(3) في بيان أفضل العبادات واختلاف الناس فيها
[اختلف الناس في تعيين أفضل الأعمال والعبادات]، فقال جماعة: إن أفضل الأعمال والعبادات وأنفعها هي التي تكون المشقة فيها أكثر، بدليل أن هوى النفس في الأعمال الشاقة يكون أقل، ولأن الأجر على قدر المشقة، فلهذا أيّ عمل تكون مشقته أكثر يكون أجره أكبر، وقد استدلوا لرأيهم بحديث لا يوجد له أصل صحيح، وهو: «أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ أحْمَزُهَا»[62]. وهذه الطائفة هم أهل المجاهدة والجور على النفس، وقالوا: إن النفوس بطبيعتها ميّالة إلى الخمول والكسل، ولا يصل الإنسان إلى الكمال إلا بتحمل الشدائد والمشقات، فلهذا كلما زادت مشقة العمل كانت فضيلته أكثر.
وقال جماعة آخرون: إن أفضل الأعمال والعبادات التجرد والزهد في الدنيا، ولذا ينبغي أن لا يلتفت العبد إلى الدنيا ولا يغترّ بها ولا ينخدع بزخارفها.
وهؤلاء الجماعة ينقسمون إلى قسمين:
[أولاً] العوام أو جُهّال هذه الجماعة، وهم الذين ظنوا أن غاية العبادة ومقصد خلق الإنسان هو الزهد في الدنيا والإعراض عنها، فشمّروا عن ساعد الهمة لسلوك هذا المسلك، وعملوا على هذا المنوال، ودعوا الناس إلى هذا الطريق، وقالوا إن الزهد والتجرد عن الدنيا أفضل من تحصيل العلم والعبادة وأعظم شأناً منهما، وجعلوا الزهد في الدنيا غاية كل عبادة وعلم.
[ثانياً] علماء هذه الجماعة، قالوا إن الزهد في الدنيا ليس مقصوداً لذاته، بل المقصود هو التوجه بالقلب إلى الله والإنابة إليه والتوكل عليه، ورأوا أن أفضل العبادة الحضور مع الحق تعالى والجمع معه، فاهتموا بدوام ذكره بالقلب واللسان، والابتعاد عن كل شيء يمنع السالك عن الحضور مع الله.
وهذا الفريق أيضاً على قسمين:
قسم عارف متبع للرسولص، وهم الذين يتنافسون إلى فعل ما أمر الله به ويجتنبون ويبتعدون عن النواهي والمنكرات.
وقسم آخر منحرفون، وهم الذين يقولون: لما كان المقصود من الزهد هوحضور القلب مع الله، فينبغي أن لا يُعتنى بأي شيء يكون سبباً لتشتت الخاطر واضطراب الهمة، حتى ولو كان واجباً من الواجبات الشرعية. وهذا الشعر لهذه الطائفة: يُطالَبُ بِالْأَورَادِ مَنْ كَانَ غَافِلاً فَكَيْفَ بِقَلْبٍ كُلُّ أَوقاتِهِ وِرْد وقال جماعة آخرون (أي جماعة ثالثة): إن أفضل العبادات وأنفع الأعمال ما كان يتعدى نفعه إلى الغير، فرأوا أن النفع المتعدي أفضل من النفع القاصر. وقالوا إن الاشتغال بمصالح الناس وقضاء حوائجهم ومساعدتهم بالمال والجاه أفضل العبادات وأشرف القربات، واستدلوا بقول الرسول الكريمص أنه قال: «الْخَلْقُ كُلُّهُمْ عِيَالُ اللَّهِ، فَأَحَبُّهُمْ إِلَيه أَنْفَعُهُمْ لِعِيَالِهِ»[63]. وكما استدلوا أيضاً بأن عمل العابد نفعه قاصر على نفسه، ومفيد لروحه فحسب، وأما صاحب النفع والعالِم فيستفيد منه هو والآخرون أيضاً، فالإحسان إلى الغير أفضل من الإحسان إلى النفس، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب[64]. كما قال النبي الكريمص لأميرالمؤمنين (÷): «لِأنْ یَهْدِيَ اللهُ بِكَ رَجُلاً وَاحِداً خَیرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَم[65]»[66]. وقال أيضاً: «مَنْ دَعَا إِلَى هَدْيٍ كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا»[67]. وقال: «إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ»[68]، وقال الرسول الكريم ص أيضاً: «إِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرْ لَهُ مَنْ فِي السَّمَواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ حَتَّى الْحِيتَانُ فِي الْبَحْرِ وحَتَّى النَّمْلَةُ فِي جُحْرِهَا»[69].
والدليل الآخر الذي ذكروه على ادعائهم هذا، أن صاحب العبادة إذا مات انقطع عمله، بخلاف عمل صاحب النفع، فإن أجره لا ينقطع ما دام الناس ينتفعون من عمله.
وذكروا أيضاً دليلاً آخر: وهو أن الغاية من بعثة الرسل هو الإحسان إلى الخلق وهداية الناس إلى طريق الخير وإرشادهم إلى أمور معاشهم ومعادهم، وليس دعوتهم إلى الاعتزال والخلوة والانقطاع عن الخلق والرهبانية. لذلك، لاَم الرسول الأكرم ص قوماً اعتزلوا الناس واشتغلوا بالعبادات البدنية من الصلاة والصوم.
إلى هنا كان البحث عن الطرق المختلفة [حول أفضل العبادات]، والآن سنذكر الطريق الحق في ذلك. ولا حول ولا قوة إلا بالله العليّ العظيم.
[62] قال الزبيدي في تاج العروس (15/17): «وأَحْمَزُ الأعمالِ: أَمْتَنُها وأَقْوَاها وأَشُدَّها، وقيل: أمَضُّها وأشَقُّها، وهو من حديث ابن عبّاسٍ ب: سُئِلَ رسولُ الله ص: أي الأعمالِ أَفْضَلُ؟ فقال: أَحْمَزُها، وهو مَجاز». [المُصحح] [63] «وسائل الشيعة» للحُرّ العاملي، نقلاً عن عَبْدِ اللَّـهِ بْنِ جَعْفَرٍ الْحِمْيَرِيِّ فِي قُرْبِ الإسْنَادِ بسنده عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ آبَائِهِ عليهم السلام قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّـهِص.. الحديث، ج 16/ ص 345. وفي مصادر أهل السنة: أخرجه البيهقي في شعب الإيمان وأبو نعيم في الحلية، ورواه الهيثمي في مجمع الزوائد عن أنس (13706) وعزاه إلى أبي يعلى والبزار في مسنديهما، وعن عبد الله بن مسعود (13707) وعزاه إلى الطبراني في معجميه الكبير والأوسط، وضعَّف الهيثمي الروايتين بأن في سند كل منهما متروك. [المُصحح] [64] الجملة جزء من حديث يقول: «وَفَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلَى سَائِرِ النُّجُومِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ». رواه الكُلَيْنِيّ في «الكافي»، بَابُ ثَوَابِ الْعَالِمِ وَالْـمُتَعَلِّمِ، 1/34. وفي مصادر أهل السنة: أخرجه أبو داود (3643) وابن ماجه (223)، والدارمي (342) في سننهم. [المُصحح] [65] قال الراغب الأصفهاني [في المفردات في غريب القرآن (ص 499)]: «والنَّعَمُ مختصٌّ بالإبل، وجمْعُه: أَنْعَامٌ، وتسميتُهُ بذلك لكون الإبل عندهم أَعْظَمَ نِعْمةٍ، لكِنِ الأَنْعَامُ تقال للإبل والبقر والغنم، ولا يقال لها أَنْعَامٌ حتى يكون في جملتها الإبل». (شريعت) [66] انظر: بحار الأنوار للمجلسي ج 21/ ص 3، وَج 39/ ص 12. [67] منية المريد في أدب المفيد وَالمستفيد، للشهيد الثاني، ص 102. وهو بألفاظ قريبة في مصادر أهل السنة في صحيح مسلم وسنن أبي داود والترمذي والنسائي ومسند أحمد. [68] عوالي اللآلي، لابن أبي جمهور الإحسائي (910هـ)، ج 1/ص 359، ومنية المريد في أدب المفيد والمستفيد، للشهيد الثاني، ص 101، ولفظه: «فضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِى عَلَى أَدْنَاكُمْ. ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ص: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا وَحَتَّى الْحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ». وهو في مصادر أهل السنة في سنن الترمذي (2685) عَنْ أَبِى أُمَامَةَ الْبَاهِلِىِّ، وقَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. [المُصحح] [69] منية المريد في أدب المفيد والمستفيد، للشهيد الثاني، ص 107، دون جملة «حتى النملة في جحرها». وقد روى نحوه محمد بن حسن الصفار في «بصائر الدرجات» (ص4) بسنده عن الإمام الباقر عليه السلام قال: «إِنَّ جَمِيعَ دَوَابِّ الأرْضِ لَتُصَلِّي عَلَى طَالِبِ الْعِلْمِ حَتَّى الْحِيتَانُ فِي الْبَحْر». وهو في مصادر أهل السنة بلفظ مغاير قليلاً لدى لطبراني في الأوسط وأبو الشيخ ابن حبان فى كتاب الثواب. وإسناده ليس بالقوي. [المُصحح]