بن بست

فهرست کتاب

الجوزجاني في الميزان:

الجوزجاني في الميزان:

نظرا إلى أن إبراهيم بن يعقوب السعدي الجوزجاني (ت ۲۵۶ ه‍) هو أول من فتح باب الطعن والجرح لرواة أهل الكوفة ـ كما سترى لا لشيء إلا لأنهم من أتباع مدرسة أهل البيت التي لا يطيق الجوزجاني ومن على شاكلته أن يسمع ولو رواية واحدة أو معلومة بسيطة ينقلها له رواة هذه المدرسة حتى ولو كانت هذه المعلومة أو تلك الرواية فيها خلاصه من النار ـ فإن الوقوف ـ ولو قليلا ـ عند الجوزجاني، ومعرفة آراء وأقوال الآخرين فيه، يجعلنا نلقي الضوء على ما تبناه من اسس في جرح وتعديل الرواة، ويجعلنا نطلع الآخرين ـ الذين لم يتسن لهم معرفته جليا ـ على مدى بغضه لعلي ÷، والكيفية التي يقبل بها الراوي وروايته خاصة من كان كوفيا.

قالوا فيه:

الجوزجاني، سكن دمشق، وحدث عن جماعة، وروى عنه جماعة. قال ابن منظور: إن الجوزجاني سكن دمشق، يحدث على المنبر، ويكاتبه أحمد بن حنبل، فيتقوى بكتابه، ويقرؤه على المنبر، وكان شديد الميل إلى مذهب أهل دمشق في التحامل على علي [۲۷۱].

أما الدار قطني، فقد قال عنه: إنه من المخرجين الثقات، أقام بمكة مدة، وبالرملة مدة، وبالبصرة مدة. وكان من الحفاظ المصنفين، والمخرجين الثقات، لكن كان فيه انحراف عن علي بن أبي طالب [۲۷۲].

كما قال عنه ابن حجر: إبراهيم بن يعقوب بن إسحاق الجوزجاني رمي بالنصب [۲۷۳].

أما الذهبي فهو الآخر يقول عنه: وكان شديد الميل إلى مذهب أهل دمشق في التحامل على علي [۲۷۴].

مبناه في الجرح والتعديل:

جعل الجوزجاني حب علي ÷ أو بغضه مقياسا لرد الرواية أو قبولها، وكأنه بهذا وضع شرطا إضافيا للرد والقبول، فبقدر ما يكون الراوي مبغضا لعلي، أو لا يذكره بخير، تقبل روايته عنده، وهو ثقة، ثبت، عدل، صدوق، وبقدر ما يكون الراوي ذاكرا لفضائل علي، أو محبا له، أو مواليا، تكون روايته مردودة، وهو مجروح ومطعون فيه. ولسخف مبناه هذا فقد حمل المحدثين على إسقاط اعتبار كلامه في أهل الكوفة، فهذا عبد الفتاح أبو غدة يقول: وقد استقر قول أهل النقد فيه على أنه لا يقبل له قول في أهل الكوفة، كما قاله شيخنا الكوثري في تأنيب الخطيب [۲۷۵].

أما ابن حجر فقد قال ما نصه: أما الجوزجاني فقد قلنا غير مرة: إن جرحه لا يقبل في أهل الكوفة لشدة انحرافه ونصبه [۲۷۶].

وقال أيضا: وممن ينبغي أن يتوقف في قبول قوله في الجرح من كان بينه وبين من جرحه عداوة سببها الاختلاف في الاعتقاد، فإن الحاذق إذا تأمل ثلب أبي إسحاق الجوزجاني لأهل الكوفة رأى العجب، وذلك لشدة انحرافه في النصب، ولشهرة أهلها بالتشيع، فتراه لا يتوقف في جرح من ذكره منهم بلسان ذلقة وعبارة طلقة، حتى أنه أخذ يلين مثل الأعمش، وأبي نعيم، وعبيد الله بن موسى، وأساطين الحديث وأركان الرواية، فهذا إذا عارضه مثله أو أكبر منه فوثق رجلا ضعفه قبل التوثيق [۲۷۷].

والعجب كل العجب ممن يعد الجوزجاني ثبتا ومن الثقات مع تصريحه بأنه مبغض لعلي الذي ـ إضافة إلى ما ورد فيه من مناقب عن رسول الله ج ـ لا يضارعه أحد من الصحابة على الاطلاق إيمانا وعلما وجهادا... وكما يقول عنه محمود أبو رية: «... وذلك مما أتيح له من صفات ومزايا لم تتهيأ لغيره من بين الصحابة جميعا، فقد رباه النبي ج على عينه، وعاش زمنا طويلا تحت كنفه، وشهد الوحي من أول نزوله إلى يوم انقطاعه، بحيث لم تند عنه آية من آياته...» ثم يختم قوله بأعظم وأدق وأقصر عبارة قرأتها في تصوير ظلامة علي ÷: «لك الله يا علي، ما أنصفوك في شيء!» [۲۷۸].

إن ممن وصف الجوزجاني بأنه (ثقة) النسائي [۲۷۹] ـ كما قال عنه أبو بكر الخلال ـ: إبراهيم بن يعقوب جليل جدا، وكان أحمد بن حنبل يكاتبه ويكرمه إكراما شديدا [۲۸۰].

وكم هو دقيق ما قاله بشار عواد محقق كتاب «تهذيب الكمال»: والله لا أدري كيف يكون ثبتا من كان شديد التحامل على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، نعوذ بك اللهم من المجازفة [۲۸۱].

هذا وإن الجوزجاني كان حريزي المذهب ـ نسبة إلى حريز بن عثمان المعروف بالنصب ـ [۲۸۲]. وكما يقول عنه عمرو بن علي: كان ينتقص عليا وينال منه، لكنه قال في موضع آخر: ثبت شديد التحامل على علي، هذا غريب، ويقول عواد: ولكن الغريب حقا قول الذهبي عنه في الميزان: كان ـ أي حريز ـ متقنا ثبتا، لكنه مبتدع. وقال في الكاشف: ثقة... وهو ناصبي. وقال في المغني: ثبت لكنه ناصبي. وقال في الديوان: ثقة لكنه ناصبي مبغض [۲۸۳].

وهنا يواصل عواد قوله حول كلام الذهبي هذا، فيقول: لا نقبل هذا الكلام من شيخ النقاد أبي عبد الله الذهبي، إذ كيف يكون الناصبي ثقة، وكيف يكون المبغض ثقة؟ فهل النصب وبغض أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بدعة صغرى أم كبرى؟

والذهبي نفسه يقول في الميزان: ۱ / ۲۲۶ في وصف البدعة الكبرى: «الرفض الكامل والغلو فيه، والحط على أبي بكر وعمر، والدعاء إلى ذلك، فهذا النوع لا يحتج بهم ولا كرامة» أو ليس الحط على علي والنصب من هذا القبيل؟

وقد ثبت من نقل الثقات أن هذا الرجل كان يبغض عليا، وقد قيل: إنه رجع عن ذلك فإن صح رجوعه فما الذي يدرينا إنه ما حدث في حال بغضه وقبل توبته؟

وعندي أن حريز بن عثمان [۲۸۴] لا يحتج به، ومثله مثل الذي يحط على الشيخين، والله أعلم [۲۸۵].

والذي دعاني لنقل كلامه هو صلاحيته للرد على كل من يجمع بين الوثاقة وبغض علي ÷، أو العدالة أو الصدق ونصب العداء لعلي ÷.

عصابة بعضها من بعض: حريز، الجوزجاني، العجلي، و... ارتضت لنفسها المسير على نهج واحد ومذهب قذر في نصب العداء لعلي ÷ وبغضه، هؤلاء ومن على شاكلتهم وطريقتهم هم النواصب الذين قضوا حياتهم في بغض أكرم بيت عرف في تاريخ الاسلام، البيت الذي طهره الله وارتضاه ليكون نورا ومنارا يهتدى به، فهم أعلام الدين، وألسنة الصدق.

هذه العصابة الناصبة ارتأت لنفسها أن تعادي أعظم إنسان بعد رسول الله ج فضلا وإيمانا وعلما... بشهادة جميع المسلمين إلا هذه الزمرة التي ابتليت بها هذه الامة.

لقد عانى أكثر رواة الشيعة وخاصة رواة مدرسة أهل البيت في الكوفة من هؤلاء النواصب وأمثالهم، هذه المدرسة التي كانت معقل العلم ومهد المعرفة وموطن محبي وموالي العترة الطاهرة، وكانت مركزا علميا تمحورت علومه حول القرآن وتفسيره والسنة الشريفة ورواياتها، والفقه وأحكامه، إضافة إلى علوم اخرى فاستقطبت آلاف الطلبة من شتى البقاع الإسلامية.

يقول محمد بن سيرين [۲۸۶]: «أدركت بالكوفة أربعة آلاف شاب يطلبون العلم» [۲۸۷].

لقد تخرج من هذه المدرسة المباركة علماء أجلاء، ورواة ثقات، ولا يضرهم أبدا من ساءت عقيدته وانحرفت نزعته، فأخذ يكيل لهم التهم، وينتقص من مكانتهم، ويضعف رواياتهم.

ثم إنني أقول: ليس معنى كلامنا المذكور أن جميع رواة مدرسة الكوفة هم موضع قبول عندنا، فقد يكون فيهم الضعفاء، وفيهم المجاهيل، وفيهم من ليس بعدل ولا ثقة... ولكننا نقول: إن المباني التي اتبعت في تضعيفهم ورفض رواياتهم هي مبان مخالفة لأبسط أصول البحث والجرح والتعديل.

[۲۷۱] مختصر تاريخ دمشق: ۴ / ۱۸۲، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: ۷ / ۲۸۱، تهذيب التهذيب: ۱ / ۱۹۸ الرقم ۳۰۰. [۲۷۲] مختصر تاریخ دمشق: ۴ / ۱۸۲، تاریخ مدینة دمشق لابن عساکر: ۲۸۱ / ۷، تهذیب التهذیب: ۱ / ۱۹۸ الرقم ۳۰۰. [۲۷۳] تقريب التهذيب: ۱ / ۴۶ الرقم ۳۰۴. وقال أيضا في مقدمة فتح الباري: ۳۸۸: الجوزجاني كان ناصبيا منحرفا عن علي. [۲۷۴] ميزان الاعتدال: ۱ / ۷۶ الرقم ۲۵۷. [۲۷۵] انظر هامش الرفع والتكميل: ۳۰۸، (نقلا عن تأنيب الخطيب: ۱۱۶). [۲۷۶] تهذيب التهذيب: ۵ / ۴۱. [۲۷۷] لسان الميزان: ۱ / ۲۷. [۲۷۸] أضواء على السنة المحمدية: ۲۴۹. [۲۷۹] تهذيب الكمال: ۲ / ۲۴۸. [۲۸۰] تهذیب الکمال: ۲ / ۲۴۸. [۲۸۱] هامش تهذيب الكمال: ۵ / ۵۷۴. وفي هامش تهذيب الكمال أيضا: ۲ / ۲۵۰: وقد قال الامام الذهبي في أبي إسحاق الجوزجاني: (الثقة الحافظ أحد أئمة الجرح والتعديل) الميزان: ۱ / ۷۵، ولكن المطالع لكتابه يجد أنه جرح خلقا كثيرا بسبب العقائد ولا سيما من العراقيين، ولا يصح ذلك إذ به تسقط كثير من السنن والآثار، وهو بلا شك كان عنده انحراف عن سيدنا علي بن أبي طالب. [۲۸۲] تهذيب الكمال: ۲ / ۲۴۸ ـ ۲۴۹، راجع كتاب الثقات لابن حبان: ۸ / ۸۱. وفي تهذيب التهذيب: ۱ / ۱۵۹ ان حريز حروري المذهب. وفي كتاب المجروحين: ۱ / ۲۶۸ انه كان داعية إلى مذهبه. [۲۸۳] راجع الكاشف: ۱ / ۱۶۹ الرقم ۹۹۴، ميزان الاعتدال: ۱ / ۴۷۵ الرقم ۱۷۹۲، المغني: ۱ / ۱۵۴ الرقم ۱۳۵۸. [۲۸۴] قال أحمد بن سعيد الدارمي، عن أحمد بن سليمان المروزي: حدثنا إسماعيل بن عياش، قال: عادلت حريز بن عثمان من مصر إلى مكة فجعل يسب عليا ويلعنه، راجع تهذيب الكمال: ۵ / ۵۷۶، وفي هامش الكتاب: إسنادها جيد، الدارمي ثقة اتفق عليه البخاري ومسلم، وأحمد بن سليمان صدوق أخرج له البخاري في الصحيح، وإسماعيل بن عياش صدوق في روايته عن أهل بلده، وهو حمصي. [۲۸۵] هامش تهذيب الكمال: ۵ / ۵۷۹. [۲۸۶] قال الذهبي: محمد بن سيرين، الامام، شيخ الاسلام، أبو بكر الأنصاري، الأنسي البصري، مولى أنس بن مالك، توفي لتسع مضين من شوال، سنة عشر ومائة. راجع سير أعلام النبلاء: ۴ / ۶۲۱. [۲۸۷] سير أعلام النبلاء: ۸ / ۲۰۸.