهم إلى ذرياتهم وأخلافهم، فلم تنحصر جناية هؤلاء في قرنهم بل امتدت إلى قرون متمادية من بعدهم.
إن هذا الفريق من الكهنة وسدنة معابد الأصنام وقفوا في وجه الرسول الأكرم ص وعارضوه أشد المعارضة، ولم يكن ذلك عن قناعة منهم بعقيدتهم ودينهم، إذ كانوا يعلمون أن هذه الأصنام لا تقضي الحوائج ولا تكشف الكُرَب، ولكنهم عادوه لأنه رأوا في دعوته تهديداً لمنزلتهم وجاههم ورزقهم الذي ارتبط بهذه الأصنام والخرافات والأوهام، فكانت حربهم للرسول الأكرم ص في الواقع حرباً اقتصادية لا حرباً دينيةً.
لقد بدأ الرسول الأكرم ص بدعوة سدنة الأصنام والكهنة إلى التوحيد وإفراد الله بالعبادة وأقام عليهم الحجة لأنه كان يعلم أنه طالما يستفيد هذا الفريق من الكهنة من عوام الناس فإنهم لن يصدّقوا بالنبي، لأن تصديقهم بدعوته معناه تكذيبهم لأنفسهم والقضاء على حياتهم المادية ورئاستهم الروحية (الدينية)، ولهذا السبب لجأوا إلى اتِّهام النبيِّ ص والافتراء عليه.
ولما رأى الرسول الأكرم ص أنه لا يمكن أن يُبعد الكهنة وسدنة الأصنام عن عامة الناس، توجه إلى دعوة الجماهير وتربيتهم، وبذل في هذا الطريق جهوداً جبارة، واعتنى بالشباب عناية خاصة، فكان سيد الشباب أمير المؤمنين علي (ع) أول من آمن بالرسول ص. وبدأت دعوة التوحيد تؤثر في نفوس الناس شيئاً فشيئاً. وبعد جهود جبارة، تمكن الرسول الأكرمص في آخر الآمر من رفع راية التوحيد على الكعبة وحطّم الأصنام وهدم معابدها، ووضع تاج التوحيد على رأس المسلمين، وجعل قدم الموحّد على ثرى الثريا، ﴿وَقُلۡ جَآءَ ٱلۡحَقُّ وَزَهَقَ ٱلۡبَٰطِلُۚ إِنَّ ٱلۡبَٰطِلَ كَانَ زَهُوقٗا ٨١﴾ [الإسراء: 84].
وبعد الإيمان والتصديق بكلمة «لا إِلَهَ إِلا الله»، تحول أولئك الذين كانوا يعبدون الأصنام ويعتقدون للأيام سعداً ونحساً ويخافون من كل شيء ويتوسَّلون بكل شيء، ويطلبون منها الحوائج، والذين كانت حياتهم تموج بالفوضى والاضطراب، يقاتلون بعضهم بعضاً، تحولوا إلى أمة تتمثل بجميع الفضائل الأخلاقية.
فكيف لا تكون كلمة لا إله إلا الله مبدأً للفضائل؟! إن الشخص الذي لا يعتقد بمؤثر غير الله الرحمن الرحيم سيكون بالتأكيد مسلماً شجاعاًً، لأنه لا يتوكل إلا الله خالق العالم: ﴿أَلَآ إِنَّ أَوۡلِيَآءَ ٱللَّهِ لَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ ٦٢﴾ [يونس: 62]. لا يخاف الموت بل يحبه، لأنه يؤمن بأنه سينال بالموت لقاء ربه، ويصل إلى السعادة الكبرى ويرتاح من هم الدنيا وعذابها.
وكيف لا يكون التصديق بكلمة التوحيد مبدأ لسخاء النفس؟ فالذي يعبد الله القدير ويعتقد بأنه القادر المطلق فسيُنفق في سبيله ولا يخشى الفقر: ﴿ٱلشَّيۡطَٰنُ يَعِدُكُمُ ٱلۡفَقۡرَ وَيَأۡمُرُكُم بِٱلۡفَحۡشَآءِۖ وَٱللَّهُ يَعِدُكُم مَّغۡفِرَةٗ﴾ [البقرة: 268].
وكيف لا يكون التوحيد منشأً وسبباً للعفّة، والموحد يعتقد أن الله تعالى مطلع بكلّ خفي وظاهر، وعالم بالجزئيات والكليات: ﴿وَمَا تَسۡقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعۡلَمُهَا﴾ [الأنعام: 59] ﴿يَعۡلَمُ مَا بَيۡنَ أَيۡدِيهِمۡ وَمَا خَلۡفَهُمۡ﴾ [البقرة: 255]. فالموحد عفيف لأنه يعلم أن الله عالم بضمائر القلوب وأعمال الجوارح وأنه أقرب إليه من حبل الوريد وأنه حكيم وعادل، ويؤمن أن المجازاة على الأعمال الصالحة والسيئة بيده سبحانه، وبالتالي يعيش في غاية العفة والطهارة ولا يسمح لنفسه أن يتخطى حدود الأخلاق.
وإذا تمكنت العفة والشجاعة والسخاء في نفس الموحد وترسخت فيها، استقام عقله ولزمت نفسه التقوى، فعندئذ يتمكن من تمييز الحق والباطل، كما قال سبحانه: ﴿إِن تَتَّقُواْ ٱللَّهَ يَجۡعَل لَّكُمۡ فُرۡقَانٗا﴾ [الأنفال: 29].
فعلمنا أن كلمة «لا إِلَهَ إِلا الله» كما أنها ترتقي بالعقل وتقتلع منه أشجار الخرافات والأوهام من جذورها، كذلك تثبّت في النفس جميع الفضائل. فكلمة التوحيد الطيبة أصل الفلاح والنجاح ومبدأ التعليم والتربية وسبب الرقي للإنسان. وباختصار، أنه غير معتمد إلى أصل أصيل، ليس عنده قاعدة راسخة ولم يلبس لباس التقوى، عقله معوَج منحرف لا يمكنه أن يصدق الكلام الحق، وهو ألعوبة بيد الحوادث والدجالين لأنه لم يلجأ إلى ركن مكين ولم يتمسك بالعروة الوثقى (لا إله إلا الله)، فكل ريح تهزه وكل شيء يخيفه. ﴿وَمَن يُشۡرِكۡ بِٱللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ ٱلسَّمَآءِ فَتَخۡطَفُهُ ٱلطَّيۡرُ أَوۡ تَهۡوِي بِهِ ٱلرِّيحُ فِي مَكَانٖ سَحِيقٖ ٣١﴾ [الحج: 31]. وكلمات هذه الآية من التشبيهات المركبة، أي أن كل من ينحط من أوج التوحيد إلى حضيض الشرك وعبادة غير الله، فإن أهواء النفس تجعله مضطرباً حائراً، ورياح الضلالة والوساوس الشيطانية تطيح به في أودية الشقاء والتيه والضياع وتودي به إلى الهلاك.
وبالطبع من كان فكره مشوشاً دائماً لن يكون عمله متقناً، لأن الفكر أساس العمل. ومن لم يكن له ميزان صحيح للأعمال، صدرت عنه الأعمال السيئة، حتى وإن عرف ذلك من نفسه وأراد إصلاحها، فإنه قد ضلَّ الطريق إلى ذلك فيتوسل بأسباب لا تنفعه أبداً في إصلاح عمله، فمثلاً تراه يرتكب الفاحشة، ثم يحاول إصلاحها بالتوسل بالأموات والذبح وتقديم القرابين للأوثان والسجود لغير الله؛ أو تراه إذا أكل أموال الناس بالحرام، ثم أراد التوبة من ذلك، قام بإنفاق بعض المال على الكهنة أو سدنة الوثن، وإذا أكل الربا ثم إذا أراد إصلاح ذلك أنفق صاعاً من السكر المجمد [على القبور والزيارات]، وهكذا، ويظن أن هذا سيطهره من إثمه.
إذا تأملنا حال الناس بدقة أدركنا أن سبب فسادهم هو الشرك، وأن الانحطاط الخُلُقي لمجتمعنا سببه توسل الناس بغير الله، وسبب الرذائل الحاكمة على مجتمعاتنا هو عدم معرفة الناس بالله تعالى حق المعرفة.
يقول الله تعالى [في الحديث القدسي]: «لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ حِصْنِي فَمَنْ دَخَلَ حِصْنِي أَمِنَ مِنْ عَذَابِي».
خلاصة الكلام أن المعتقد بـ «لا إِلَهَ إِلا الله» يجد في نفسه آداباً عظيمة، وفي ذاته أخلاقاً فاضلة، رغم أنه لا يفهم مصطلح الفضيلة؛ وهو شجاع عفيف حكيم عادل سخي، رغم أنه لا يعرف تعريف تلك الصفات.
إن الحرية التي هي أمنية البشرية والتي يتحدث عنها الفلاسفة مختصَّةٌ بالموحِّد. لأن الموحِّد متحرِّرٌ من الغضب والشهوة لأنه عبدٌ لِـلَّهِ وهو مسيطر عليهما. والموحِّدُ متحرِّرٌ من الأوهام لأنه اجتثَّ شجرة الأوهام بفأس التوحيد. والموحِّدُ طرح عن كاهله ثقل الخرافات والاعتقاد بسعد الأيام ونحسها وعبادة الأحجار والأشجار، وعبودية العباد؛ فهو لا يسمح لأحد أن يركب على ظهره، فهو حرٌّ وليس حماراً مركوب؛ وهو –حسب اصطلاح الفلاسفة- صاحب الحكمة والحرية.
والمجتمع الذي يتشكل من أمثال هؤلاء الموحدين أو يشكل أكثريته الموحدون، هو المدينة الفاضلة ذاتها التي بُعث الأنبياء لبنائها وكانت أمنية فلاسفة العالم. ومن الواضح أن مثل هذا المجتمع لا يعرف الشقاء بل ينعم بالسعادة والهناء.
أيها المسلمون! استيقظوا من نوم الغفلة، وألقوا عن كاهلكم أثقال الشرك والخرافات، وتحرروا حتى تفلحوا. «قُولُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ تُفْلِحُوا».
وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ الطَّاهِرِينَ.
[221] رواه الصدوق في معظم مؤلفاته الروائية مثل: «الأمالي»: المجلس الحادي والأربعين، ص195، ح (8)، ورواه في «التوحيد» و«معاني الأخبار» و«إكمال الدين». ورواه الطوسي في كتابه «الأمالي»، ص 279، ح (536). وفي مصادر أهل السنة، ذكره المتقي الهندي في كنز العمال وعزاه إلى ابن عساكر في «تاريخ دمشق» وابن النجار في «تاريخ بغداد» بسندهما عن علي (ع). انظر كنز العمال ح (158) و(235) و(1769). [المصحح]