الأصل الثالث: التوحيد قسمان: توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية
توحيد الربوبية: هو الإقرار والاعتراف بأن الله خالق جميع الموجودات وهو رب العالمين. وقد كان المشركون مُقرين تماماً بهذا التوحيد، كما قال الله تعالى في كتابه المجيد حكاية عن المشركين: ﴿وَلَئِن سأَلۡتَهُم مَّنۡ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ﴾ [لقمان: 25].
﴿وَمَا يُؤۡمِنُ أَكۡثَرُهُم بِٱللَّهِ إِلَّا وَهُم مُّشۡرِكُونَ ١٠٦﴾ [یوسف: 106].
﴿وَلَئِن سَأَلۡتَهُم مَّنۡ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡعَلِيمُ ٩﴾ [الزخرف: 9].
وكذلك كان المشركون يقرون ويعترفون بأن الله تعالى هو الرازق والمحيي والمميت، ومدبر السماوات والأرض، وهو الذي يملك السمع والأبصار والأفئدة، كما قال تعالى:
﴿قُلۡ مَن يَرۡزُقُكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِ أَمَّن يَمۡلِكُ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡأَبۡصَٰرَ وَمَن يُخۡرِجُ ٱلۡحَيَّ مِنَ ٱلۡمَيِّتِ وَيُخۡرِجُ ٱلۡمَيِّتَ مِنَ ٱلۡحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ ٱلۡأَمۡرَۚ فَسَيَقُولُونَ ٱللَّهُۚ فَقُلۡ أَفَلَا تَتَّقُونَ ٣١﴾[یونس: 31].
﴿قُل لِّمَنِ ٱلۡأَرۡضُ وَمَن فِيهَآ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ ٨٤ سَيَقُولُونَ لِلَّهِۚ قُلۡ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ٨٥﴾[المؤمنون: 84-85].
﴿قُلۡ مَن رَّبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ ٱلسَّبۡعِ وَرَبُّ ٱلۡعَرۡشِ ٱلۡعَظِيمِ ٨٦ سَيَقُولُونَ لِلَّهِۚ قُلۡ أَفَلَا تَتَّقُونَ ٨٧﴾ [المؤمنون: 87].
﴿قُلۡ مَنۢ بِيَدِهِۦ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيۡءٖ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيۡهِ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ ٨٨ سَيَقُولُونَ لِلَّهِۚ قُلۡ فَأَنَّىٰ تُسۡحَرُونَ ٨٩﴾ [المؤمنون: 88-89].
فكل مشرك مُقرّ بأنّ الله تعالى هو خالقه وخالق العالم كله، وكما يُقّر بأن الله رازقه ومحييه ومميته. ولذلك كان الأنبياء والرسل يستدلون على المشركين بما كانوا يعتقدون به. ﴿أَفَمَن يَخۡلُقُ كَمَن لَّا يَخۡلُقُ﴾ [النحل: 17].
﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ تَدۡعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ لَن يَخۡلُقُواْ ذُبَابٗا وَلَوِ ٱجۡتَمَعُواْ لَهُۥ﴾ [الحج: 73].
توحيد الألوهية والعبادة: وهو عبادة الذات الإلهية المقدسة بجميع أنواع العبادات -كما سيأتي تفصيله لاحقاً-، وهذا النوع من التوحيد هو الذي وقع فيه الشرك بين البشر؛ ولفظ الشريك بحد ذاته يدل على أن المشركين يعترفون بأنّ الله هو الخالق لجميع الموجودات.
إن الأنبياء والرسل كانوا مأمورين بتقرير وإثبات التوحيد بالمعنى الأول، أي توحيد الربوبية، وفي القرآن الكريم أدلة متقنة في تقريره وإثباته؛ ولكن التوحيد بالمعنى الثاني، أي توحيد العبادة كان موضع اهتمام الأنبياء بشكل عام واعتناء القرآن الكريم بشكل خاص، وهو قطب الرحى وأساس دعوة القرآن، والمحور الذي تدور عليه آياته، وهو معنى وحقيقة «لا إله إلا الله». قال تعالى في القرآن الكريم: ﴿وَلَقَدۡ بَعَثۡنَا فِي كُلِّ أُمَّةٖ رَّسُولًا أَنِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱجۡتَنِبُواْ ٱلطَّٰغُوتَ﴾ [النحل: 36].
فالغرض من بعثة الأنبياء والرسل إلى جميع الأمم هو الدعوة إلى عبادة الله وحده. كما تدل عليه عبارة: ﴿فِي كُلِّ أُمَّةٖ﴾ بصراحة على أن بعثة الرسل إلى جميع الأمم كانت بهدف الدعوة إلى توحيد العبادة، لا لإثبات وجود خالق العالم، لأن المشركين كانوا يقرون بذلك.
وبسبب اعتراف المشركين بخالق العالم، نجد أن بعض آيات القرآن تحدَّثَتْ عن خالق العالم بصيغة الاستفهام التقريري[45]، كقوله تعالى:
﴿هَلۡ مِنۡ خَٰلِقٍ غَيۡرُ ٱللَّهِ﴾ [فاطر: 3].
﴿أَفَمَن يَخۡلُقُ كَمَن لَّا يَخۡلُقُ﴾ [النحل: 17].
﴿أَفِي ٱللَّهِ شَكّٞ فَاطِرِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ﴾ [إبراهیم: 10].
﴿قُلۡ أَغَيۡرَ ٱللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّٗا فَاطِرِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ﴾[الأنعام: 14].
﴿أَرُونِي مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ ٱلۡأَرۡضِ﴾[فاطر: 40].
فمن هذه البيانات يتّضح تماماً أنّ المشركين لم يجعلوا الأصنام شركاء لِـلَّهِ في خلق السموات والأرض، وهكذا النصارى بالنسبة إلى المسيح وأمّه مريم، وكذلك عُبَّاد النجوم والكواكب والملائكة لم يكونوا يعتبرون هذه المعبودات خالقةً رازقةً لهم ولا مُحْيِيَةً مُمِيْتَةً بل أشركوها مع الله في عبادتهم، واتخذوها شفعاء، وقالوا: ﴿هَٰٓؤُلَآءِ شُفَعَٰٓؤُنَا عِندَ ٱللَّهِ﴾ [یونس: 18].
[45] ولكن الآيات التي ذكرها المؤلف هي استفهامات إنكارية وليست تقريرية. [المصحح]