[ما هي الشفاعة؟]
إذا اتضح ذلك، فلننظر الآن ما هي الشفاعة؟ إن الشفاعة طلب العفو عن ذنب المذنب. وفي الاصطلاح الشرعي: الشفاعة عبارة عن طلب بعض الصالحين من الله تعالى أن يتجاوز عن معاقبة المذنبين ويعفوَ عنهم. وهذا الاعتقاد قد جلب أضراراً فادحة بأهل الديانات، وهي تحريف من تعاليم الكهنة الذين ابتدعوا هذا المعنى، وخصوا أنفسهم بهذا المقام كي يكون لهم منزلة بين الناس.
إن الشفاعة بهذا المعنى هي عين الشفاعة الشركية التي كان يعتقد بها المشركون، كما هو معروف لدى العامة والجهّال من الأمة، أنهم يقولون إن النبي ص والأئمة عليهم السلام قالوا – والعياذ بالله –: يا عصاة الأمة، أحبونا فقط ونحن سنشفع لكم غداً يوم القيامة![180].
وإن هذا المعنى يخالف دعوة الأنبياء ويناقض أصول الإسلام ويتنافى مع أصول التربية والتعليم ويلزم عنه أن تصبح بعثة الرسل لغواً وعبثاً. ومَثَلُ ذلك مثل من يقول لطفل: يجب عليك أن تدرس في المدرسة ولكن إذا لم تدرس فلا تخف من المعلم فأنا سآتي وأشفع لك (كي تنجح)!.
هل يمكن أن نتصور أن يأتي النبي الأكرم ص بنواهي وأوامر من عند الله ويقول لنا: عليكم الامتثال بأوامر الله والاجتناب عن نواهيه، ولكن إن لم تفعلوا ذلك، فلا حرج عليكم، فسأشفع لكم.
فلا ريب إن هذا مخالف لتربية الرسل وينافي الهدف من بعثتهم. لقد أبطل الإسلام جميع الأسباب وجعل العمل الصالح سببًا وحيدًا للفوز والفلاح. وأن الشفاعة بذلك المعنى إضافة إلى أنها تتضمَّن شركاً محضاً تجعل الناس يغترون ويتركون العمل.
أما الشفاعة التي يثبتها الكتاب والسنة، فهي الشفاعة التي تكون بعد إذن الله لمن كان مُوحِّدًا ونال رضا الله سبحانه وتعالى. وبعبارة أوضح، لا بد أن يكون المشفوع له موحداً وأن لا يعتقد بشركاء لِـلَّهِ وشفعاء بذلك المعنى الذي ذكرناه، عندئذ فقط يأذن الله لنبيه بالشفاعة لهذا الشخص.
سُئل الرسول الأكرم ص: مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ ص: «أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ القِيَامَةِ، مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ، أَوْ نَفْسِهِ»[181].
إذن فقد جعل النبيُّ ص تجريد التوحيد أكبر سبب لنيل الشفاعة، وهذا بالضبط عكس ما يقوله المشركون الذين يزعمون أنهم ينالون الشفاعة عندما يتَّخذون الأنبياء شفعاء وأولياء لهم من دون الله.
وببيان أوضح، إن العقيدة الشركية في الشفاعة، هي عين الاعتقاد الذي يعتقده العوام اليوم، الذين يعبدون الأنبياء والأولياء، ويخضعون لهم ويخشعون أمامهم، ويبكون ويتضرعون في مجالس عزائهم ويجعلون محبتهم في قلوبهم، ثم بعد ذلك يرتكبون آلاف الأعمال القبيحة ويظنون أن الأنبياء والأولياء سيشفعون لهم يوم القيامة! فهذه هي عقيدة المشركين الذين لا يعتمدون على العمل الصالح أبداً.
ومن جهل العوام أنهم يقولون: إذا أحببت النبي أو الإمام وتجعله شفيعك عند الله، فإن الله سيرحمك ويعفو عنك، كما يحدث عندما تنشئ علاقة محبَّة وارتباط بينك وبين مقرَّبي مَلِكٍ من الملوك وتجعلهم شفعاء لك عنده، فإن هذا سيجعلك موضعاً للطف الملك بك ورحمته لك! ولا يدري هؤلاء العوام الجُهَّال أن الشفاعة دون إذن من الله مستحيلة: ﴿مَن ذَا ٱلَّذِي يَشۡفَعُ عِندَهُۥٓ إِلَّا بِإِذۡنِهِۦ﴾ [البقرة: 255]. وأنه بعد أن يأذن الله للنبي ص والأئمة ص بالشفاعة، فإنهم لن يشفعوا إلا لمن كان الله راضياً عنه: ﴿وَلَا يَشۡفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ٱرۡتَضَىٰ﴾ [الأنبياء: 28].
قال الشاعر سعدي:
«إذا لم يكن الله راضياً عن عَبْدٍ، فلن تنفعه شفاعة جميع الأنبياء[182].
وخلاصة الكلام، إنه لأجل التطهير من العقيدة الشركية بشأن الشفاعة لا بد من رعاية ثلاثة أصول:
أولاً: الشفاعة مستحيلة دون إذن من الله.
ثانياً: أن الله تعالى لا يأذن بالشفاعة إلا أن يكون راضياً عن قول وعمل الشخص المشفوع له.
ثالثاً: إن القول والعمل الذي يرضي الله تعالى هو التوحيد الخالص المجرد من شوائب العقائد الشركية، وكذلك متابعة الرسول ص وسنته الصحيحة.
فإذا لم تتحقق تلك الشروط الثلاثة فلن تنفع أحداً شفاعة الشافعين.
قال [مولانا جلال الدين الرومي] صاحب المثنوي:
«قال الرسولص: إذا كنت تريد الجنة من الإله، فلا تطلب شيئاً من أحد.
وعندما لا تطلب شيئاً من أحد، فأنا كفيل لك بجنة المأوى ورؤية الله»[183].
وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ الطَّاهِرِينَ.
[180] ومن ذلك ما رووه عن الرسول ص: أنه قال لعلي: «يا علي إن شيعتك مغفور لهم على ما كان فيهم من ذنوب وعيوب». (الأمالي للصدوق 66، وبحار الأنوار65/7). [المترجم] [181] الحديث مروي من طرق أهل السنة فقط، وهو في صحيح البخاري، ح (99)، ومسند أحمد (2/373). كلهم عن أبي هريرةس. [المصحح] [182] اگر خداى نباشد ز بندهاى خوشنود شفاعت همه پیغمبران ندارد سود [183] گفت پیغمبر که جنت از اله چون نخواهی تو شفیعم مر تو را گر همیخواهی ز کس چیزی مخواه جنت المأوی و دیدار خدا وهو إشارة إلى حديث ثَوْبَان س، أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ص: «مَنْ يَتَقَبَّلُ لِي بِوَاحِدَةٍ أَتَقَبَّلُ لَهُ بِالْجَنَّةِ؟» . قَالَ: قُلْتُ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: «لَا تَسْأَلِ النَّاسَ شَيْئًا»... (أخرجه ابن ماجه في سننه، 1/588، ح(1837)، وأحمد في مسنده، 37/67، وغيرهما، قال الألباني: صحيح). [المصحح]