دراسة علمية لأحاديث المهدي

فهرس الكتاب

الفصل الثالث الآيات التي يُستَدَلُّ بها لإثبات الإمام الثاني عشر

الفصل الثالث الآيات التي يُستَدَلُّ بها لإثبات الإمام الثاني عشر

قبل أن نذكر الآيات نطلب منك أيها القارئ الكريم، إذا لم تكن تحفظ القرآن أو لم يكن لك معرفة باللغة العربية، أن تضع أمامك ترجمة للقرآن الكريم وتتدبر معاني الآيات التي سنذكرها فيما يلي:

81- إحدى الآيات التي يستدلّون بها على ظهور المهدي قوله تعالى: ﴿وَلَقَدۡ كَتَبۡنَا فِي ٱلزَّبُورِ مِنۢ بَعۡدِ ٱلذِّكۡرِ أَنَّ ٱلۡأَرۡضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ ٱلصَّٰلِحُونَ ١٠٥ [الأنبياء: ١٠٥] .

التعليق: من العجيب كيف يتم تحريف معنى مثل هذه الآية الواضحة التي لا لبس في معناها، ويتم تفسيرها بمعنى ما أنزل الله به من سلطان، فقاتل الله الذين أدخلوا في الإسلام روايات كاذبة شوهت الإسلام الذي أنزله الله وحرفت معاني آياته.

لننظر الآن إلى المقصود الحقيقي من هذه الآية؟ يجب أن نذهب إلى المصدر الذي أشارت إليه الآية، أي الزبور، فنجد أنه في سفر المزامير لداود [المزمور37: الآية29] النص التالي: "الصِّدِّيقُونَ يَرِثُونَ الأَرْضَ وَيَسْكُنُونَهَا إِلَى الأَبَدِ.".

إذن يتبين أن المقصود من الأرض التي سيرثها الصالحون أرض الجنة، إذْ لو كان المقصود أرض الدنيا لما صح قوله أنهم سيسكنونها إلى الأبد، لأنه من المعلوم أن أرض الدنيا لن تبقى إلى الأبد ولا الصالحون سيعيشون في الأرض إلى لأبد، بل سيموت الجميع وتقوم القيامة. كما قال تعالى: ﴿إِذَا زُلۡزِلَتِ ٱلۡأَرۡضُ زِلۡزَالَهَا ١ وَأَخۡرَجَتِ ٱلۡأَرۡضُ أَثۡقَالَهَا ٢ [الزلزلة: ١، ٢]. وقال سبحانه: ﴿كُلُّ مَنۡ عَلَيۡهَا فَانٖ ٢٦ وَيَبۡقَىٰ وَجۡهُ رَبِّكَ ذُو ٱلۡجَلَٰلِ وَٱلۡإِكۡرَامِ ٢٧ [الرحمن: ٢٦، ٢٧].

ولقد جاءت كلمة «الأرض» في عدد من الآيات القرآنية الأخرى بمعنى «أرض الجنَّة»، كما قال تعالى في سورة الزمر: ﴿وَقَالُواْ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي صَدَقَنَا وَعۡدَهُۥ وَأَوۡرَثَنَا ٱلۡأَرۡضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ ٱلۡجَنَّةِ حَيۡثُ نَشَآءُۖ فَنِعۡمَ أَجۡرُ ٱلۡعَٰمِلِينَ ٧٤ [الزمر: ٧٤].

أضف إلى ذلك أن كلمة «الصَّالِحُونَ» في الآية موضع الاستشهاد محلاة بالألف واللام [ألف ولام الجنس] فهي تشمل جميع الصالحين ولا تختص بصالحي آخر الزمان فقط.

2- آية أخرى من الآيات التي يستدلون بها على ظهور المهدي في آخر الزمن قوله تعالى: ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى ٱلَّذِينَ ٱسۡتُضۡعِفُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَنَجۡعَلَهُمۡ أَئِمَّةٗ وَنَجۡعَلَهُمُ ٱلۡوَٰرِثِينَ ٥ [القصص: ٥].

ونقول: إنه لفهم أي آية من القرآن فهماً صحيحاً لا بد أن نلاحظ سياقها الذي جاءت فيه، أي ما قبلها وما بعدها من آيات، كما علينا أن نأخذ بعين الاعتبار مكية الآيات أو مدنيتها فذلك كله يساعد على استبيان المعنى الحقيقي للآيات:

انظر الآن أيها القارئ العزيز إلى ما قبل الآية المستشهد بها وما بعدها؟ قال تعالى قبل الآية المذكورة مباشرةً: ﴿إِنَّ فِرۡعَوۡنَ عَلَا فِي ٱلۡأَرۡضِ وَجَعَلَ أَهۡلَهَا شِيَعٗا يَسۡتَضۡعِفُ طَآئِفَةٗ مِّنۡهُمۡ يُذَبِّحُ أَبۡنَآءَهُمۡ وَيَسۡتَحۡيِۦ نِسَآءَهُمۡۚ إِنَّهُۥ كَانَ مِنَ ٱلۡمُفۡسِدِينَ ٤ [القصص: ٤] ، ثم قال تعالى بعدها: ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى ٱلَّذِينَ ٱسۡتُضۡعِفُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ أي نريد أن نمن على هؤلاء الذين استضعفهم فرعون فكان يذبِّح أبناءهم ويستحيي نساءهم، ﴿وَنَجۡعَلَهُمۡ أَئِمَّةٗ وَنَجۡعَلَهُمُ ٱلۡوَٰرِثِينَ ٥ أي نجعل المستضعفين من بني إسرائيل أئمة و وارثين. وهذا التفسير البيِّن تتَّفق عليه تفاسير السنة والشيعة.

فإذا استشكل بعضهم وقال: إذا كان الأمر كذلك فلماذا استخدم الله تعالى صيغة المضارع بقوله ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ؟

قلنا في الإجابة: إنما استخدم الله تعالى المضارع ليبين أن المنّ على موسى والمستضعفين من بني إسرائيل بالتمكين في الأرض إنما سيكون بعد استضعاف فرعون لهم كما جاء في نص الآية التالية مباشرةً حيث قال سبحانه: ﴿وَنُمَكِّنَ لَهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَنُرِيَ فِرۡعَوۡنَ وَهَٰمَٰنَ وَجُنُودَهُمَا مِنۡهُم مَّا كَانُواْ يَحۡذَرُونَ ٦ [القصص: ٦]، فهنا جملة ﴿وَنُرِيَ فِرۡعَوۡنَ وَهَٰمَٰنَ وَجُنُودَهُمَا مِنۡهُم جاءت أيضاً بصيغة المضارع وهي معطوفة على الأفعال: و«نُرِيْدُ أن نَمُنَّ» و «وَنَجْعَلَهُمْ» و «وَنُمَكِّنَ»، مع أن فرعون وهامان كانا قبل محمد ص بقرون طويلة. وجاء فعل «يُذَبِّحُ» أيضاً بالمضارع، لأن فرعون كان بعد استضعافه لقوم موسى يقوم بقطع رؤوسهم، في حين أننا نعلم أن فرعون كان معاصراً لموسى، وأنه كان يذبح بني إسرائيل في زمنٍ ماضٍ، وأن الآية تتكلَّم عن أمور ماضية لا عن أمور حاضرة ولا مستقبلة.

إذن أتى الله تعالى بصيغة المضارع ﴿وَنُرِيَ ولم يقل «أرينا» الماضي ليقول لنا إنه بعد استضعاف فرعون لهم وبعد جرائمه بحقهم «أردنا» أن نريهم العذاب الذي يستحقونه. فلا علاقة للآية بآخر الزمان بتاتاً[51].

3- الآية الأخرى التي يستدلُّون بها على المهدي ويصنعون منها ملصقات جدارية وشعارات مكتوبة على الأقمشة بالخط العريض ويصـرفون مبالغ طائلة على هذا الأمر كان ينبغي أن تُصرَف على الدعوة إلى الإسلام الأصيل لا على ما يضلِّل الناس، هي قوله تعالى: ﴿بَقِيَّتُ ٱللَّهِ خَيۡرٞ لَّكُمۡ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ [هود: ٨٦]. حيث يقولون إن المقصود من ﴿بَقِيَّتُ ٱللَّهِ: إمام الزمان!!!

ولكننا إذا انتبهنا إلى سياق الآية وما جاء قبلها وبعدها تبيَّن لنا بوضوح أنها تتعلَّق بقوم شعيب الذين كان نبيهم يعظهم ويقول لهم: ﴿وَيَٰقَوۡمِ أَوۡفُواْ ٱلۡمِكۡيَالَ وَٱلۡمِيزَانَ بِٱلۡقِسۡطِۖ وَلَا تَبۡخَسُواْ ٱلنَّاسَ أَشۡيَآءَهُمۡ وَلَا تَعۡثَوۡاْ فِي ٱلۡأَرۡضِ مُفۡسِدِينَ ٨٥ [هود: ٨٥] ثم قال: ﴿بَقِيَّتُ ٱللَّهِ خَيۡرٞ لَّكُمۡ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ أي اكتفوا بما يبقى لكم من الربح الحلال، فالمُراد من «بَقِيَّةُ اللهِ» الربح الحلال الذي يكسبه البائع، والمُخاطبون بالكلام هم قوم شعيب (ع). وهذا الذي ذكرناه هو الذي يذكره جميع المفسـرين من أهل السنة، وبالنسبة إلى تفاسير الشيعة فسنذكر ما قاله أحد أهم وأكبر المفسـرين منهم ألا وهو الشيخ الطبرسي، أي صاحب تفسير «مجمع البيان» حيث قال مفسِّراً الآية:

"«بَقِيَّةُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ»: «البقية» بمعنى الباقي، أي ما أبقى الله تعالى لكم من الحلال بعد إتمام الكيل والوزن خير من البخس والتطفيف. وشرط الإيمان في كونه خيراً لهم لأنهم إن كانوا مؤمنين بالله عرفوا صحة هذا القول".

وذهب آخرون من أعلام مفسري الشيعة أيضاً إلى مثل هذا التفسير واعتبروا المُراد من «بَقِيَّةُ اللهِ» الربح الحلال الذي ينال الإنسان من الكسب[52]، فإذا رأينا بعد ذلك أن بعض المفسرين الشيعة فسَّـر الآية بغير ذلك استناداً إلى أخبار ضعيفة علمنا استناداً إلى القرآن الكريم وإلى روايات متعددة في هذا المجال وإلى تفاسير السنة والشيعة أن قوله غير صحيح. أضف إلى ذلك أن الله تعالى ليس له أبعاض وأجزاء حتى يكون له بقية منها في الأرض! ثم كيف يمكن أن يقول الحق تعالى لقوم إن المهدي - الذي لا ترونه بل لا ترون آباءه - خير لكم؟!!.

94- من الآيات الأخرى التي يستدلون بها قوله تعالى: ﴿ٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡغَيۡبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ يُنفِقُونَ ٣ وَٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبۡلِكَ وَبِٱلۡأٓخِرَةِ هُمۡ يُوقِنُونَ ٤ [البقرة: ٣، ٤]. حيث يقولون إن المقصود من «الإيمان بالغيب» الإيمان بالمهدي الغائب!.

في حين أننا إذا لاحظنا سياق هذه الآيات وما جاء قبلها وبعدها علمنا أن المقصود بالغيب هنا هو ذات الباري تعالى. وقال بعضهم المقصود من «الغيب» هو «يوم القيامة» الخافية عن الأنظار اليوم، وهؤلاء أيضاً لا يملكون دليلاً على هذا التفسير للكلمة، لما سنذكره بعد قليل، وأما الدليل على أن «الغيب» في الآية معناه «ذات الباري تبارك وتعالى» و لا علاقة لها بالمهدي فهو ما يلي:

أ) إذا لاحظنا سياق الآية وجدناها تقول: ﴿ٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡغَيۡبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ يُنفِقُونَ بناء عليه، قبل إقام الصلاة، لابدّ أولاً من وجود الإيمان بالله تعالى الذي نصلي له، فيُعْلَمُ أن المُراد بجملة «يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ» الإيمان بالله لأنه جاء بعدها مباشرة: «وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ».

ب) مما يؤكد أن المقصود بالإيمان بالغيب هنا هو الإيمان بـ«الله تعالى» أن الله ذكر في سياق الآية عدداً من صفات المتقين كما يلي: الإيمان بالغيب، إقام الصلاة، الإنفاق، الإيمان بما أُنْزِل إلى النبي محمد ص أي الإيمان بالقرآن، الإيمان بما أُنْزِل قبل القرآن، أي بالكتب السماوية السابقة ، اليقين بالآخرة أي بالقيامة. فهل يمكن لأحد أن يدعي أن الإيمان بالله تعالى لم يُطرح في هذه القائمة التي بيَّنت أهم أركان الإيمان؟ بالطبع لا، لأننا نعلم أن الإيمان بالله هو على رأس قائمة أركان الإيمان وأوجبها[53] فلا يمكن أن يكون المقصودُ من الغيب هنا شيئاً سوى الله تعالى.

ج) ذكر الله تعالى ذاته في كل سورة من سور القرآن وتكلَّم عن ذاته وصفاته في آلاف المواضع من القرآن، فعلى المؤمنين أن يؤمنوا بالله سبحانه قبل أي شيء، أما المهدي فليس له أي ذكر في القرآن الكريم، فكيف يطلب الله تعالى من الناس أن يؤمنوا بشيء لم يذكره لنا في كتابه؟!! فهل «الغيب» الذي أمر الله تعالى بالإيمان به هو ذات الله الذي دعانا في كل القرآن للإيمان به أم هو المهدي الذي لا ذكر له ولا اسم له في القرآن؟؟

أضف إلى كل ذلك أن «الغيب» الذي أمر اللهُ بالإيمان به ينبغي أن يكون مما لا يمكن مشاهدته بالحواس وغائباً عن الأنظار، فإذا كان المقصود من «الغيب» هنا إمام الزمان، فإنه لن تنطبق عليه كلمة «الغيب» عندما كان طفلاً مرئياً في أول عمره، ولا عندما سيظهر ويراه الناس، ففي تلك الفترتين تكون الآية لغواً بلا معنى لأن إمام الزمان فيهما ظاهر وليس غيباً وعندئذٍ: ما هو الغيب الذي يجب على المؤمنين الإيمان به؟

د) قال الله تعالى: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ يَخۡشَوۡنَ رَبَّهُم بِٱلۡغَيۡبِ لَهُم مَّغۡفِرَةٞ وَأَجۡرٞ كَبِيرٞ ١٢ [الملك: ١٢]، وقال عزَّ من قائل: ﴿إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ ٱتَّبَعَ ٱلذِّكۡرَ وَخَشِيَ ٱلرَّحۡمَٰنَ بِٱلۡغَيۡبِ [يس: ١١]، وقال سبحانه: ﴿وَأُزۡلِفَتِ ٱلۡجَنَّةُ لِلۡمُتَّقِينَ غَيۡرَ بَعِيدٍ ٣١ هَٰذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٖ ٣٢ مَّنۡ خَشِيَ ٱلرَّحۡمَٰنَ بِٱلۡغَيۡبِ وَجَآءَ بِقَلۡبٖ مُّنِيبٍ ٣٣ [ق: ٣١، ٣٣] . فكل هذه الآيات تبين أن الغيب الذي يجب أن يؤمن به المؤمنون و يخشوه هو الله.

هـ) كما جاء في تفسير «تابشى از قرآن» [قبس من القرآن]: لو كان المقصود من «الغيب» الإمام الغائب، فنسأل: هل الإمام الغائب نفسه من المتَّقين أم لا؟ إن كان من المتَّقين كان عليه أن يؤمن بالغيب أي يؤمن بنفسه! فكيف يكون غائباً عن نفسه حتى يؤمن بنفسه؟!!

و) وإنما قلنا ليس المقصود من الغيب في الآية موضع الاستشهاد «يوم القيامة» لأن الله ذكر في آخر تلك الآية ذاتها وجوب الإيمان بيوم القيامة حين قال: ﴿وَبِٱلۡأٓخِرَةِ هُمۡ يُوقِنُونَ ٤ [البقرة: ٤]، والأصل عدم تكرار المعنى ذاته ضمن الآية الواحدة، كما أنه من البعيد جداً أن لا يذكر الله تعالى الإيمان به كجزء من صفات المتقين في حين يذكر مرتين الإيمان بالآخرة كصفة من صفات المتقين.

5- من الآيات الأخرى التي يستشهدون بها على المهدي أيضاً قوله تعالى: ﴿هُوَ ٱلَّذِيٓ أَرۡسَلَ رَسُولَهُۥ بِٱلۡهُدَىٰ وَدِينِ ٱلۡحَقِّ لِيُظۡهِرَهُۥ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِۦ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡمُشۡرِكُونَ ٣٣ [التوبة: ٣٣].

أورد المجلسيُّ في «بحار الأنوار» هذه الآية كما أورد الآيات السابقة معتبراً أنها تتعلق بقائم آل محمد وأنه الإمام الذي سيظهر الله دينه على الدين كله.

والجواب: بالنسبة إلى الآية الأخيرة فقد اعتبر بعض علماء الشيعة أن مضمونها قد تحقق فعلاً في صدر الإسلام حيث ظهر النبي ص وأصحابه على جميع الدنيا وأصبح الإسلام غالباً في كل مكان. ومن هؤلاء العلماء نذكر المرجع آية الله أبو القاسم الخوئي الذي ذكر في بحث إعجاز القرآن من تفسيره «البيان» أن معنى هذه الآية قد تحقق في صدر الإسلام[54].

وقال آخرون إن هذه الآية تحققت بغلبة الإسلام في ميادين الحروب على اليهود والنصارى والزردشتيين والكفار. وسنوضح المقصود بهذه الآية فيما يلي:

أ) جاء في صدر الآية عبارة ﴿هُوَ ٱلَّذِيٓ أَرۡسَلَ رَسُولَهُۥ بِٱلۡهُدَىٰ فهذا يبين أن إظهار دين الحق على الدين كله إنما تم من خلال رسول الله محمد ص وعلى هذا المعنى قال بعض المفسرين إن هذا إشارة إلى غلبة محمد ص وانتصاره على الكفار وأهل الكتاب في ميادين القتال. بيد أننا نرى أن الأصح هو القول بأن هذا الظهور إنما تم بواسطة البراهين والدلائل التي جاء بها القرآن الكريم وتغلب بها على المناهج الخاطئة والأديان الباطلة، ومن هذا القبيل قوله تعالى في سورة الصف: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُوٓاْ أَنصَارَ ٱللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ٱبۡنُ مَرۡيَمَ لِلۡحَوَارِيِّ‍ۧنَ مَنۡ أَنصَارِيٓ إِلَى ٱللَّهِۖ قَالَ ٱلۡحَوَارِيُّونَ نَحۡنُ أَنصَارُ ٱللَّهِۖ فَ‍َٔامَنَت طَّآئِفَةٞ مِّنۢ بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ وَكَفَرَت طَّآئِفَةٞۖ فَأَيَّدۡنَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ عَلَىٰ عَدُوِّهِمۡ فَأَصۡبَحُواْ ظَٰهِرِينَ ١٤ [الصف: ١٤] ، فمن الواضح أن ظهور الطائفة من بني إسرائيل على عدوهم لم يكن بالحرب والقتال بل بالحجة والبرهان، وقد ذهب «زيد بن علي» إلى هذا القول أي أن أتباع عيسى المسيح إنما ظهروا على عدوهم بالحجة، وذكر صاحب تفسير الكشاف [الزمخشري] هذا القول كذلك.

ب) لقد صرَّح القرآن نفسه وأخبر في عدة مواضع بما يفيد أن اليهود والنصارى سيبقون إلى يوم القيامة ولن يزولوا تماماً من على الأرض أبداً، فإذا قلنا إن هذه الآية معناها زوال اليهودية والنصرانية من على وجه البسيطة وأن جميع البشـر سيصبحون مسلمين، كان قولُنا غيرَ متطابق مع الآيات الكريمة التي أوردناها فيما سبق من سورة المائدة، ومناقضاً لها. أضف إلى ذلك أنه في الآية موضع الاستشهاد لم يقل الله تعالى: هو الذي أرسل رسوله ليمحو الأديان كلها ويزيلها من الوجود بل قال ليظهر دين الحق على الدين كله. ومما يدل على ذلك أيضاً قول الله تعالى: ﴿كَتَبَ ٱللَّهُ لَأَغۡلِبَنَّ أَنَا۠ وَرُسُلِيٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٞ ٢١ [المجادلة: ٢١]، مع أننا نعلم أن بعض الأنبياء قُتلوا، فإذن المقصود من الغلبة والظهور الغلبة والظهور المعنويين.

106- من الآيات الأخرى التي يستشهدون بها على المهدي قوله تعالى: ﴿وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسۡتَخۡلِفَنَّهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ كَمَا ٱسۡتَخۡلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمۡ دِينَهُمُ ٱلَّذِي ٱرۡتَضَىٰ لَهُمۡ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعۡدِ خَوۡفِهِمۡ أَمۡنٗاۚ يَعۡبُدُونَنِي لَا يُشۡرِكُونَ بِي شَيۡ‍ٔٗاۚ وَمَن كَفَرَ بَعۡدَ ذَٰلِكَ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ ٥٥ [النور : ٥٥]. يقولون هذه الآية نزلت بشأن المهدي.

لكن ينبغي الانتباه إلى ما يلي:

أ) جاء في صدر الآية قوله تعالى ﴿ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ على نحو الخطاب، مما يبين أن المقصود هم الذين سمعوا هذه الآية من النبي ص حين نزولها.

ب) جاء في هذه الآية قيد: ﴿كَمَا ٱسۡتَخۡلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ وإذا نظرنا إلى آيات القرآن التي تتكلم عن الأمم السابقة لم نجد أن الله استخلف أي أمة على جميع الكرة الأرضية، مثلاً يقول تعالى في سورة ص: ﴿يَٰدَاوُۥدُ إِنَّا جَعَلۡنَٰكَ خَلِيفَةٗ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَٱحۡكُم بَيۡنَ ٱلنَّاسِ بِٱلۡحَقِّ [ص : ٢٦]، فقوله تعالى «خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ» ليس معناه في كل الكرة الأرضية لأنه من المعلوم أن حضرة داود ÷ لم يكن حاكماً إلا على جزء بسيط من الأرض. فإن قيل: ما الدليل على أن حضرة داود ÷ لم يكن حاكماً فعلاً على كل الأرض؟ قلنا: الدليل هو أن ابنه سليمان ÷ الذي حكم من بعده لم يكن له علم بحال أهل سبأ الذين كانوا يعبدون الشمس حتى أخبره الهدهد بذلك، إذن لم يكن جميع أهل الأرض مستسلمين لِـلَّهِ وخاضعين لدين داود في زمنه، فكان هناك في زمن داود عُبَّاد للشمس لا يعلمون شيئاً عن داود، و لم يكن داود يعلم عنهم شيئاً، ثم علم سليمان في عهده بأمرهم، كما تدل على ذلك الآيات 23 إلى 28 من سورة النمل، وربما كان هناك أقوامٌ كُثُر آخرون لم يكن سليمان مطلعاً عليهم أيضاً.

إذن يتبين أن المقصود من قوله تعالى: ﴿لَيَسۡتَخۡلِفَنَّهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ أن يخلف المؤمنون الكفار ويتغلبوا عليهم في مكة وما حولها، وهو ما وقع في صدر الإسلام، وفي دعاء الوحدة الذي نادى به المؤمنون عند فتح مكة: "لَا إلَهَ إلَّا اللهُ وَحْدَهُ، أَنْجَزَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ"، فالمقصود من: «أَنْجَزَ وَعْدَهُ» استخلاف الله للمسلمين على مكة طبقاً للآية موضع الاستشهاد أي قوله تعالى: ﴿وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسۡتَخۡلِفَنَّهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ علاوة على أن كلمة «الْأَرْضِ» في الآية جاءت معرفة بالألف واللام، ويمكننا القول إنها ألف ولام العهد التي تشير إلى أرض معهودة وهي أرض مكة، وهذا كالآية التي قال الله تعالى فيها لرسوله ص: ﴿وَإِن كَادُواْ لَيَسۡتَفِزُّونَكَ مِنَ ٱلۡأَرۡضِ لِيُخۡرِجُوكَ مِنۡهَا [الإسراء: ٧٦] والتي لا يُقصد منها بالطبع إخراج الرسول من الكرة الأرضية! بل كلمة الأرض هنا المعرفة بألف ولام العهد يقصد بها تلك الأرض المعهودة، أي أرض مكة وما حولها.

ج) جاء في «نهج البلاغة» أن أمير المؤمنين علي ÷ – ضمن مشورته لعمر بن الخطاب عندما استشاره للشخوص لقتال الفرس – استند إلى هذه الآية موضع الاستشهاد بقوله: "هُوَ دِينُ اللهِ الَّذِي أَظْهَرَهُ وجُنْدُهُ الَّذِي أَعَدَّهُ وأَمَدَّهُ..... ونَحْنُ عَلَى مَوْعُودٍ مِنَ اللهِ وَاللهُ مُنْجِزٌ وَعْدَهُ"[55]. إذن كان عليٌّ يفهم من الآية أن الله تعالى استخلف أصحاب النبي ص فِي جزء من الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، وقد تحقَّق هذا عندما حكم المسلمون قبله جزءاً من الأرض واستخلفهم الله عليه.

7- من الآيات الأخرى التي يستشهدون بها قوله تعالى: ﴿۞وَإِذَا وَقَعَ ٱلۡقَوۡلُ عَلَيۡهِمۡ أَخۡرَجۡنَا لَهُمۡ دَآبَّةٗ مِّنَ ٱلۡأَرۡضِ تُكَلِّمُهُمۡ أَنَّ ٱلنَّاسَ كَانُواْ بِ‍َٔايَٰتِنَا لَا يُوقِنُونَ ٨٢ وَيَوۡمَ نَحۡشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٖ فَوۡجٗا مِّمَّن يُكَذِّبُ بِ‍َٔايَٰتِنَا فَهُمۡ يُوزَعُونَ ٨٣ [النمل: 82-83].

يقولون: المقصود من «الدَّابَّة» الشي الذي يدبُّ على الأرض، وهو «الإمام المهدي»! والمقصود من الفوج الذين يحشرون من كل أمة، «الرجعة».

والجواب: بالنسبة إلى الآية الأولى (أي الآية 82 من سورة النمل) نقول: إن كلمة «الدَّابَّة» جاءت في القرآن بمعنى الكائن الحي المتحرك السافل في الرتبة[56]، وهذا المعنى لا يتناسب مع الإمام.

وثانياً: بالنسبة إلى الآية 82 من سورة النمل، لا بد من ملاحظة سياق الآية وما جاء قبلها. في الآية 66 من سورة النمل تكلَّم اللهُ عن الكفَّار الذي هم في شكٍ من الآخرة[57]، وفي الآية 67 وما بعدها قصَّ الله تعالى علينا قول الكفار: ﴿وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَءِذَا كُنَّا تُرَٰبٗا وَءَابَآؤُنَآ أَئِنَّا لَمُخۡرَجُونَ ٦٧ لَقَدۡ وُعِدۡنَا هَٰذَا نَحۡنُ وَءَابَآؤُنَا مِن قَبۡلُ إِنۡ هَٰذَآ إِلَّآ أَسَٰطِيرُ ٱلۡأَوَّلِينَ ٦٨؟؟ ثم بيَّن تعالى في الآية 71 تشكُّك الكفار بالآخرة بقولهم ﴿وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَٰذَا ٱلۡوَعۡدُ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ، ثم في الآية 80 و 81 قال سبحانه: ﴿إِنَّكَ لَا تُسۡمِعُ ٱلۡمَوۡتَىٰ وَلَا تُسۡمِعُ ٱلصُّمَّ ٱلدُّعَآءَ إِذَا وَلَّوۡاْ مُدۡبِرِينَ ٨٠ وَمَآ أَنتَ بِهَٰدِي ٱلۡعُمۡيِ عَن ضَلَٰلَتِهِمۡۖ إِن تُسۡمِعُ إِلَّا مَن يُؤۡمِنُ بِ‍َٔايَٰتِنَا فَهُم مُّسۡلِمُونَ ٨١، وهنا وصل الكلام إلى الآية 82 التي نبحث فيها فقال تعالى: ﴿وَإِذَا وَقَعَ ٱلۡقَوۡلُ عَلَيۡهِمۡ [أي على الكفار المتشكِّكين بالآخرة] أَخۡرَجۡنَا لَهُمۡ دَآبَّةٗ مِّنَ ٱلۡأَرۡضِ تُكَلِّمُهُمۡ أَنَّ ٱلنَّاسَ كَانُواْ بِ‍َٔايَٰتِنَا لَا يُوقِنُونَ. الجملة الأخيرة أي قوله تعالى: ﴿أَنَّ ٱلنَّاسَ كَانُواْ بِ‍َٔايَٰتِنَا لَا يُوقِنُونَ.... تعقيب على الكلام الذي ذكره تعالى في الآية 66 فما بعدها من أن الكفار كانوا في شك و ريب من الآخرة. إذن بملاحظة الآيات السابقة يتبين أن الكلام جارٍ عن أحداث القيامة الكبرى التي كان الكفار يشكون فيها.

ثم إنه لم يأت في القرآن أي كلام عن المهدي حتى يمكن الحديث عنه وعن ظهوره، لا سيما أن سورة النمل مكية ولم يكن موضوع الإمامة والمهدي مطروحاً أصلاً في مكة حتى يشك بعض الناس به ويرفضوا الإيمان به. وهناك روايات كثيرة تبين أن الآية موضع البحث تتكلم عن علامات الساعة الكبرى المصاحبة ليوم القيامة. ثم إن المقصود من «الأرض» في هذه الآية «أرض القيامة»، كما أشرنا إلى ذلك في نقاشنا للآية الأولى.

وأما الآية 83 من سورة النمل فإذا لاحظنا كل الآيات التي سبقتها والتي تتعلق بها أمكننا أن نفهم أن هذه الآية تتعلق أيضاً بيوم القيامة. ولكن ما معنى قوله تعالى: ﴿وَيَوۡمَ نَحۡشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٖ فَوۡجٗا مِّمَّن يُكَذِّبُ بِ‍َٔايَٰتِنَا فَهُمۡ يُوزَعُونَ ٨٣؟ وكيف لا يحشر الله تعالى جميع الناس بل يحشر من كل أمة فوجاً فقط؟؟

الجواب: إذا رجعنا للآيات 101 إلى 103 من سورة طه رأينا أن الله تعالى يقول: ﴿مَّنۡ أَعۡرَضَ عَنۡهُ فَإِنَّهُۥ يَحۡمِلُ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ وِزۡرًا ١٠٠ خَٰلِدِينَ فِيهِۖ وَسَآءَ لَهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ حِمۡلٗا ١٠١ يَوۡمَ يُنفَخُ فِي ٱلصُّورِۚ وَنَحۡشُرُ ٱلۡمُجۡرِمِينَ يَوۡمَئِذٖ زُرۡقٗا ١٠٢ [طه: ١٠٠، ١٠٢]. ومعنى قوله تعالى: «وَنَحْشُرُ المُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا» أي نحشرهم عُمياً، بيض العيون من العمى، قد ذهب السواد منها.

11ففي هذه الآيات من سورة طه التي تتحدث عن يوم القيامة، نرى أنه رغم أن جميع الكائنات والبشر سيُحشرون إلى الله، إلا أن الله تعالى يقول (وَنَحْشُـرُ المُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً)، لأن الكلام هنا خاصٌّ بالمجرمين، ومن المعلوم أن غير المجرمين أي المؤمنين سيُحْشَرون أيضاً يوم القيامة، كما بينت ذلك بالتفصيل آيات عديدة أخرى في القرآن. إذن لا يمكن القول بما أن الآية لم تذكر سوى حشر المجرمين، فهم وحدهم سيُحشرون ولن يُحْشَر غيرُهم، لأنه من الواضح أن ذِكْرَ الشـيءِ لا يعني نفي ما عداه.

ثم إنه إذا لاحظنا الآية التي جاءت بعد الآية 83 موضع الاستشهاد من سورة النمل، لرأينا أن الله تعالى يقول: ﴿حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءُو قَالَ أَكَذَّبۡتُم بِ‍َٔايَٰتِي [النمل: 84]، ممَّا يُبَيِّنُ أن المقصود من هذا الحشر والإحضار: إحضارهم إلى أرض المحشـر يوم القيامة الكبرى، حيث سيكلمهم الله تعالى، إذ إن مثل هذا الخطاب من الله للناس سيكون يوم القيامة.

ثم إن الآيتين 82 و 83 من سورة النمل تفيدان أن الكفار سيتوجَّب عليهم قطع مسافة حتى يصلوا إلى المكان الذي سيُرْمَون به في النار، ولم تذكر الآيتان شيئاً عن حال المؤمنين، فما هو مصيرهم؟ لقد أشارت الآيات الأخرى إلى هذا الأمر. وبعبارة أخرى: إن الآيتين 82 و 83 من سورة النمل في صدد وصف حال فوج وجماعة من المكذبين بالأنبياء يوم القيامة. كما قال عزَّ شأنه: ﴿يَوۡمَ يُنفَخُ فِي ٱلصُّورِ فَتَأۡتُونَ أَفۡوَاجٗا ١٨ [النبا: ١٨]، إذن ما جاء في سورة النمل هو حديث عن أحد تلك الأفواج، أما حال الأفواج الأخرى فقد بينته سائر آيات القرآن.

8- من الآيات التي يستدلّون بها: ما رواه المجلسيُّ في «بحار الأنوار» نقلاً عن [تفسير فرات بن إبراهيم‏][58] بِسَنَدِهِ "عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَٱلنَّهَارِ إِذَا جَلَّىٰهَا ٣ [الشمس: ٣]، قَالَ: يَعْنِي الْأَئِمَّةَ مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ يَمْلِكُونَ الْأَرْضَ فِي آخِرِ الزَّمَانِ فَيَمْلَؤونَهَا عَدْلًا وَ قِسْطاً"!![59].

والجواب: ينبغي أن ننتبه إلى أن الله تعالى أقسم في القرآن بالعصـر والنهار والليل والقمر والشمس وأقسم بالتين والزيتون ومكَّة وغيرها، وهي كلها مخلوقاته، فالنهار الذي أقسم الله به في هذه الآية هو هذا النهار الذي نعرفه، الذي تظهر الشمس فيه في الأفق. أما لو اعتبرنا أن المقصود من النهار وضيائه: الإمام، فماذا سنعتبر المقصود من الليل وظلامه الذي أقسم الله به بقوله: ﴿وَٱلَّيۡلِ إِذَا يَغۡشَىٰهَا ٤ [الشمس: ٤] ؟ إنهم يروون أن المقصود من الليل «عُمَر» والمقصود من الشمس «عليّ»!! فنجيب: إن الله لا يقسم إلا بما هو مهم ومقدس وبشيْءٍ له فضل وخصوصية، فإذا اعتبرتم أن المقصود من الليل هو «عُمَر» فكيف أقسم الله به مع أنه يجب أن يقسم الله تعالى بالأشياء الجيدة أو بالأشخاص الشرفاء، فكيف أقسم بـ«الليل» الذي هو عُمَر حسب قولكم، مع أنكم لا تُقِرُّون بأي فضيلةٍ له!!!

129- من الآيات الأخرى التي يستشهدون بها قوله تعالى: ﴿قَالُواْ رَبَّنَآ أَمَتَّنَا ٱثۡنَتَيۡنِ وَأَحۡيَيۡتَنَا ٱثۡنَتَيۡنِ فَٱعۡتَرَفۡنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلۡ إِلَىٰ خُرُوجٖ مِّن سَبِيلٖ ١١ [غافر: ١١].

يقولون عن هذه الآية: إن المقصود من الإماتة مرتين: الإماتة الأولى في هذه الدنيا، ثم الإماتة الثانية بعد الرجعة.

والجواب: ليس في هذه الآية أي دليل على «الرجعة» والآية لا يُقصد منها مثل هذا المعنى أبداً، لأنه لو كان المقصود منها «الرجعة»، وفرضنا جدلاً أن هناك رجعة قبل القيامة ، ففي هذه الحالة سيكون للذين سيرجعون إلى الدنيا ثم يموتون ثانيةً ثلاث حيوات و موتتان: وهي الحياة الأولى في هذه الدنيا، ثم بعدها موت، ثم بعدها حياة أخرى في الرجعة، ثم بعدها موت، ثم بعدها الحياة يوم القيامة. وهذا لا يتفق مع الآية، التي ذكرت أن الكفار سيقولون: ﴿قَالُواْ رَبَّنَآ أَمَتَّنَا ٱثۡنَتَيۡنِ. أما لو فرضنا أن الكفار لن يموتوا في الرجعة وسيأتون للقيامة مباشرةً، ففي هذه الحالة سيكون لهم حياتان وموت واحد وهذا أيضاً لا ينسجم مع الآية!! إذن الآية لا تنطبق على عقيدة الرجعة. فما معناها إذن؟

إذا دقَّقنا النظر في الآية رأينا أن أهل النار يقولون: ﴿رَبَّنَآ أَمَتَّنَا ٱثۡنَتَيۡنِ وَأَحۡيَيۡتَنَا ٱثۡنَتَيۡنِ فَٱعۡتَرَفۡنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلۡ إِلَىٰ خُرُوجٖ مِّن سَبِيلٖ ١١ ومقصودهم من هذا الكلام هو ما يعانونه من عذاب في النار حيث أنهم غابوا عن الوعي مرتين وعادوا إلى الوعي مرتين، ويقولون هل هناك سبيل لخروجنا من هذا العذاب في جهنم؟ وذلك لشدة ما يعانونه فيها من عذاب. أما لو اعتبرنا أن كلامهم هو عن حياتهم وموتهم في الدنيا لكان إقرارهم بالموت والحياة في الدنيا في هذا المقام والموقف لا محل له بل لغو لا معنى له، إذ ما هي العلاقة بين التماسهم الخلاص والخروج من العذاب وبين الإقرار بأن الله أحياهم مرة في الدنيا ومرة أخرى في الرجعة؟! فإن قيل: الكفار لا يموتون في جهنم، طبقا لقوله تعالى: ﴿لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحۡيَىٰ ٧٤ [طه: ٧٤]، قلنا: إن الكفار يتكلمون حسب فهمهم، فهم يتصورون أن حالة الغشي وفقدان الوعي التي يعانون منها في النار هي «موت» وهذا المعنى تؤيده الآية التالية من سورة إبراهيم حيث يقول تعالى: ﴿مِّن وَرَآئِهِۦ جَهَنَّمُ وَيُسۡقَىٰ مِن مَّآءٖ صَدِيدٖ ١٦ يَتَجَرَّعُهُۥ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُۥ وَيَأۡتِيهِ ٱلۡمَوۡتُ مِن كُلِّ مَكَانٖ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٖۖ وَمِن وَرَآئِهِۦ عَذَابٌ غَلِيظٞ ١٧ [إبراهيم: ١٦، ١٧]. فهذه الآية تبين أن الموت يأتيهم من كل طرف، ولكنهم لا يموتون، لأن الله لا يميتهم حتى لا يرتاحوا من العذاب. و كذلك قوله تعالى: ﴿لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحۡيَىٰ معناها أنهم لا يموتون بشكل دائم ولا يحيون بشكل دائم، بل يعانون من حالة بين الحياة والموت.

أضف إلى ذلك أن الله تعالى يقول في القرآن، حكايةً عن أهل الجنة، إنهم يقولون: ﴿أَفَمَا نَحۡنُ بِمَيِّتِينَ ٥٨ إِلَّا مَوۡتَتَنَا ٱلۡأُولَى [الصافات : ٥٨، ٥٩]، مما يبين أنهم لم يذوقوا إلا موتة واحدة وهي الموت الذي يذوقه جميع بني آدم في هذه الحياة الدنيا.

وقال تعالى أيضاً في سورة البقرة: ﴿كَيۡفَ تَكۡفُرُونَ بِٱللَّهِ وَكُنتُمۡ أَمۡوَٰتٗا فَأَحۡيَٰكُمۡۖ ثُمَّ يُمِيتُكُمۡ ثُمَّ يُحۡيِيكُمۡ [البقرة: ٢٨] حيث يمكن أن تكون هذه الآية تفسيراً للآية موضع البحث من سورة غافر (أي سورة المؤمن). فالله تعالى يذكر في هذه الآية أن الإنسان يتعرض في مسيرة حياته الكليَّة إلى موت وحياة على دفعتين، الموت والحياة الأولين اللذين ذكر أنهما وقعا في الماضي ﴿وَكُنتُمۡ أَمۡوَٰتٗا فَأَحۡيَٰكُمۡ يشيران إلى حياة الجماد التي كان الإنسان فيها قبل بث الروح فيه، ثم ولادته وحياته في هذه الدنيا. والموت والحياة الآخرين، وذكر أنهما سيقعان في المستقبل (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) يشيران إلى موت الإنسان في أجله ونهاية حياته الدنيوية، وحياته الجديدة يوم البعث والنشور يوم القيامة. فهذه الآية والآية من سورة غافر معناهما واحد ولا تدلان على موضوع الرجعة من قريب ولا من بعيد.

***

[51] أي أن وضع جملة ﴿وَنُرِيَ فِرۡعَوۡنَ ... مثله مثل وضع و﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّتماماً كلتاهما تتحدثان عن أمر ماضٍ بصيغة المضارع. (المُتَرْجِمُ) [52] كشيخ الطائفة الطوسي في تفسيره «التبيان»، وفخر الدين الطريحي في كتابه تفسير غريب القرآن، والعلامة محمد حسين الطباطبائي في تفسيره «الميزان». (المُتَرْجِمُ) [53] يؤكد ذلك أن الله تعالى عندما ذكر أركان الإيمان في بعض المواضع من القرآن ذكر الإيمان بالله على رأسها كقوله سبحانه: ﴿وَلَٰكِنَّ ٱلۡبِرَّ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةِ وَٱلۡكِتَٰبِ وَٱلنَّبِيِّ‍ۧنَ [البقرة: ١٧٧] وقوله تعالى: ﴿وَٱلۡمُؤۡمِنُونَۚ كُلٌّ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَمَلَٰٓئِكَتِهِۦ وَكُتُبِهِۦ [البقرة: ٢٨٥] غيرها من الآيات. [54] السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي، «البيان في تفسير القرآن»، ط 4، بيروت، دار الزهراء للطباعة والنشر، 1395هـ/1975م، ص 69. [55] نهج البلاغة، خطبة رقم 146. (المُتَرْجِمُ) [56] كالآية 14 من سور سبأ. [57] فيقول تعالى: ﴿بَلِ ٱدَّٰرَكَ عِلۡمُهُمۡ فِي ٱلۡأٓخِرَةِۚ بَلۡ هُمۡ فِي شَكّٖ مِّنۡهَاۖ بَلۡ هُم مِّنۡهَا عَمُونَ [النمل: 66]. [58] ذكر المؤلف هنا سهواً عبارة «علي بن إبراهيم» بدلاً من «فرات بن إبراهيم» فصححتُها في المتن. (المُتَرْجِمُ) [59] المجلسيُّ، «بحار الأنوار»، ج 53، ص 118. (المُتَرْجِمُ)