توحيد العبادة

فهرس الكتاب

التفاؤلُ ممدوحٌ ومُسْتَحسَن:

التفاؤلُ ممدوحٌ ومُسْتَحسَن:

ينبغي للإنسان أن يكون متفائلاً في حياته، ويتوكل على الله في مستقبل حياته.

يقول الرسول الأكرم ص: «لا طِيَرَةَ، وَأُحِبُّ الْفَأْلَ الصَّالِحَ‏»[151]. فَلَا ريب أَن النَّبِيص كَانَ يُعجبهُ الفأل الْحسن، وَقد قرن مدح ذَلِك بِإِبْطَال الطَّيرَة، كما حديث صحيح آخر: «لا طِيَرَةَ، وَخَيْرُهَا الْفَأْلُ». قَالَوا: وَمَا الْفَأْلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «الْكَلِمَةُ الصَّالِحَةُ يَسْمَعُهَا أَحَدُكُمْ»[152].

فابتدأهم النَّبِيُّ ص بإبطال التشاؤم والطَّيرَة لِئَلَّا يتوهموا الطيرة عَلَيْهِ فِي إعجابه بالفأل الصَّالح، ثم امتدح الفَأْلَ الحسن.

ولا يتصور الشرك أبداً فِي الإِعجَابِ بالفأل الحسن والتفأل به، بل ذَلِك إبانة عَن مُقْتَضى الطبيعة البشرية وَمُوجب الْفِطْرَة الإنسانية التي تميل إلى مايلائمها ويوافقها مِمَّا ينفعها، كما فِي بعض الْآثَار أَنه ص كَانَ يُعجبهُ الفاغية -وهي نور الْحِنَّاء- وكان يحب الحْواء والعسل وكان يحب الشرابَ البارِد الحلو، ويحب حسن الصَّوْت بالقرآنِ ويستمعُ إليه، ويُحب معالي الْأخلاق ومكارم الشيم. وبالجملة، يحب كل كَمَال وَخير وما يُفْضِي إِليْهما.

والله سبحانه قد جعل في غرائز النَّاس الْإِعْجَاب بِسَمَاع الاسم الْحسن وميل نُفُوسهم إِليه، وَكَذَلِكَ جعل فيها الارتياح والاستبشار وَالسُّرُور باسم السَّلَام والفلاح والنجاح والتهنئة والبشرى والفوز والظفر والغنم والربح والفرح والغنى وأمثالها، فإِذا قرَعتْ هذه الأسماءُ الأسماعَ استبشرت بها النفس وانشرح لها الصدر وقوى بها القلب، وإذا سمعت أضدادها أحزنها ذلك وأثار لها خوفًا وطيرة وانكماشًا وانقباضًا ويمتنع عن العمل. وبالتالي فإن التشاؤم والتطيُّر مليء بالضرر الدنيوي وسبب نقصان الإيمان بالله، وموجب للشرك بالله سبحانه.

وهذا الذي في طباع الناس وغرائزهم من الإعجاب بالأسماء الحسنة والألفاظ المحبوبة، وهو نظير ما في غرائزهم من الإعجاب بالمناظر الأنيقة والرياض المنورة والمياه الصافية والألوان الحسنة والروائح الطيبة والمطاعم المستلذة، وذلك أمر لا يمكن دفعه، ولا يحد القلب عنه انصرافًا فهو ينفع المؤمنَ ويسر نفسه، وينشطها، ولا يضر التوحيد.

الفأل والطيرة وإن كان مأخذهما سواء، فإنهما يختلفان بالمقاصد والفرق بينهما: فما كان محبوبًا مستحسنًا تفاءلوا به، وأحبوه واستحسنوه، وما كان مكروهًا قبيحًا مُنفِّرا تشاءموا به، وكرهوه.

وقد كانت العرب تقلِّب الأسماءَ ويستبدلون الاسم السيئ بالاسم الحسن ويتفاؤلون به. فمثلاً يسمون اللديغ سليماً تفاؤلاً بالسلامة، ويسمون العطشان ناهلاً أي سينهل، والنهل الشرب تفاؤلا باسم الري، ويسمون الفلاة مفازة أي منجاة تفاؤلا بالفوز والنجاة[153].

فاتّضح من هذا أن التفاؤل والتيمُّن من العناصر المهمة في تكوين الشخصية الإنسانية، وعلى الإنسان أن يكون متفائلا حسن الظن في حياته وينظر إلى الدنيا بعين مباركة. إنني مبتهجٌ بالعالم، لأن العالم المبتهج من خلقته أنا عاشق لکل العالم، لأن العالَم كلُّهُ منه[154] إن الدنيا مثل المرآة إذا نظرت إليها بعبوس انعكست لك بالعبوس وإذا نظرت إليها بسرور وابتهاج انعكست لك بالنضارة والابتهاج.

إن المرآة في مواجهة التركي جميلة اللون، وهي أيضاً زنجية في مواجهة الزنجي[155].

علينا أن نتفاءل بكل ما نستقبله من حوادث الحياة، وأن نعوّد أنفسنا على النظر إلى جميع الأمور بعين الأمل والرحمة لا بعين اليأس والإحباط. وأن الشخص المتفائل هو الذي يرضى بما مضى من حياته، ويفرح بكل ما قُدّر له، سواء كان خيراً أو شراً، وهو واثق الصلة بالله، ويأمل بمستقبله، ويؤدي واجبه ويسعى وراء عمله، ويأخذ بالأسباب ثم يطلب حسن العاقبة من الله تعالى.

إن التشاؤم ناشيء عن ضعف الإرادة والنشاط وضعف القوة العصبية والعقلية، فالإنسان المتشائم يتحرك في أرض منخفضة، ويعيش بين جبال الأوهام ووديان الخرافات، ويجول في ظلمات الوساوس، إلى أن تغطي سماء عقله سُحب مظلمة، ويتراكم عليه دخان التطير والتشاؤم وسوء الظن الذي يُضعف روحه ويبث في نفسه الكسل والخمول، ويُوهن إرادته ويقلب أفكاره رأساً على عقب.

وبعكس ذلك، فإن التفاؤل يوقظ العقل ويُنشّط الإنسان ويُشجّعه على العمل، وينقذ النفس من الشقاوة ويحرر الروح من أغلال الوساوس والظنون السيئة.

وفي الختام، أصلي وأسلم على روح خاتم النبيين الطاهرة، الذي أنقذ الأمة المرحومة من صنوف الشقاء، وألبسهم لباس السعادة والهناء، واستأصل الخرافات وأخرج الأوهام من أدمغة الناس.

وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ الطَّاهِرِينَ.

[151] رواه الشيخ رضي الدين الفضل بن الحسن الطبرسي في كتابه «مكارم الأخلاق»، (ط4، قم، انتشارات شريف رضي، 1312هـ)، ص 350، وعنه المجلسيُّ في «بحار الأنوار» (92/ 2- 3). وأصله في مصادر أهل السنة، فقد أخرجه مسلمٌ في صحيحه برقم (5936) وأحمد في مسنده، برقم (507) عن أبي هريرة مرفوعاً. [المصحح] [152] صحيح البخاري، ح (5422) وصحيح مسلم، ح(2223). [المصحح] [153] انظر: مفتاح السعادة لابن قيم الجوزية 2/244- 246. [المصحح] [154] ترجمة للبيت التالي، من الشاعرسعدي الشيرازي الذي ذكره المؤلف في الأصل: [المصحح] به جهان خُرَّم از آنم كه جهان خُرَّم از اوست عاشقم بر همه عالم كه همه عالم از اوست [155] ترجمة للبيت التالي، من المثنوي لجلال الدين الرومي، الذي ذكره المؤلف في الأصل: [المصحح] پیش ترک آئینه را خوش رنگی است پیش زنگی آینه هم زنگی است