توحيد العبادة

فهرس الكتاب

بداية عبادة الأصنام بين البشر

بداية عبادة الأصنام بين البشر

إن سبب عبادة الأوثان واتخاذ الأصنام أمران:

الأول: عبادة النجوم كما بيّناه في باب تحريم التنجيم.

والثاني: عبادة الأموات.

أما عبادة الأموات، فيحتاج بيانها إلى تقديم مقدمة:

يظهر من طقوس دفن الأموات لدى الأمم القديمة، أنهم كانوا يظنون أنهم عندما يدفنون ميتاً فإنهم يدفنون شيئاً حياً معه أيضاً في التراب. فمثلا كان اليونان القدامى كانوا إذا دفنوا الميت، نادوا روحه باسمه ثلاث مرات، ويدعون له بأن يعيش تحت الأرض بسعادة، ويقولون له ثلاث مرات: «ترافقك السعادة وترتاح من كل هم وحزن»، وكانوا يعتقدون ببقاء الإنسان تحت التراب إلى درجة أنهم كانوا يتصورون أن الميت يشعر باللذة والألم في قبره كالأحياء تماماً.

(أما تعاليم الإسلام فتقول إن الروح تتعذب أو تتنعم في عالم آخر غير عالم القبر، يسمى بعالم البرزخ)، وكان اليونان القدامى يكتبون على القبر «هنا مرقد أو مكان الراحة والسكون لفلان». وانتقلت إلينا هذه العبارة بعد قرون، ولا تزال متداولة بيننا اليوم، كأثر باقٍ من المعتقدات القديمة التي وصلت إلينا، هذا في حين أنه لا يوجد مسلم اليوم يعتقد أن القبر ذاته مكان لراحة المقبور الأبدي.

لقد كانت الأمم القديمة، تعتقد بحياة الإنسان تحت التراب إلى درجة أنها كانت تدفن دائماً مع الميت بعض الأغراض، مثل الألبسة والأواني وآلات الحرب، لأنها تعتقد أن الأموات يحتاجونها، حتى أنهم كانوا يصبون الخمر على قبر الميت كي لا يعاني من العطش، ويضعون على قبره الطعام كي لا يتألم من الجوع، بل كانوا يقطعون رؤوس خيول الميت وغلمانه – أي عبيده – ويدفنونها معه حتى يخدموه كأيام حياته.

وبناءً على هذه العقيدة، كانوا يعتبرون دفن الأموات واجباً لأن الروح منوطة بالجسد وعندما يوضع الجسد في مثواه الترابي فإنه يتمتَّع بحياة جديدة. أما الروح التي ليس لها قبر معيَّن فإنها تبقى تائهةً هائمةً بلا مكان، ورغم شوقها إلى الراحة والسكون الأبديين بعد مشقات الحياة وآلامها، لا تصل أبداً إلى الجسم وتبقى تائهةً على صورة شبح لا يجد الراحة ولا يتمتع بالهدايا والأغذية التي يحتاجها، وهذا ما يجعل هذه الروح في عاقبة الأمر سيئة الأخلاق وشرسة، فتبدأ بإيذاء الأحياء وترسل إليهم الأمراض المختلفة وتقوم بإهلاك زروعهم وثمارهم وتخيف الناس لعلها بذلك تدفعهم إلى دفن جسدها وتخليصها من التيه والضياع، وكانوا يعتقدون أنه ما لم يدفن الجسد فإن روحه تبقى شقيةً، فإذا دفن جسدها صارت سعيدة. وكانوا يطلقون على الروح الشريرة لقب الجن والشيطان.

وكما قلنا إن كثيراً من البشر في العصور السابقة كانوا يعتقدون بآداب وطقوس خاصة لدفن الموتى، وكان أحدهم مشغول البال دائماً في أنه هل ستقام عليه تلك الطقوس بعد موته أم لا، وكانوا يرون عدم دفن الميت في القبر أصعب من الموت بمراتب، لأن القبر في عقيدتهم كان محلاً للسعادة الأبدية.

وقد عاقب أهالي أثينا بعض قادة الحروب في المعارك البحرية الذين توانوا عن دفن القتلى واكتفوا برمي أجسادهم في الماء، فأعدموهم؛ ولا عجب في ذلك، لأن أولئك القادة العسكريين كانوا تلاميذ الفلاسفة وكانوا يعتبرون الروح منفصلة ومتميزة عن الجسم، فلما لم يكونوا يعتقدون بالارتباط بين الروح والجسد، لم يكن هناك في نظرهم فرق بين فناء الجسد في الماء أو في التراب لذا كانوا يرمون الجنود القتلى في البحر، أما أهالي اليونان حتى الذين كانوا منهم في أثينا فكانوا لا يزالون متمسكين بعقائدهم القديمة، ولذلك أعدموا مثل أولئك القادة بتهمة الكفر وانعدام الدين، هذا رغم أن فتوحات أولئك القادة حفظت أثينا من ضرر الأعداء، لذا كان أقرباء المقتولين يلبسون الحداد ويطالبون بالانتقام لقتلاهم من ديوان العدل (المحاكم).

وفي المدن القديمة، كان القانون يعاقب أحياناً المجرمين الكبار بحرمانهم من الدفن وطقوسه، وكان ذلك من أشد العقوبات لأنهم كانوا بذلك يعاقبون روح المجرم أيضاً التي كان ينتهي بها الأمر بتلك العقوبة إلى العذاب الأبدي.

كان أقدم تصور للإنسان عن الموت هو أن الإنسان يعيش من جديد تحت التراب وروحه لا تبتعد أبداً عن جسده، بل تبقى في القبر ذاته الذي دفنت فيه عظام الميت. والإنسان الذي يعيش تحت التراب لا تختلف حياته كثيراً عن حالته الأولى بأن يصبح مثلاً مستغنياً عن الطعام، بل إنه لا يزال يأكل ويشرب لذا كانوا يأخذون للأموات الطعام في أواني خاصة في أيام معينة من السنة!