دراسة علمية لأحاديث المهدي

فهرس الكتاب

17 - باب ذكر الأدلة التي ذكرها شيخ الطائفة على إثبات الغيبة

17 - باب ذكر الأدلة التي ذكرها شيخ الطائفة على إثبات الغيبة

ذكر المجلسيّ في هذا الباب عدة براهين واستدلالات لإثبات غيبة المهدي وهي استدلالات أوهن من بيت العنكبوت. أحد أدلته مثلاً أن الخلق مع كونهم غير معصومين لا يجوز أن يخلو أمرهم من رئيس في وقت من الأوقات وأن من شرط الرئيس أن يكون مقطوعاً على عصمته، ثم لا يخلو ذلك الرئيس من أن يكون ظاهراً معلوماً أو غائباً مستوراً، فإذا علمنا أن كل من تُدَّعى له الإمامة ظاهراً ليس بمقطوع على عصمته بل ظاهر أفعالهم وأحوالهم ينافي العصمة علمنا أن من يُقطَع على عصمته غائب مستور!!

والجواب: إننا نقول: كلا، لا يحتاج الخلقُ إلى رئيس معصوم، لأنه إذا كانت الحاجة له لأجل حفظ الدين فإن حفظ الدين واجبُ جميع المسلمين والأمة محفوظة عن أن تجتمع على الخطأ كما قال رسول الله ص: «لا تجتمع أمتي على خطأ»[244]. أضف إلى ذلك أن مَنْ تَدَّعون عصمَتَهم هم أنفسهم يعتبرون أنفسهم قابلين للخطأ ومُذنبين[245]. ثم إنّ رئيساً وحاكماً غير معصوم يكون حياً بين الناس ويخدم الناس ويمنع الظلم والتعديات ويُصلح أمورهم ويُواجه أعداءهم ويبني لهم المصانع ويُعبّد لهم الطرق أفضل من معصوم غائب مخفيّ مثله مثل شخص معدوم لا يستطيع خَلْقُ اللهِ الوصولَ إليه! وبعبارة أخرى الوجود الناقص أفضل من العدم. هذا إذا افترضنا فعلاً أن هناك معصوماً غائباً والحال أنه ليس لدينا أيّ دليل قويم على وجود مثل هذا الغائب.

وبمعزل عما ذُكر، فإن العصمة ليست شرطاً ضرورياً لنجاح الحاكم في حكمه، فلاحظوا أنكم تعتبرون حضرة عَلِيٍّ (ع) وحضرة المُجتبى (ع) معصومَيْن ولكنكم تعترفون أن مُخالفيهما لم يدعاهما يُحققان أهدافهما السامية بالشكل المطلوب وحالوا دون وصول سائر المعصومين إلى سُدّة الحكم!

ومغالطة المَجْلِسِيّ الأخرى قوله: إن الله قادر على أن يحفظ عبداً من عباده حيّاً ويُعمّره آلاف السنين.

والجواب إن إمكانية الشيء أعمّ من وقوعه، فالقدرة وحدها لا تكفي دليلاً على وقوع المقدور. فالله تعالى كان قادراً على أن يُعمّر حضرة إبراهيم وموسى ونبيّ الإسلام ألف عام لكنه لم يفعل ذلك، فمقدورات الله لا نهاية لها ولكنه لا يفعل كل مقدور وممكن. فعلى المُدّعي أن يأتي بدليل على الوقوع ويُثبت أن المقدور الفلاني واقع فعلاً، أما الاستدلال بإمكانية الوقوع فقط -والتي لا يختلف فيها أحد- فلا يُفيد شيئاً في إثبات الوقوع الفعلي. (فَلَا تَتَجَاهَلْ).

ودليله الآخر: وجود أخبار كثيرة (يدَّعي تواترها المعنوي) عن الأئمة ورسول الله ص تدلُّ على إمامة المهدي وغيبته وظهوره.

ولكن الحقيقية التي تم بيانها في كتاب «شَاهْرَاه اتِّحَاد» [طَرِيق الاتِّحاد] القَيِّم (تأليف المرحوم قلمداران) أو كتاب «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول» وكتاب «نقد مفاتيح الجنان في ضوء آيات القرآن» (ص 361 إلى 395) وكتاب «رهنمود سنت در ردّ اهل بدعت» [هداية السنة في ردّ أهل البدعة] (للمؤلِّف) ونظائرها من الكتب، هي أن أحاديث الإمامة هذه إنما وُضِعَتْ في القرن الثاني الهجري فما بعد ولا اعتبار لها، لاسيما أن المتون التي تتضمن أموراً مخالفة للقرآن والعقل أو يُناقض بعضها بعضاً في تلك الأحاديث ليست بالقليلة، هذا بصرف النظر عن أن كثيراً من رواتها أشخاص مجروحون ومطعون بحديثهم.

أضف إلى ذلك أنه لو كانت تلك الأحاديث التي تستندون إليها صادرة فعلاً عن الشارع لَمَا ظهرت كل تلك الحيرة والاختلافات لدى أتباع الأئمة بعد وفاة كل إمام! (راجعوا الكتاب الحاضر، مقالة «المهدي الموعد وغيبته»، ص 42 وكتاب «شَاهْرَاه اتِّحَاد» [طَرِيق الاتِّحاد]، ص 233 فما بعد، وكتاب «خاندان نوبختى» [أي: الأُسْرَةُ النَّوْبَـخْتِيَّة][246]، ص 50 إلى 53 و 162 إلى 165).

كما ينبغي أن نُذكّر بأن دليلهم على ضرورة حكم المعصوم لا بُدّ أن يصدق في جميع الأزمنة والعصور. فمثلاً حتى مئة سنة سابقة لم يكن هناك هاتف ولا برقيات ولا مذياع ولا اتصالات لاسلكية......الخ، وَمِنْ ثَمَّ فلما كان حضرة عَلِيٍّ (ع) يُعيّن فرداً غير معصوم والياً على مصر أو خراسان كان على ذلك الشخص غير المعصوم أن يحلّ مشاكل منطقته بالعودة إلى الكتاب والسنة دون استفتاء المعصوم، ولم يكن أحد يعترض على هذا الأمر. بناءً على ذلك ففي الزمن القديم -باستثناء مناطق محدودة- لم يكن الناسُ في سائر مناطق بلاد الإسلام قادرين على الوصول إلى المعصوم، بل كانت معظم مناطق عالَم الإسلام تُدار دون إشراف المعصوم. كما دعا القرآن الكريم المسلمين إلى اتِّباع الكتاب والسنَّة والتشاور في أمورهم (الشورى: 38) ولم يُشِر أدنى إشارة إلى إمام معصوم يأتي بعد النبي! وينبغي أن ننتبه إلى أن الأئِمَّة - كما تقولون أنتم أنفسكم - ليسوا أعلى رتبةً من الرسول الأكرم ص، فإذا علمنا أنه ليس لدينا أي دليل قويم على أن الأنبياء ومنهم خاتم النبيين ص كانوا معصومين في الأمور التي لا تتعلق بالوحي وإبلاغ الشريعة[247]، بل كانوا في غير مسائل الوحي والتبليغ، بشراً مثل سائر البشر- كما يصرح القرآن - يمكن أن يشتبهوا (في الأمور الدنيوية) أو يتصرفوا بخلاف الأولى في مسائل إدارة الشؤون المختلفة[248]، علمنا أن وضع الإمام لن يكون أفضل من ذلك[249]. (فتأمَّل)

لم يكن العُمَّال الذين كان رسول الله ص ينصبهم في مكة واليمن والمناطق القاصية والدانية معصومين، وكانوا يُديرون شؤون الناس على ضوء الكتاب والسنَّة، ولم يكن في مناطقهم «معصومٌ» يدير زمام الأمور ويحكم الناس. أمَّا إثبات العصمة بالمعنى الذي يُعجبكم لفرد من أفراد الأمَّة بعد ختم النُّبُّوة فإنه يحتاج إلى دليل شرعي قويم، ولم تقدِّموا مثل هذا الدليل[250]. ثانياً: على فرض أن الإمام عَلِيّاً ÷ كان معصوماً، فالمُسلَّم به أن عُمَّاله الذين كان ينصبهم ولاةً على مصر أو المدينة أو مكة أو البلاد البعيدة لم يكونوا معصومين، وكانوا يتَّخذون قراراتهم على ضوء فهمهم للكتاب والسنة فحسب، ويقومون بأعمال لم يكن الإمام يطَّلع عليها. بناءً على ذلك سواءً قلنا إن عَلِيّاً أو الحسن عليهما السلام كانا معصومين أو لم نقل ذلك فإننا نسأل: ألم يكن من الواجب على نُوَّابهم والولاة المنصوبين من قِبَلِهم في المناطق البعيدة، والذين لم يكونوا قادرين على الوصول إلى الإمام عَلِيٍّ أو الحسن في كل وقت، أن يديروا شؤون الأمة على ضوء فهمهم للكتاب والسنة؟!!

بناءً على ذلك فإن عصمة الإمام عَلِيٍّ أو الإمام الحسن إنما تُفيد أهل المدينة التي يعيشان فيها، أما أهالي المدن الأخرى لاسيما المدن البعيدة والمناطق التي يصعب الوصول إليها فلن تُفيدهم تلك العصمة شيئاً كثيراً، ونتيجةً لذلك فحتى لو كان هناك معصومٌ فإن نُوَّابه والولاة المنصوبين من قِبَلِه غير المعصومين الذين يعيشون في مناطق بعيدة كانوا يقضون بين الناس ويديرون الأعمال الجزئيَّة وشؤون الحياة الاجتماعيَّة المختلفة دون وجود العصمة، إذن تبقى الأصول العامّة التي لا يجوز تجاوزها وهذه الأصول العامّة في رأينا مذكورة في الكتاب والسنة، والله تعالى قادر على أن يُنزِّل تعاليم الشرع وأصوله وأحكامه على نحو تكون فيه القواعد الكلية والأصول العامّة الضرورية التي يحتاجها الناس مذكورةً ومحفوظةً، ولا تكون هناك حاجة بعد رسول الله ص إلى إمام معصوم لأجل معرفتها، وبحمد الله لقد تحقَّق مثل هذا الأمر ونجح النبيّ الخاتَم ص نجاحاً كاملاً في إبلاغ دين الله وإكماله وإتمام نعمة الشريعة، وإلا فلو أصررتم على قاعدتكم أي «لزوم عصمة إمام المسلمين بعد النبي» فإنكم ستُواجهون نقصاً شديداً في المعصومين وسيلزم من قولكم أن يجعل الله معصوماً في كل منطقة، وأنتم أنفسكم تُقرّون أنه تعالى لم يفعل ذلك! فأنتم أيضاً تؤمنون بمعصوم واحد في كل عصر وهو لا يُلبّي حاجة الناس إلى المعصوم، وَمِنْ ثَمَّ فإن ذلك يُزعزع قاعدة ضرورة وجود الإمام المعصوم وينسفها من أساسها. وقد كان الأمر على هذا المنوال حتى في أواخر عهد حياة رسول الله ص المباركة، أي كان الولاة المنصوبون من قِبَلِه في المناطق البعيدة يفصلون في الأمور ويقضون بين الناس استناداً إلى الكتاب والسنة ولم يكن لدى أحدٍ أيُّ شُبهة في هذا الأمر.

وما قلناه يتعلّق بالزمن الذي كان يوجد فيه شخص معصوم -حسب قولكم- مشهود في إحدى المدن على الأقل، أما بعد حضرة العسكري ÷ فإن المعصوم -حسب ادِّعائكم- غاب ولم يعد بالإمكان الوصول إليه، وفي نظرنا هو شخص وهميٌّ وغير موجود، وبالنتيجة لا فرق بيننا وبينكم في عدم الاستفادة من المعصوم، وبالطبع فإن الأهداف والفوائد المُرتجاة من حضور المعصوم -أي القاعدة التي تدَّعونها بشأن ضرورة وجود المعصوم- لن تتحقَّق عند غيبته على الإطلاق، بل الإمام والقائد غير المعصوم الذي يسعى على الأقل إلى عدم تخطّي القواعد العامة للكتاب والسنة في شؤون الحياة أفضل لنظم أمور الأمة من إمام معصوم ليس له أيّ تأثير في إدارة المجتمع (نهج البلاغة، الخطبة 40)[251] وذلك لأن الناس مُضطرون إلى الرجوع إلى إمام منطقتهم لحلّ مشاكلهم المختلفة. إن حاجة الناس إلى الإمام إما أن تكون حاجتهم إلى عِلْمِهِ كي يستفيدوا من تبليغه للدين وتعليمه له، أو تكون حاجتهم إلى عَمَلِهِ وحُكْمِهِ كي يُساعد الناس بما يملكه من سلطة وقدرة على نظم أمور حياتهم، أمَّا إمامُكُم المنتَظَر فلا يُحقّق أيّة واحدة من هاتين الفائدتين[252].

واليوم أوكلتم أنتم أيضاً إدارة جميع شؤون الناس -دون دليل شرعي قويم- إلى فرد غير معصوم تحت عنوان «ولاية الفقيه» الذي سمعت بأذني من المذياع قوله في إحدى خطبه أنه ليس في القرآن سورة عن الكفار ولكن لدينا سورة عن المنافقين!! ونسي أن في القرآن سورة هي سورة «الكافرون» (السورة رقم 109 في القرآن)! وهو من المُغرمين بـ «ابن عربي» و «الملا صدرا» رغم أن كثيراً من فقهاء الشيعة لهم تحفّظ كبير على أفكارهما. بناءً على ذلك فأنتم أيضاً عملياً مثلنا الذين نعتبر المهدي شخصاً موهوماً تقومون بإدارة شؤون الأمة دون إمام معصوم، ولكنكم من الناحية الأخرى تقولون للناس إن وجود الإمام المعصوم ضروري! في حين أنه لو كانت تلك الضرورة حقيقية لما امتنع الله تعالى عن بيان ذلك لعباده[253].

الشُّبهة الأخرى التي يعتبرونها دليلاً في هذا الموضوع قولهم: إن الناس هم الذين سبَّبوا غيبة الإمام!! هذا في حين أنه: أولاً: ليس لدينا دليل واضح ومُتقن على الإمامة الإلهية لهذا المهدي حتى يعتبر الناس أن اتِّباعَه واجبٌ عليهم. وثانياً: لماذا لم يغب أيّ واحد من الأئمة منذ زمن الإمام السجاد ÷ إلى زمن حضرة العسكري ÷ رغم أنه لم يكن لأيّ منهم رئاسة فعلية وزعامة عامَّة للمسلمين ومع ذلك لم يعتبروا أن الناس يستحقُّون الحرمان من وجودهم، ولكن فجأةً ظهرت ضرورة غيبة الشخص الذي هناك شكّ كبير في وجوده وولادته من الأساس؟! إنكم حتى اليوم لم تأتوا بأيّ دليل أو شبه دليل على أن زمان الإمام الجواد ÷ أو الإمام الهادي÷ يختلف اختلافاً أساسياً عن زمن المهدي!! كما لا يوجد أيّ دليل على أن الخطر في زمن المهدي على حياته كان أكبر من الأخطار التي كانت تحيق بالأئمة قبله في زمنهم!! ثالثاً: ينتظر الناس اليوم في جميع أنحاء إيران مجيء المهدي ويدعون الله ليل نهار أن يُعجّل في فرجه ويذهبون من كل حدب وصوب ومن كل فجٍّ عميق بعيون دامعة لزيارة جمكران ويبذلون أرواحهم طاعةً للنائب غير المعصوم للمهدي - حسب قولهم - فهل أهليّة هؤلاء الناس في زمننا أقل من أهلية الناس زمن الإمام السجاد ÷ أو زمن الإمام الجواد ÷ أو زمن حضرة العسكري ÷ الذين لم يغبْ إمامهم، وغاب إمام الناس في زماننا وحُرموا من حضوره بينهم؟! ماذا فعل الناس في زمننا مما لم يفعله الناس في زمن حضرة الإمام المُجتبى ÷ أو حضرة سيد الشهداء -عليه آلاف التحية والثناء- فاستحقوا أن يغيب إمامهم؟!!

ثم يقول المَجْلِسِيّ: إن قول الكيسانية والناووسية والواقفية باطل!! فنسأل: إن لدى هؤلاء -لاسيما الإسماعيلية- روايات عديدة تدل على أن الموعود هو الشخص الذي يؤمنون به، أما أنتم فلا تقبلون بأحاديثهم! فما الفرق بين أحاديثكم وأحاديثهم حتى تقبلون بأحاديثكم وتعتبرونها حقاً وترفضون أحاديثهم وتعتبرونها باطلاً؟! على الأقل هم اعتبروا بعض الأشخاص أئمةً ممن لا شكَّ في ولادتهم، أما أنتم فقد اعتبرتم شخصاً تحوم حول ولادته شكوكٌ قويّةٌ جداً إماماً! ولقد أتى المَجْلِسِيُّ بالروايات التي استند الشيخ الطوسي إليها في كتابه «الغيبة»، وهي أحاديث لا يتمتَّع أيُّ واحد منها بوضع حسن كما مرّ معنا في الصفحات الماضية.

يقول الشيخ الطوسي:

"الكلام في غيبة ابن الحسن (ع) فرعٌ لثبوت إمامته، والمخالف لنا إما أن يُسَلِّمَ لنا إمامته ويسأل عن سبب غيبته (ع) فنتكلَّف جوابه، أو لا يُسَلِّمَ لنا إمامته فلا معنى لسؤاله عن غيبة من لم يُثْبِت إمامته".

لهذا السبب نقول: إن الإمامة المنصوص عليها من الله -كما أثبتنا في كتبنا المختلفة- لا دليل عليها وقد قبلتم هذه العقيدة دون دليل قويم ولا تُقدّمون نصّاً شرعيّاً صحيحاً يُثبت هذا الادِّعاء، فهذه العقيدة التي تقول إنَّه لا بُدَّ أن يكون زعيمُ أمة الإسلام بعد رسول الله ص وبعد «إكمال الدين وإتمام النعمة» (المائدة: 3) معصوماً، لا دليل عليها وتنقضُها الآية 59 من سورة النساء[254] ومن الضروري في هذا الموضع مراجعة التنقيح الثاني لكتابنا «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول» ( ص 414 إلى 419 و ص 593 إلى 595 و ص 611 - 612).

ولقد تشبّث المَجْلِسِيّ ونظراؤه في هذا الباب بأنواع المُغالطات المختلفة أو بقصص من قبيل قصة كيخسرو[255] بل تشبّثوا حتى بالأكاذيب الفاضحة كي يُقنعوا الناس بالمهدي الموهوم ولم يتورّعوا عن قول أمور واضحة البطلان لتحقيق هذا الغرض، كقولهم مثلاً: "وإذا خاف على نفسه وجبت غيبته و لزم استتاره كما استتر النبي ص تارةً في الشِّعْبِ [يعني شعب أبي طالب] وأخرى في الغار [غار ثور] ولا وجه لذلك إلا الخوف من المضارّ الواصلة إليه"!! (بحار الأنوار، ج 51، ص 190).

ونسأل: لماذا لم يغب الإمامُ عَلِيٌّ ÷ والإمامُ الحسينُ ÷ ولم يُراعيا ذلك الواجب؟! ثانياً: لم يختفِ رسولُ اللهِ ص في شعب أبي طالب بل كان جميع الناس سواءً المؤمن منهم أم الكافر يعلم مكانه، كل ما في الأمر أن المشركين حاصروا النبيَّ ص وأتباعَه في ذلك المكان. 39ثالثاً: لقد اختفى النبيّ ص ثلاثة أيام على أكثر تقدير في غار ثور بسبب مُلاحقة المشركين له، ومن الواضح تماماً وضوح الشمس في رابعة النهار أن بحثنا حول الغيبة ليس مُطلقاً حول الغيبة المُتعارف عليها لمدّة قصيرة كيومٍ أو يومين أو أسبوعٍ أو أسبوعين أو شهرٍ أو شهرين أو حتى سنةٍ أو سنتين ..... بل تشكيكنا بغائبكم منشؤه عدم حصول العلم بولادته ووجوده الفعلي من الأساس، وأن غيبته إنما كانت عن أنظار جميع الناس -أعمّ من الصديق والعدو- ولم يكن اختفاؤه عن أنظار الأعداء فقط! ولابُدّ في هذا المقام من مراجعة ما ذكرناه في كتابنا «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول» (ص 698- 699). رابعاً: بعد أن اختفى النبيّ ص ثلاثة أيام في غار ثور ظهر للناس ولم يكن مخفياً عن أنظارهم ولا عن أنظار أبنائهم من بعدهم، لكن إمامكم ليس فقط لم يظهر للأجيال التالية فحسب بل لم يظهر لعشرات الأجيال بعد أهل القرن الهجري الثالث!! لقد رأى مشركو مكة وأطرافها رسولَ الله ص بأُمِّ أعينهم وسمعوا كلامه كما قال تعالى: ﴿فَقَدۡ لَبِثۡتُ فِيكُمۡ عُمُرٗا مِّن قَبۡلِهِۦٓۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ ١٦ [يونس : ١٦] ولم يكونوا مُنكرين لهذه الحقيقة ورأوه بينهم قرابة خمسين عاماً ولم يكن هناك من يُشكّك في وجوده ولهذا السبب لما اختفى النبيّ ص بضعة أيام في غار ثور قام المشركون بتعقّبه بكل جدّ وإصرار وعيّنوا جائزة لمن يقبض عليه لعلهم يتمكّنون من الإمساك به. بناءً على ذلك فإن اختفاء رسول الله ص بضعة أيام في الغار لم يكن ليُزعزع الاعتقاد بوجوده بأيّ وجه من الوجوه وإلا لو لم يكن أحد من أعداء النبيّ قد رآه رأي العين ولو كان وجود النبيّ مُعتَمِداً على بضعة روايات نقلها عدد من الأشخاص غير الموثوقين، فهل كان المشركون يتجشّمون كل ذلك العناء للبحث عنه؟! ثم إن النبيّ ص بعد وصوله إلى المدينة أظهر للناس أنه اختبأ في غار ثور مع أبي بكر فما علاقة ذلك بالمهدي الذي لا يوجد قول واحد مُتَّفق عليه حول أي من الأمور المُتعلّقة به (كزمن ولادته، ونحوها، واسم والدته، وسبب غيبته و ..... ) ولم يره أحد سوى بعض الضعفاء والمجهولين! يا تُرى لو أن أحداً من المشركين لم يكن قد رأى النبيّ، بل ادّعى بضعة أفراد غير موثوقين في مكة أن هناك نبيٌّ رأيناه نحن فقط وأن عليكم أن تؤمنوا به، ألم يكن لأهل مكة الحق بالقول: أيّ نبيّ هذا الذي لا يُشبه أحداً من الأنبياء السابقين الذين حضروا بين الناس ودعوهم إلى الإيمان وعلّموهم؟! ليس لدينا أيّ أثر أو دليل مُعتبر يثبت ولادة هذا النبي، ولا فائدة من البحث عنه وكل ما في الأمر أن عدداً من الأفراد غير الموثوقين ادّعوا وجوده ودعونا لقبول ذلك، مع أن وجود الزعيم والقائد لا بُدّ أن يثبت بالدليل والبُرهان، فادِّعاؤكم هذا يُشبه لعبة الاختفاء التي يلعبها الأطفال ولا تليق بالعقلاء والحكماء.

ثم شبّهوا غيبة المهدي بغيبة حضرة يوسف ÷ عن كنعان، مع أن حضرة يعقوب ÷ كان حاضراً وظاهراً وفي متناول أيدي الناس. وثانياً: لو كان يوسف غير ظاهر في كنعان فإنه ظهر في مصر وكان حاضراً بين الناس ولم يكن غائباً لا يستطيع أيّ إنسان أن يصل إليه!! أو يقولون: إن حضرة موسى ÷ غاب عن مصر!! في حين أنه من الواضح تماماً أنه إذا كان موسى قد غاب عن مصر فإنَّه ظهر في مَدْيَن وكان حاضراً هناك. ثالثاً: لم يكن موسى قد نال النُّبوة بعد أثناء وجوده في مدين فتشبيهكم وتمثيلكم لا محلّ له من الأساس. وإني لأتعجّب لماذا لا يعتبرون كل نوع من أنواع الهجرة أو السفر غيبة؟ فمثلاً لا يقولون: إنه إذا سافر أبُ الأسرة إلى الحجّ فقد غاب عن أسرته ومدينته، فكل الناس يغيبون وَمِنْ ثَمَّ فغيبة الإمام ألف سنة ليست بالأمر العجيب الذي يستحق السؤال!!!

وقد أجاب الشيخ الطوسي عن الإشكال الذي يقول: لو كان الخوف من العدوّ علّة غيبة المهدي وهذا الخوف بإقراركم كان موجوداً أيضاً زمن الأئمة الآخرين[256]، فلماذا لم يغيبوا هم أيضاً؟! أجاب الشيخ الطوسي إجابةً مضحكةً إذ قال: لقد مارس الأئمة الآخرون التقية وليس فقط لم يدّعوا الإمامة في كل مكان بل نفوا أحياناً الإمامة عن أنفسهم!! (إذن، فما ذنب الذين تُلقون باللائمة عليهم وتعتبرونهم مسؤولين عن حرمان الناس من وجود الإمام إذا نفوا الإمامة عن الإمام الذي نفاها هو بذاته عن نفسه؟!) لذا لم يكونوا يخافون!! هذا في حين أنه بناءً على ما رواه المَجْلِسِيّ، روى الشيخ الطوسي عن الإمام الصادق ÷ قوله: "كان هذا الأمر فيَّ فأخَّره الله" [يعني أن ظهور قائم آل محمد كان سيتحقق بي لكن الله أخّره وأجّل موعده!] (بحار الأنوار، ج 52، ص 106، الحديث 12). فبالله عليكم لاحظوا أيّ حُجج طفولية يخترعون! 40أولاً: ألا تقولون إن التقيّة كانت واجبة على الأئمة فلماذا لم يتّقِ المهدي أيضاً ولو فعل ذلك -كما فعل سائر الأئمة- لَمَا كان هناك من حاجة إلى غيبته بالطبع وفي هذه الحالة كان سيقدر على القيام ببعض وظائف الإمامة مثل أجداده وكان الناس سينتفعون إلى حدّ ما من فوائد الإمامة. وأساساً: بأيّ دليل كانت التقية واجبة على أجداده ولم تكن واجبة عليه؟! ألم يكن مسلماً؟

ثم إن الثورة والقيام بالسيف والسعي إلى إقامة حكومة العدل كانت واجبة على الأئمة من قبله عند توفر جميع الظروف المُلائمة والشروط اللازمة وكان عدم قيامهم بهذا الواجب -حسب قولكم- نتيجة لعدم توفر الشروط اللازمة، فلماذا لا تعتبرون توفر الشروط اللازمة للثورة بالسيف شرطاً ضرورياً لوجوب القيام بحق المهدي أيضاً ولا تأتون بأي دليلٍ شرعيٍّ على نفي ضرورة توفُّر الشروط اللازمة لتكون ثورته وقيامه واجبين بل تقولون: لو بقي المهدي لكان من الواجب عليه أن يثور بالسيف؟!

ثم قال الطوسي: لو قُتل الأئمة السابقون قبل المهدي كان هناك أئمة آخرون يخلفونه، أما بشأن المهدي فلم يكن الأمر كذلك!!

ونقول: من البديهي أنكم اخترعتم للمهدي غيبة في طفولته، وإلا لو بقي هو أيضاً كسائر الأئمة وتزوّج لأنجب أولاداً يخلفونه في الإمامة ولَمَا انقطعت سلسلة الإمامة ولَمَا وُجدت الحاجة لكل هذه التلفيقات والأدلة الأوهى من بيت العنكبوت! لو قُتل الأئمة السابقون قبل زواجهم هل كانت سلسلة الإمامة ستبقى أيضاً؟! في رأينا إن الشيخ الطوسي نفسه لم يستوعب جيداً الكلام الذي لفّقه، ومن جملة ذلك أنه قال: إن الدليل على بُطلان سائر فرق الشيعة الذين لا يؤمنون بالمهدي - «كالفطحية» و«المحمدية» (أي القائلين بإمامة السيد محمد بن علي النقي) - هي أن أتباعها انقرضوا، فتجاهل تماماً أن «الإسماعيلية» و«النصيرية» لا زالوا موجودين حتى اليوم ولم ينقرضوا!! ومع ذلك فهو يعتبرهم على باطل!

وخلاصة الكلام إن الكذب والمُغالطات والمُصادرة على المطلوب والاستناد إلى الأقوال التي لا اعتبار لها كثيرٌ جداً في كلام الشيخ الطوسي إلى درجة أننا لو أردنا أن ننقض كل ما ذكره من شُبهات لطال بنا الكلام جداً، لذا نكتفي بالنماذج التي ذكرناها ونرى أن بقية خدعه يُمكن اكتشافها بقليل من التأمل[257]. (وبالطبع فإن قراءة الفصول المُتعلّقة بالمهدي في التنقيح الثاني لكتابي «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول» مفيد في هذا الصدد).

[244] الوارد هو "لا تجتمع أمتي على ضلالة"، انظر بحار الأنوار ج 5، ص 20 و ص 68 [نقلاً عن كتاب الاحتجاج للطبرسي وتحف العقول لابن شعبة الحراني]، وهو اللفظ الوارد في كتب حديث أهل السنة أيضاً كالذي رواه ابن ماجه في سننه (ج2، ص1303) عن أنس بن مالك قال سمعت رسول الله ص يقول: "إن أمتي لا تجتمع على ضلالة, فإذا رأيتم اختلافاً فعليكم بالسواد الأعظم". وسنده ضعيف، كما قال البوصيري في الزوائد، ومثله رواية الترمذي في سننه (ج4، ص466) عَنْ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ الله ص قَالَ: "إِنَّ الله لا يَجْمَعُ أُمَّتِي أَوْ قَالَ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ ص عَلَى ضَلالَةٍ..." وقال هذا حديثٌ غريبٌ من هذا الوجه. (المُتَرْجِمُ) [245] راجعوا كتاب «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول»، ص 619 إلى 620. [246] كتاب «خاندان نوبختى» [أي: الأُسْرَةُ النَّوْبَـخْتِيَّة] ألفه بالفارسية الدكتور عبَّاس إقبال الآشتياني، مؤرخٌ وأديبٌ وعالمٌ لغويٌّ إيرانيٌّ كبيرٌ، وُلِد في آشتيان في إيران عام 1896 وتوفي في روما (إيطاليا) عام 1965م, تاركاً عديداً من الآثار العلمية بالفارسية من أشهرها كتابه: «تاريخ إيران المفصل من صدر الإسلام حتى انقراض الدولة القاجارية» (بالفارسية)، وكتابه «خاندان نوبختي» أي [تاريخ] الأسرة النوبختية، أو آل النوبختي. (المُتَرْجِمُ) [247] يعني أن الدليل على عصمة الأنبياء في القرآن والسنة والعقل يفيد عصمتهم في الأمور التي تتعلق بالوحي وإبلاغ آيات الله وشريعته فحسب، وليس ثمة دليل على أنهم كانوا معصومين عصمة مطلقة عن الاشتباه أو النسيان أو مخالفة الأولى فيما هو خارج مسائل الوحي وإبلاغ آيات الله وأحكام شرعه. نعم الدليل يدل أيضاً على أنهم كانوا معصومين عن ارتكاب ما يطعن بشخصياتهم كأسوة وقدوة، لأن الله أمر بالاهتداء بالأنبياء والتأسي بهم دون قيد.(المُتَرْجِمُ) [248] كالشؤون السياسية والاقتصادية والزراعية والإعمارية التفصيلية وما إلى ذلك. (المُتَرْجِمُ) [249] حول موضوع العصمة من الضروري مراجعة كتاب «نقد مفاتيح الجنان في ضوء آيات القرآن»، 160-161، و صفحة 350 إلى 352. و كتاب «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول»، ص 133. [250] يُراجع كتاب «شَاهْرَاه اتِّحَاد» [طَرِيق الاتِّحاد]، (ص 138 إلى 142). [251] ونصّ العبارة التي يشير إليها المؤلف من كلام أمير المؤمنين (ع): قوله رداً على مقولة الخوارج: «لا حكم إلا لله»: قَالَ (ع): «كَلِمَةُ حَقٍّ يُرَادُ بِهَا بَاطِلٌ! نَعَمْ إِنَّهُ لَا حُكْمَ إِلَّا لِـلَّهِ وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ لَا إِمْرَةَ إِلَّا لِـلَّهِ، وَإِنَّهُ لَا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ أَمِيرٍ بَرٍّ أَوْ فَاجِرٍ يَعْمَلُ فِي إِمْرَتِهِ الْمُؤْمِنُ وَيَسْتَمْتِعُ فِيهَا الْكَافِرُ وَيُبَلِّغُ اللهُ فِيهَا الْأَجَلَ وَيُجْمَعُ بِهِ الْفَيْ‏ءُ وَيُقَاتَلُ بِهِ الْعَدُوُّ وَتَأْمَنُ بِهِ السُّبُلُ وَيُؤْخَذُ بِهِ لِلضَّعِيفِ مِنَ الْقَوِيِّ حَتَّى يَسْتَرِيحَ بَرٌّ وَيُسْتَرَاحَ مِنْ فَاجِر». (المُتَرْجِمُ) [252] في الواقع إن ما تعتبرونه معارف الشيعة الخاصة بكم إنما حصلتم عليه من الأئمة الذين كانوا قبل المهدي الوهمي. بل ما حصلتم عليه من أبيه وجدّه ووالد جدّه ليس بذاك الأمر المهم أو الكثير الذي لا يوجد مثله لدى الآخرين! (فَتَأَمَّل) [253] راجعوا كتاب «رهنمود سنت در رد اهل بدعت» أي إرشاد السنة في رد أهل البدعة، وهو ترجمة إلى اللغة الفارسية لكتاب «المُنتقى» الذي ألفه الذهبيّ واختصر فيه كتاب «منهاج الاعتدال» لابن تيمية (الذي لخص فيه كتابه المعروف منهاج السنة). [254] أي قوله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنكُمۡۖ فَإِن تَنَٰزَعۡتُمۡ فِي شَيۡءٖ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۚ ذَٰلِكَ خَيۡرٞ وَأَحۡسَنُ تَأۡوِيلًا ٥٩ [النساء : ٥٩]. [255] ملك أسطوري إيراني! [256] حتى قلتم إن الأئِمَّة (ع) ماتوا جميعاً إما بالسُّمّ أو القتل (مع أنه لا دليل على ذلك). [257] يُراجع أيضاً ما ذكرناه في الباب 24 من هذا الكتاب.