(9) في بيان سبب نشأة الشرك والخرافات بين المسلمين
لما سيطر الإسلام على معظم مناطق المعمورة بالمنطق الصحيح والبرهان القويم، ودخل كثير من الأمم تحت سلطان الإسلام وحكمه، فانمحى سلطان تلك الأمم وذهبت عظمتها أمام عظمة الإسلام، كان من الطبيعي أن تتولَّد في قلوب بعض أبناء تلك الأمم عداوة وبغضاء تجاه الإسلام، فكانوا يتحينون الفرصة للهجوم على هذا الدين، ولكن لما كان الإسلام قوياً عظيم الشوكة لم يكن في مقدورهم أن يحاربوه بالسيف، فلجؤوا إلى المكر والحيلة، فتظاهروا بالإسلام وعملوا في الباطن على تخريبه من الداخل، وشكلوا ما يُسَمَّى بحزب المنافقين، وكان على رأس المنافقين، «عبد الله بن أبي» الذي كان يعيش في عهد الرسول ص.
لقد دبَّر المنافقون حيلةً جديدة لمحاربة الإسلام، تمثلت في أن يدُسّوا في تعاليمه، أقاويل فاسدة وخرافات وأباطيل مما كان بعضها في بعض الأديان الباطلة، وبعضها اخترعوها من عند أنفسهم، ونسبوها للساحة المقدسة لشارع الإسلام.
هذا الفريق من المنافقين كانوا قد سيطروا على ثقافة الإسلام: فبدأ جماعة منهم يعملون عملهم التخريبي تحت اسم رواة الحديث مثل «كعب الأحبار»[222] اليهودي، في حين عمل آخرون منهم كمفسرين للقرآن، وآخرون باسم الوعاظ، وبعضهم باسم العالم، وبعضهم باسم المؤرخين، فتسلح الجميع بسلاح علوم التفسير والحديث والفقه والتاريخ، وحملوا على الإسلام حملةً عنيفة، ونسبوا إليه كلاماً سيئاً مخالفاً للعقل، وفعلوا ما لا ينبغي أن يفعلوه.
لقد كان الهدف الأساس للمنافقين أن يصوِّروا الإسلام بصورة منكرة غير معقولة، ونجحوا إلى حد ما في مسعاهم هذا، فتمكنوا بذلك من طمس كثير من الخصائص التي امتاز بها الإسلام على سائر الديانات.
إن الإسلام دين العقل والمنطق والفطرة، وهو دين التوحيد وعبادة الله وحده، والابتعاد جميع الأوثان والأصنام. الإسلام دين الفضيلة والأخلاق، ودين الصبر والشجاعة، ودين العلم والعمل الصالح. الإسلام شريعة الإنسانية. لقد منح الإسلام البشرية حرية النفس والعلم والعقل. لقد أنقذ الإسلام البشرية من ربقة الكهنة، ونفى الواسطة بين الخلق والخالق. وألغى الإسلام عبادة القبور والأحجار وعبودية غير الله. وحينما كان أيُّ شخصٍ يُسلم ويعتصم بالقرآن لم يكن بحاجة إلى واسطة بينه وبين الله. وحرّم الإسلام التقليد الأعمى، ونهى عن العمل بالظن.
من البديهي أن هذه التعليمات العالية الرفيعة التي جاء بها الإسلام تغلق أبواب المتاجر والحوانيت التي يتكسب بها الدجالون باسم الدين، وتسد عليهم باب الانتفاع من الدين. ولذا شمّروا عن ساعد الجد من أجل المحافظة على منزلتهم الدينية السابقة ومنافعهم القديمة، فاختلقوا في مواجهة كل مقصد من مقاصد الإسلام أحاديث تناقض تلك المقاصد ونشروها في العالم الإسلامي. ومن هذا الباب، دخلت إلى الإسلام مقالات لليهود والنصارى والصابئة والمجوس، لو أردنا الحديث عنها بالتفصيل لاحتجنا إلى كتاب ضخم.
وهكذا اختلطت مقاصد الإسلام وحقائق الدين بتعاليم المذاهب والأديان الباطلة إلى درجة فاضمحلّت الخصائص التي ميّزت الإسلام عن سائر الأديان، وتشوهت الصورة الحقيقية الناصعة لهذا الدين.
واليوم إذا تأملنا وضع المسلمين جيداً لم نجد بينهم وبين أتباع الملل والأديان الباطلة فرقاً في العقائد والأعمال.
فالصابئون يقدِّسون الكواكب ويعتقدون أنَّ للأيام سعداً ونحساً، وتوجد هذه العقيدة أيضاً بين المسلمين بشكل أشدّ، حيث يدونون كل سنة تقاويم تُعيِّن سَعْد بعض الأيام ونحْس بعضها، وينشرونها بين المسلمين، وهي إذا دقَّقْنا فيها بمثابة رسالة عملية لفرقة الصابئين[223].
والنصارى يطلبون حوائجهم من المسيح ومريم عليهما السلام . والمسلمون أيضاً يطلبون حوائجهم من النبي ص ومن الأئمة سلام الله عليهم ومن الأولياء.
واليهود والنصارى اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً، والمسلمون أيضاَ اتخذوا الأولياء والشيوخ المرشدين أرباباً.
وكان المشركون يذبحون القرابين لغير الله، والمسلمون أيضاً يذبحون القرابين للصالحين من أولاد الأئمة.
المشركون عبدوا الشجر والحجر، والمسلمون أيضاً يتبركون بالأشجار والأحجار.
وعدوان آخر من المنافقين على الإسلام -والذي يستحق أن يبكي له المسلم دماً-، هو نسبتهم أحاديث وأقوال ركيكة مخالفة للعقل إلى النبي ص والأئمة الهداة عليهم السلام ، كي يخرجوا من الإسلام من له أدنى عقل. وفي هذه العداوة بلغوا مبلغاً شوَّهُوا به دين الإسلام وصوَّروه بصورة دين مليء بالخرافات والأباطيل بحيث أن من كان عنده ذرة من الرشد والتمييز سيرفض هذا الدين حتماً من أول نظرة يلقيها عليه. وذلك كنسبتهم للنبي ص أنه قال: أنا سيد الأنبياء والماء سيد المشروبات والباذنجان سيد الخضرواتَ. وذكروا في الكتب أن من خصائص النبي ص أنه كان إذا نظر إلى امرأة فأعجبته، حَرُمَت تلك المرأة على زوجها! وكتبوا في معجزات النبي ص أنه لمَّا وُلد رضع الحليب من ثدي أبي طالب لمدة سبعة أيام، فكان بذلك أخا عليٍّ من الرضاعة![224]، ونسبوا إلى النبيص أنه قال: إن الأرض على قرن ثور والثور على ظهر حوت يسبح في البحر فكلما هز الثور رأسه وقعت الزلازل في الأرض[225]. كما افتروا على الأئمة الأطهار افتراءات كثيرة، كقولهم مثلاً إن الإمام الصادق قال إن حمرة السماء في بداية الليل التي يطلق عليها اسم الشفق هي دم عليٍ الأصغر ابن الحسين.
وأبشع من هذا كله، كتاب يسمى «ضياء عيون الناظرين»، أُلِّف في عهد الصفويين، وقد وُضِعَ هذا الكتاب في مقدِّمَة بعض المصاحف المطبوعة في طهران، وكله كفر ومخالف لتعاليم القرآن ومناقض لأسس الإسلام، كما احتوى الكتاب على خواص نقش خاتم النبوة والنعل المبارك (نعل النبي ص)، وأشكال ورسوم من افتراءات اليهود، ونقل في هذا الكتاب خواصاً عجيبة وغريبة لهذه الأشكال والرسومات عن النبي ص وأئمة الدين، مما يجلب الغزي والعار للإسلام والمسلمين؛ فمن ذلك روايتهم عن أمير المؤمنين ص في بيان خواص أحد تلك النقوش أنه قال: إن كل من نظر إلى هذا النقش المكرَّم مَرَّةً غُفِرت له ذنوب سبعين عاماً، وإذا نظر إليه مَرَّتين عفا الله الكريم عن جرائم أبيه وأمه وغفرها لهما بكرمه، ومن نظر إليه ثلاث مرات غفر الله الغفار الغني ذنوب كل أمة صاحب الرسالة!
إذا تأملنا جيداً أدركنا أن من وضع هذا الحديث عدوٌّ للدين ولأمير المؤمنين، فكل من كان لديه مثقال ذرة من عقل يضحك من هذا الحديث، إذْ ما هي المناسبة بين نظر شخص ثلاث مرات إلى نقشٍ أو رسمٍ وغفران الله لذنوب الأمة كلها؟!
وفيه أيضاً طلسم ونقشٌ آخر، ذكروا في فضله خبراً عن أمير المؤمنين أنه قال: إن كل من نظر بعد صلاة الفجر إلى هذا النقش كان كمن حجَّ خمسين حجة مثل حجة آدم ومن نظر إليه بعد صلاة الظهر كان كمن حجَّ ثلاثمائة حجة حجها إبراهيم ومن نظر إليه بعد صلاة العصر كان كمن حجَّ سبعمائة حجة كحج يونس ومن نظر إليه بعد صلاة المغرب كان كمن حجَّ ألف حجة كحج موسى ومن نظر إليه بعد صلاة العشاء كان كمن حجَّ ألف حجة كحج خاتم النبيين! والكتاب مليء بأمثال هذه الترَّهات والأوهام والكفريات. سبحان الله! ما معنى أن ينظر شخص جاهل فاسق إلى شكل أو رسم فيثيبه الله ثواب ألف حجة حجها سيد الأنبياء؟!!
وهناك الكثير جداً من أمثال هذه الأخبار الموضوعة والمكذوبة التي تدل على كفر راويه (واضعه) وعداوته للإسلام، مما لو أردنا أن نتكلَّم عنها لاحتجنا إلى مجلَّدات ضخام، مما يخجل المرء من نقلها. ومن الواضح جداً بأن هدف واضعي تلك الأحاديث لم يكن سوى الاستهزاء بالقرآن وبشريعة سيد المرسلين: ﴿ٱللَّهُ يَسۡتَهۡزِئُ بِهِمۡ وَيَمُدُّهُمۡ فِي طُغۡيَٰنِهِمۡ يَعۡمَهُونَ ١٥﴾ [البقرة: 15].
لاحظوا... هل يبقى عاقل في دين الإسلام إذا رأى هذه الأخبار الخرافية والعقائد الفاسدة والأعمال الرذيلة؟
أيها المسلمون! افتحوا أعينكم واستيقظوا من نوم الغفلة؟ واعرفوا دين الإسلام الحقيقي الصحيح، وميِّزوا بين الحق والباطل كي لا يزول الإسلام ويرجع إلى صفائه الأولي ونوره الساطع.
لماذا يخرج الناس من دين الله؟ لأنه قد أصبح ديناً مليئاً بالأوهام والخرافات ولم يبقَ له من الإسلام الحقيقي إلا الاسم؟ فكيف يتوصّل الناس إلى حقيقة الإسلام؟ وكيف يتعرّف الناس على حقائق الدين وشريعة سيد المرسلين مع وجود هؤلاء الدجالين وقطاع طريق الهداية في الإسلام الذين هم من أكبر حماة الخرافات والمروجين لها؟
إن طريق النجاة هو اللجوء إلى كتاب الله وسنة خاتم النبيين ص.
إذا تمسك المسلمون بهذين المشعلين النَّـيِّرَيْن أمكنهم أن يجتازوا صحراء الطبيعة المظلمة ويصلوا إلى منازل السعادة، وإلا فسيبقون فريسةً للدجالين وستكون عاقبتهم الهلاك.
وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ الطَّاهِرِينَ.
وأختم الكتاب بهذا الدعاء المبارك من الصحيفة الملكوتية السجادية [226]:
وَكَانَ مِنْ دُعَائِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ بِخَوَاتِيمِ الْخَيْرِ: «يَا مَنْ ذِكْرُهُ شَرَفٌ لِلذَّاكِرِينَ، وَيَا مَنْ شُكْرُهُ فَوْزٌ لِلشَّاكِرِينَ، وَيَا مَنْ طَاعَتُهُ نَجَاةٌ لِلْمُطِيعِينَ، صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَاشْغَلْ قُلُوبَنَا بِذِكْرِكَ عَنْ كُلِّ ذِكْرٍ، وَأَلْسِنَتَنَا بِشُكْرِكَ عَنْ كُلِّ شُكْرٍ، وَجَوَارِحَنَا بِطَاعَتِكَ عَنْ كُلِّ طَاعَةٍ. فَإِنْ قَدَّرْتَ لَنَا فَرَاغاً مِنْ شُغْلٍ فَاجْعَلْهُ فَرَاغَ سَلامَةٍ لا تُدْرِكُنَا فِيهِ تَبِعَةٌ، وَلا تَلْحَقُنَا فِيهِ سَأْمَةٌ، حَتَّى يَنْصَرِفَ عَنَّا كُتَّابُ السَّيِّئَاتِ بِصَحِيفَةٍ خَالِيَةٍ مِنْ ذِكْرِ سَيِّئَاتِنَا، وَيَتَوَلَّى كُتَّابُ الْحَسَنَاتِ عَنَّا مَسْرُورِينَ بِمَا كَتَبُوا مِنْ حَسَنَاتِنَا. وَإِذَا انْقَضَتْ أَيَّامُ حَيَاتِنَا، وَتَصَرَّمَتْ مُدَدُ أَعْمَارِنَا، وَاسْتَحْضَرَتْنَا دَعْوَتُكَ الَّتِي لا بُدَّ مِنْهَا وَمِنْ إِجَابَتِهَا، فَصَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَاجْعَلْ خِتَامَ مَا تُحْصِي عَلَيْنَا كَتَبَةُ أَعْمَالِنَا تَوْبَةً مَقْبُولَةً لا تُوقِفُنَا بَعْدَهَا عَلَى ذَنْبٍ اجْتَرَحْنَاهُ، وَلا مَعْصِيَةٍ اقْتَرَفْنَاهَا. وَلا تَكْشِفْ عَنَّا سِتْراً سَتَرْتَهُ عَلَى رُءُوسِ الأشْهَادِ، يَوْمَ تَبْلُو أَخْبَارَ عِبَادِكَ. إِنَّكَ رَحِيمٌ بِمَنْ دَعَاكَ، وَمُسْتَجِيبٌ لِمَنْ نَادَاكَ»[227].
[222] هو كعب بن ماتع الحميري أبو إسحاق المعروف بكعب الأحبار، كان من أهل اليمن فسكن الشام. أدرك النبيص وأسلم في خلافة أبي بكر، وقيل: في خلافة عمر. توفي في آخر خلافة عثمان سنة:32. يرى طائفة من العلماء لاسيما من الشيعة أنه لم يخلو من كذب، وفي المقابل يزكّيه آخرون من علماء أهل السنة ويرون أن الكذابين من بعده نسبوا إليه أشياء كثيراً لم يقلها أو يرويها. وقد كان يحدث بما يعلمه من أخبار بني إسرائيل ولا حرج في ذلك، ولم يثبت عنه شيئ نسبه من ذلك إلى نبينا محمد ص. انظر: منتهى المقال 5/255، سير أعلام النبلاء 3/489. [المترجم] [223] انظر على سبيل المثال: كتاب الجامع في الطب الروحاني/ تأليف: محمود الشامي العاملي. [224] انظر الكافي 1/448. [225] انظر «لروضة من الكافي للكُلَيْنِيّ، [طهران، انتشارات علمية إسلامية]، (2/67-68 و 127). وعلل الشرائع للشيخ الصدوق، (ج1/ص 1-2). [226] كُتيِّب يضم مجموعة من الأدعية مروية عن الإمام السجاد: زين العابدين علي بن الحسين بن علي رضي الله عنهم. [المصحح]. [227] الصحيفة السجادية، ص 62، الدعاء (11).