دراسة علمية لأحاديث المهدي

فهرس الكتاب

مناقشة ما أورده أبُو سَهْلٍ النَّوْبَخْتِيُّ في كتابه «التَّنْبِيه في الإِمَامَةِ»[439]

مناقشة ما أورده أبُو سَهْلٍ النَّوْبَخْتِيُّ في كتابه «التَّنْبِيه في الإِمَامَةِ»[439]

اعلم أن «أَبَا سَهْلٍ إِسْمَاعِيلَ بْنَ عَلِيٍّ النَّوْبَخْتِيَّ» كان أحد المُتَنَفّذين من الأسرة النوبَـخْتِيَّة ومن أنصار «الـْحُسَيْنِ بْنِ رَوْحٍ النَّوْبَخْتِيِّ» (النائب الثالث) ومُؤَيِّديه وأقربائه!! وقد ألَّف في الدفاع عن الخرافات كتاباً باسم «التَّنْبِيْهِ في الإِمَامَةِ»! وقد نقل الشيخ الصَّدوق أقواله في كتابه «كمال الدين»، وسنستعرض فيما يلي بعض هذه الأقوال ونناقشها:

1- قال أبو سهل النوبختي:

"وكثيراً ما يقول خصومنا: لو كان ما تدَّعون من النصِّ حقَّاً لادَّعَاه عليٌّ (ع) بعد مُضيِّ النبيِّ ص. فيُقال لهم: كيف يدَّعيه فيُقيم نفسه مقام مُدَّع يحتاج إلى شهود على صحة دعواه وهم لم يقبلوا قول النبي ص، فكيف يقبلون دعواه لنفسه؟! وتخلُّفه عن بيعة أبي بكر ودفنه فاطمة (ع) من غير أن يُعرِّفهم جميعاً خبرها حتى دَفَنَهَا سِرَّاً أدلُّ دليلٍ على أنه لم يرضَ بما فعلوه". اهـ

وأقول: أولاً: ينبغي أن نعلم أننا لا نتكلم هنا عن أفراد مجهولين بل عن أشخاص مدحهم القرآن مراراً وتكراراً ولم يكونوا يتوانون عن بذل أرواحهم وأموالهم في سبيل الإسلام، كما أن أثنى عليهم حضرةُ عَلِيٍّ (ع) أيضاً ومدحهم مرَّات عدّة كما في الخطبة 182 من نهج البلاغة.

67ثانياً: لنفرض أنه كان للمهاجرين مصلحة في كتمان النص على خلافة عَلِيٍّ (ع)، لكن المُؤكّد أنه لم يكن للأنصار أيُّ نفع في ذلك، ولا شك أنهم لم يكونوا ليبيعوا آخرتهم بدنيا المهاجرين، بل لو كان هناك نصٌّ لأظهره الأنصار على الأقل، وحول هذا الموضوع وموضوع تأخُّر عَلِيٍّ في مبايعة أبي بكر، من المفيد مراجعة الكتاب الشريف «شَاهْرَاه اتِّحَاد» [طَرِيق الاتِّحاد]، للمرحوم قلمداران، ومراجعة التحرير الثاني لكتابنا «نقد مفاتيح الجنان في ضوء آيات القرآن» (ص 451 إلى 464).

ثالثاً: إن ما ندَّعيه هو أن الإمام المنصوص عليه والمنصوب مِنْ قِبَلِ الله -حسب قولكم- لم يُبيِّن هذا النص على نفسه في وقت الاحتجاج، أي في الوقت الذي يكون فيه «الصمت في موضع البيان بيان» ولم يُشر إليه أدنى إشارة لإتمام الحُجَّة، في حين أن ردّ الآخرين أو قبولهم لهذا النص خارج عن موضوع بحثنا، لأن بيان الهداة الإلهيين للأمة ليس مرهوناً بقبول المخاطبين لبيانهم أو ردِّهم له بل يستند إلى وجوب إتمام الحُجَّة[440]، في حين أن الإمام عَلِيّاً (ع) قال كلاماً آخر ولكنه لم يُشر إلى مسألة غدير خم، في حين أنه لو كان احتجاج الإمامِ عليٍّ على منافسيه في أمر الخلافة مرهوناً بقبول مخاطبيه لكلامه لوجب أن يسكت من الأساس ولا يقول شيئاً، ولكنه ÷ لما لم يسكت، فمن الواضح أن سكوته عن ذكر مسألة نصبه مِنْ قِبَلِ رسولِ اللهِ ص في غدير خُم لن يكون له أيُّ تفسير سوى ثبوت بطلان ادِّعائكم! ولحسن الحظ ليس بيننا وبينكم خلاف في هذه النقطة وهي أن عَلِيّاً (ع) لم يذكر النص على نفسه وَنَصْبِهِ مِنْ قِبَلِ اللهِ ورسولهِ ص في موضع الاحتجاج على منافسيه.

أما مسألة دفن حضرة الزهراء (ع) سِرَّاً فيُراجَع في ذلك كتاب «زيارت و زيارتنامه» [زيارة المزارات ونصوص الزيارات] (ص 14 إلى 16، الدليل السادس من الدلائل العقلية والتاريخية).

ثم ذكر النوبختي أموراً حول الخلافة بعد النبي ص يُمكن لكل من قرأ كتاب «شَاهْرَاه اتِّحَاد» [طَرِيق الاتِّحاد] أن يُدرك بطلانها بكل وضوح ولا حاجة لتكرار ذلك هنا. ولكن يجب أن نتذكّر أن آل النوبختي -ومنهم «أبو سهل»- كانوا ماهرين جداً في خداع العوام، إلى درجة أنهم لم يكونوا يتورّعون عن الكذب في هذا السبيل!! فإحدى أكاذيب «أبي سهل النوبختي» قوله:

"وربما قال خصومنا إذا عضَّهم الحِجَاج‏ ولزمتهم الحُجَّة في أنه لابُدَّ من إمام منصوص عليه عالم بالكتاب والسنة مأمون عليهما لا ينساهما ولا يغلط فيهما ولا تجوز مخالفته واجب الطاعة بنص الأول عليه؛ فمن هو هذا الإمام؟ سمُّوه لنا ودُلُّونا عليه...!!". اهـ

أقول: لا شك أن ادِّعاء النوبختي هذا كذب محض ولم يقل مخالفوه ما نسبه إليهم، بل يقولون: بما أن رسول الله ص لم ينصب أحداً خليفةً له، وأن القرآن الكريم يقول: ﴿وَأَمۡرُهُمۡ شُورَىٰ بَيۡنَهُمۡ وَمِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ يُنفِقُونَ ٣٨ [الشورى: ٣٨]، فلا ضرورة إذن للإصرار على خلافة شخص منصوبٍ مِنْ قِبَلِ الله ورسوله، بل على المسلمين أن يختاروا، بعد التشاور فيما بينهم، شخصاً ملتزماً بالكتاب والسنة ويُبايعوه ويطيعوه طالما رأوه مُتَّبعاً للكتاب والسنة غير متجاوز لهما [441]، لاسيما أنه ليس لدينا أيُّ نصٍّ موثوق يدل على أن حضرة عَلِيٍّ (ع) نصب حضرات الحسن والحسين و ...... خلفاء وحكاماً على المسلمين من بعده. وخاصة أن ادِّعاءكم ضرورة أن يكون الإمام معصوماً وأن المعصوم لا يجوز أن ينصب للإمامة إلا معصوماً، مخالف لعمل الأئمة، لأن حضرة الإمام الصادق ÷ نصب في بداية الأمر ابنه إسماعيل إماماً من بعده، وحضرة الهادي (ع) نصب في بداية الأمر ابنه السيد محمد إماماً من بعده، ولكن بعد أن تُوفي إسماعيل والسيد محمد في حياة أبويهما قام الصادق (ع) بنصب ابن آخر من أبنائه خليفة له وكذلك فعل الإمام الهادي (ع)، مع العلم أنكم لا تعتبرون إسماعيل والسيد محمد معصومين. فهذه الوقائع تُثبت أن نصب إسماعيل ومحمد لم يكن من جانب الشارع! حول هذا الموضوع من الضروري مراجعة التنقيح الثاني لكتاب «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول» (الأبواب من 119 حتى 133 من الكافي، في الصفحات 597 إلى 669).

ثم يُواصل النوبختي كلامه قائلاً:

"تكلَّمنا فيما توجبه العقول [وقلنا إنه] إذا مضى النبيُّ عليه السلام وهل يجوز أن لا يستخلف وينص على إمام بالصفة التي ذكرناها؟! فإذا ثبت ذلك بالأدلة فعلينا وعليهم التفتيش عن عين الإمام في كل عصر".

أقول: إن مسألة لزوم أن يقوم النبيّ بالنص على خليفة له في حكم المسلمين أمرٌ لا يُمكن إثباته عقلاً -كما تمّ بيان ذلك في كتاب «شَاهْرَاه اتِّحَاد» [طَرِيق الاتِّحاد] (ص 65 إلى 75، فصل: العقل مُنكر للنص) وكتابنا «تضاد مفاتيح الجنان با قرآن»، (ص 383 - 384)- وبناءً على ذلك فإن ادِّعاء «أبي سهل النوبختي» خداع وتضليل، ولما كان رسول الله ص يعلم أفضل من أيّ أحد آخر ما يتوجب عليه فعله ولم يقم بشكل واضح وصريح بنصب أحدٍ حاكماً على المسلمين من بعده، فلا يجوز أن نكون أكثر ملكية من الملك ونُصرّ على عنوان «الإمام المنصوص عليه من الله» ونُفسِّق الآخرين الذين لا يؤمنون بهذا الأمر.

ثم قال النوبختي: "ونقل الشيعة النصَّ عَلَى عليٍّ (ع) وهم الآن من الكثرة واختلاف الأوطان والهِمَم على ما هم عليه، يُوجب العلم والعمل، لاسيما وليس بإزائهم فرقة تدَّعي النصّ لرجل بعد النبي ص غير علي (ع)"!!

أقول: أولاً: إن مخالفيكم لا يدَّعون أن النبيَّ نَصَبَ شخصاً آخر غير عَلِيٍّ في مقام الحكم والخلافة، بل يقولون: إن رسول الله ص لم ينصب أحداً أصلاً لمقام الخلافة من بعده، لكي يتَّبع المسلمون مبدأ الشورى القرآني (الشورى: 38) وينتخبوا خليفتهم بأنفسهم مُراعين في ذلك المبادئ العامة للشريعة -كما تمّ بيانها في كتاب «شَاهْرَاه اتِّحَاد» [طَرِيق الاتِّحاد]، (ص 70 إلى 73)-. بناءً عَلَى ذَلك، لا يُمكن الاستنتاج من عدم ادِّعاء أحد أن النبيّ نصب أحداً غير عَلِيٍّ خليفةً له، ضرورةَ أن يكون النبيُّ قد نَصَبَ عَلِيّاً إذاً، لاسيما أن منصوبكم المزعوم لم يستند في احتجاجه على منافسيه إلى الدليل الذي تذكرونه على نصب النبيّ له. أَفَلَا تَعْقِلُونَ؟

وتبلغ وقاحة «أبي سهل النوبختي» وخداعه مداها حين يقول:

"..... بل أخبار الشيعة أوكد، لأنه ليس معهم دولة ولا سيف ولا رهبة ولارغبة وإنما تنقل الأخبار الكاذبة لرغبة أو رهبة أو حمل عليها بالدول وليس في أخبار الشيعة شي‏ء من ذلك!!". اهـ

فنقول: أولاً: الادِّعاء بأنه لمَّا لم يكن لدى الشيعة حتى زمن «أبي سهل النوبختي» دولة ولا سيف ولا رهبة، وَمِنْ ثَمَّ فلم يكن لديهم دافع لوضع الأخبار، ادِّعاء معلول وعلى المُدِّعي أن يقبل مثله بالنسبة إلى سائر الطوائف التي كانت أقلية! في حين أنه هو نفسه يعتبر فرق الفطحية والكيسانية والإسماعيلية والواقفية والزيدية و...... الخ فرقاً باطلة ولا يقبل مروياتها.

ثانياً: أصل ادِّعائه بأنه لما كان الشيعة يفتقدون الدولة ولا يملكون السلطة فلم يكن لديهم دافع لوضع الحديث ادِّعاء باطل في باطل، لأنه مخالف للتحقيق[442] بل مخالف لقول أكثر علماء الشيعة أنفسهم الذين يعتبرون كثيراً من الأحاديث في كتبهم ضعيفةً وساقطةً من الاعتبار.

ثالثاً: من حيث المبدأ لا تحتاج الحكومة التي تمتلك السلطة والحكم وتكون من أنصار مذهب الأكثرية (أو تُعلن عن نفسها بأنها من أتباع مذهب الأكثرية) إلى وضع الحديث، أو على الأقل لِنَقُلْ أن حاجتها إلى ذلك أقل بكثير من حاجة الأقلية المعارضة إلى وضع الأحاديث لنصرة قضيتها، وهذا أمر لا يخفى على من له علم بالتاريخ، خاصة أنه في ذلك العصر القديم كان اختلاق الأحاديث أحد أهم الوسائل المستخدمة لإضعاف حكومة الأكثرية وتشويهها في أنظار عامة الناس وتصويرها منحرفةً وضالةً. بناءً عَلَى ذَلك، فإن الدافع لوضع الحديث كان لدى الشيعة وسائر الأقليات أقوى منه لدى الأكثرية صاحبة الحكم والسلطة. (فَلَا تَتَجَاهَلْ).

2- ثم يقول «أبو سهل النوبختي» عن المهدي:

"وإذا صحَّ بنقل الشيعة النص من النبي ص على علي (ع) صحَّ بمثل ذلك نقلها النص من عليٍّ على الحسن ومن الحسن على الحسين ثم على إمام إمام إلى الحسن بن علي [العسكري] ثم‏ على الغائب الإمام بعده (ع) لأن رجال أبيه الحسن [العسكري] (ع) الثقات كلهم (!!) قد شهدوا له بالإمامة وغاب (ع) لأن السلطان طلبه طلباً ظاهراً ووكَّل بمنازله وحرمه سنتين.".

ويُكرِّر «أبو سهل النوبختي» الفكرة ذاتها في موضع آخر من كتابه فيقول:

"ووجه آخر [أي من الدلائل على ثبوت وجود المهدي وإمامته] وهو أن الحسن [العسكري] (ع) خلَّف جماعةً من ثقاته ممن يروي‏ عنه الحلال والحرام ويؤدي كتب شيعته وأموالهم ويخرجون الجوابات، وكانوا بموضع من الستر والعدالة بتعديله إياهم في حياته، فلما مضى أجمعوا جميعاً على أنه قد خلف‏ ولداً هو الإمام (!!)[وطبعاً لم يرَ هذا الولد أحدٌ سوى هؤلاء المُدَّعين، خلافاً لأبيه الحسن العسكري الذي رآه كثيرون وعرفوه] وأمروا الناس أن لا يسألوا عن اسمه وأن يستروا ذلك من أعدائه، وطلبه السلطان أشد طلب ووكَّل بالدور والحبالى من جواري الحسن (ع) ثم كانت كتب ابنه الخلف بعده تخرج إلى الشيعة بالأمر والنهي على أيدي رجال أبيه الثقات [يعني ذنب الثعلب يشهد له؟!!] أكثر من عشرين سنة [وكانوا بالطبع يأخذون الأموال والوجوه الشرعية من الناس باسمه، وبالطبع يمكن صرف النظر عن كل شيء إلا عن الأموال!!]، ثم انقطعت المكاتبة ومضى أكثر رجال الحسن (ع) الذين كانوا شهدوا بأمر الإمام بعده وبقي منهم رجل واحد (؟!!) قد أجمعوا على عدالته وثقته فأمر الناس بالكتمان (؟!!) وأن لا يُذيعوا شيئاً من أمر الإمام [لماذا؟؟ وبماذا اختلفت الأوضاع الآن عما كانت عليه قبل عشرين سنة؟! لا بد أنكم ستقولون لنا لا دخل لك في ذلك وإياك والفضول!] وانقطعت المكاتبة فصح لنا ثبات عين الإمام بما ذكرت من الدليل"!.اهـ

أقول: في رأيي كان «أبو سهل النوبختي» مُجرَّداً من الحياء تماماً وإلا لما ذكر مثل تلك الأكاذيب!!

يقول الدكتور عباس إقبال الآشتياني:

"إن وفاة الإمام الحادي عشر دون أن يُخلّف ابناً ظاهراً ...... لم يُجرّئ مخالفي الطائفة الإمامية في ذلك العصر على الطعن بها وتضليلها فحسب بل أوقع الاضطراب والحيرة في قلوب المؤمنين بذلك المذهب الإمامي حتى برزت بينهم الفرقة والاختلاف في الرأي إلى درجة أنهم انقسموا إلى 14 فرقة كلٌّ منها يلعن سائر الفرق ويُكفِّرها، وكاد أن ينهدم ذلك الأساس الذي بُني بمشقة ومعاناة على مدار سنين طويلة بسبب هذه الاختلافات وبسبب سعي أعداء الإمامية ...... توفي الإمام الحادي عشر حضرة الإمام أبو محمد الحسن بن علي العسكري (ع) -حسب رواية الشيعة- يوم الجمعة الثامن من ربيع الأول سنة 260 هجرية قمرية بعد خمس سنوات وثمانية أشهر وخمسة أيام من إمامته في مدينة «سُرَّ من رأى» في حين لم يكن له حسب الظاهر أيُّ ابنٍ ظاهر أمام مرأى عامة الناس، ولهذا السبب أمر الخليفة العباسي آنذاك «المُعتمد على الله» (حكم من 256هـ. إلى 279هـ) بتفتيش بيت الإمام وحجراته وختم عليها جميعها، وبحث عماله عن ابن ذلك الإمام وتمّ تعيين نساء قابلات للتحقُّق من أحوال إماء الإمام الحادي عشر، ولما ادَّعت إحداهنَّ أن هناك أَمَةً للإمام حاملاً، تمّ وضعها في غرفة خاصة وأوكلوا لخدمتها خادماً وبضعة نساء، وحضر أخو الخليفة «أبو عيسى بن المتوكل» في تشييع جثمان الإمام (العسكري) والصلاة عليه وأخذ تصديقاً من كبار الأسرة العلوية والعباسية ورؤساء الجند والكُتّاب والقضاة والفقهاء والمُعدّلين بأن الإمام مات ميتة طبيعية. بعد أن تمّ دفن جثمان الإمام (الحادي عشر) في الغرفة ذاتها التي كان الإمام العاشر قد دُفن فيها، بذل الخليفة وأعوانه جهداً كبيراً للبحث عن «ابْنٍ» له، فلما لم يصلوا إلى نتيجة كما أن الأَمَة التي تُوُهِّم أنها حامل لم تضع أيَّ وليد رغم إبقائها تحت المراقبة مُدّةَ سنتين، عندئذٍ استقرَّ رأي الخليفة على تقسيم تركة حضرة العسكري، هنا نشب نزاعٌ على الميراث بين أمّ حضرة العسكري واسمها «حديث» وأخيه «جعفر»، فرغم أن «حديث» أثبتت عند القاضي أنها الوارثة الوحيدة للإمام الحادي عشر، إلا أن «جعفرَ» أخا المرحوم الإمام العسكري عارضها في ذلك وسعى لدى الخليفة ضدها واستعان بالخليفة للحصول على ميراث أخيه. في نهاية المطاف وبعد سبع سنوات من التوقف، قُسِّمَت تركة الإمام الحادي عشر بين أمه «حديث» وأخيه «جعفر»...... ومن الجهة الأخرى كان في رحيل الإمام الحادي عشر وغياب ابنه، أي حضرة القائم، ودعاوي أخيه جعفر الذي لقّبه الإمامية بـ«جعفر الكذَّاب»، كما أشرنا من قبل، مستمسكاً لمخالفي الإمامية لاسيما المعتزلة والزيدية وأصحاب الحديث والسُنَّة والخليفة العباسي، للهجوم على الإمامية وتضليلهم. ومن الجهة الأخرى انقسم الإمامية أنفسهم إلى فروع عديدة برزت منهم 14 فرقة[443]، بعضها كان مُنكراً لوجود ابْنٍ للإمام الحادي عشر وبعضها كان شاكاً ومتردداً في وجوده، واعتقدت فرقةٌ منها بختم الإمامة في الإمام الحادي عشر، وادَّعت فرقةٌ أخرى غيبة الإمام الحادي عشر ورجعته في المستقبل، ومن هذه الفرق أيضاً فرقةٌ اعتقدت بإمامة «جعفر» أخي الإمام الحادي عشر ولكن أتباع هذه الفرقة لم يتَّفقوا على إمامة جعفر، فبعضهم اعتبره خليفةً للإمام الحادي عشر وبعضهم الآخر اعتبره منصوباً مِنْ قِبَلِ أخيه الآخر «محمَّد» الذي تُوفي أثناء حياة أبيه (=حضرة الهادي)، واعْتَبَرَتْهُ فرقةٌ مُعَيَّناً مِنْ قِبَلِ الإمامِ العاشِرِ..... وقد استغرقت معركة الآراء هذه والأزمة الطاحنة الفترة من عهد الخليفة العباسي «المعتمد» حتى زمن «المقتدر»[444]". ا هـ . (كتاب «خاندان نوبختي» [الأسرة النوبختية]، ص 107 إلى 109).

كما تُلاحظون لم يكن معظم أتباع وشيعة حضرة العسكري موافقين على فكرة إنجابه لابْنٍ. إضافةً إلى ذلك -وكما مرّ معنا في الصفحات الماضية من الكتاب الحاضر (ص298)- لم يكن كثير من أصحاب العسكري أشخاصاً موثوقين بل كان معظمهم أشخاصاً كذَّابين يحتالون على العوام شأنهم في ذلك شأن معظم أصحاب سائر الأئمة. لكن «أبا سهل النوبختي» الذي شهد هذه الاختلافات بين أصحاب حضرة العسكري وأتباعه قال بكلِّ وقاحة: "لأن رجال أبيه الحسن [العسكري] (ع) الثقات كلُّهم (!!) قد شهدوا له بالإمامة"!!!

يقول الكاتب (البرقعي): عندما يقول معظم أتباع حضرة العسكري (ع) وشيعته -13 فرقة من أصل 14- الموثوقون جداً حسب قولكم: إنَّهُ لم يكن للإمام وَلَدٌ، فلا يجوز أن نكون أكثر مَلَكِيَّةً مِنَ الَملِكِ ذاته فنقول إنه كان ذا وَلَدٍ دون أن يكون لدينا دليل قاطع على ذلك! وحتى لو كان لحضرة العسكري (ع) ابنٌ لكان حين وفاة أبيه طفلاً غير بالغ وغير مُؤَهَّلٍ لإمامة الأمة، وإن أردتم أن تُحيلونا إلى تلك الأكاذيب التي جَمَعَها الكُلَيْنِيّ في كتابه حول إمامة الطفل غير البالغ فإننا نُحيلكم بدورنا إلى كتاب «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول» (الباب 130 إلى 134، في الصفحات 658 إلى 669، والأبواب 179 إلى 183، في الصفحات من 840 إلى 861).

أما قولكم: "كانت كُتُبُ ابنه الخَلَفِ بَعْدَهُ تخرج إلى الشيعة بالأمر والنهي على أيدي رجال أبيه الثقات أكثر من عشرين سنة"، فنقول -كما سبق أن قلنا مراراً في كتابنا الحاضر هذا وغيره-: كيف يمكن للذين لم يسبق لهم أن رأوا المهدي بأمّ أعينهم ولا عرفوا خطّ يده أن يعلموا أن تلك الكتب والرسائل والتوقيعات كانت بخط الإمام الغائب فعلاً ولم تكن مُزوَّرةً ومنسوبةً إليه كَذِبَاً؟! (راجعوا الصفحة 253 من الكتاب الحاضر).

3- ثم يقول «أبو سهل النوبختي»:

"وقد سألونا في هذه «الغيبة» وقالوا: إذا جاز أن يغيب الإمام ثلاثين سنة وما أشبهها فما تُنكرون من رفع عينه عن العالم؟ فيُقال لهم: في ارتفاع عينه ارتفاع الحجة من الأرض وسقوط الشرائع إذا لم يكن لها من يحفظها، وأما إذا استتر الإمام للخوف على نفسه بأمر الله عز وجل وكان له سبب معروف متصل به وكانت الحجة قائمة إذ كانت عينه موجودة في العالم وبابه وسببه معروفان، وإنما عدم إفتائه وأمره ونهيه ظاهراً وليس في ذلك بطلان للحجة، ولذلك نظائر [في تاريخ الإسلام] قد أقام النبي ص في الشعب [شعب أبي طالب] مدةً طويلةً وكان يدعو الناس في أول أمره سراً إلى أن أمن وصارت له فئة وهو في كل ذلك نبيٌّ مبعوثٌ مُرْسَلٌ؛ فلم يبطل تَوَقِّيه وتَسَتُّرَه من بعض الناس بدعوته، نُبُوَّتَهُ ولا أدحضَ ذلك حُجَّتَهُ!! ثم دخل (عليه السلام) الغار فأقام فيه فلا يَعرفُ أحدٌ موضعَه ولم يبطل ذلك نُبُوَّتَهُ ولو ارتفعت عينه لبطلت نبوته؛ وكذلك الإمام يجوز أن يحبسه السلطان المدة الطويلة ويمنع من لقائه حتى لا يُفتي ولا يعلم ولا يبين والحجة قائمة ثابتة واجبة وإن لم يُفْتِ ولم يُبيِّن لأنه موجود العين في العالم ثابت الذات...." اهـ .

فنقول: إن ادِّعاءه أنَّ: "في ارتفاع عين الإمام ارتفاع الحجة من الأرض وسقوط الشرائع.."[445] مُجرّد ادّعاء خرافي لم يأتِ عليه بأي دليل أو برهان، وقد بيَّنَّا بُطلانه في التحرير الثاني لكتابنا «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول». ثم إن الحُجَّة الإلهية الكافية ليست الإمام حتى يُقال: إن عدم وجود الإمام يساوي عدم وجود الحُجَّة الإلهية، بل القرآن هو الحُجّة الإلهية وهو الذي يُعتبر عدم وجوده فقداناً للحُجَّة الإلهية بلا خلاف. وقد اعتبره عَلِيٌّ (ع) أيضاً حُجَّةً كافيةً فقال: "أرْسَلَهُ بِحُجَّةٍ كافِيَةٍ "(نهج البلاغة، الخطبة 161)، وقال: "تَمَّتْ بِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله) حُجَّتُهُ" (نهج البلاغة، الخطبة 91)، ولم يذكر لأهل الأرض سوى أمانين أحدهما النبيّ ص والآخر الاستغفار (يُراجع كتاب «تضاد مفاتيح الجنان با قرآن»، ص 188). في حين أنه لو كان هناك أمر آخر غير هذين الأمرين، مثل ضرورة وجود الإمام المعصوم، لَمَا امتنع الإمامُ عَلِيٌّ (ع) عن ذكره، ولكن لما كانت الحُجَّة الباطنة لِـلَّهِ على عباده هي العقل وحُجَّة الله الظاهرة هي الأنبياءُ والرُّسُل الذين اختُتِمُوا بحضرة محمد ص ولم يذكر أميرُ المؤمنين عليٌّ ÷ - اتِّباعاً منه للقرآن الكريم- الإمامَ المعصوم، فعلينا نحن أيضاً إن كنا مُتَّبعين صادقين له أن لا نعتبر من عند أنفسنا ودون دليل قويمٍ الإمامَ حُجَّةً إلهيةً، لاسيما أن الآية 59 من سورة النساء بيَّنت أنَّ اللهَ ورسولَه هما فقط المرجعين اللذين تجب طاعتها طاعةً مطلقةً غير قابلةٍ للتنازع معها، ولو كان هناك معصوم آخر (مرجع غير قابل للتنازع معه) لوجب أن لا يمتنع القرآن عن تعريف أمة الإسلام به بكل وضوح وصراحة[446]. (فَتَأَمَّل)

أما القول بأن الإمام اختفى خوفاً على حياته، فهو حُجَّةٌ غير معقولة جعلتموها ترساً لخرافتكم بدلاً من تقديم دليل أو برهان على ما تقولون! في حين أنه يجب عليكم بدايةً أن تأتوا بدليل قاطع من الكتاب والسنة على وجوده وما لم يتمّ إثبات وجوده فلا جدوى من جميع الأبحاث والنقاشات الأخرى حول ذلك ولا طائل تحتها. بالإضافة إلى أن الخوف على النفس من القتل موجود دائماً، وَمِنْ ثَمَّ فلا ينبغي أن يظهر المهدي أصلاً في أيّ وقت من الأوقات! ونسأل: لما قال موسى لربِّه: ﴿فَأَخَافُ أَن يَقۡتُلُونِ ١٤ [الشعراء : ١٤] هل قال اللهُ له: إذن فاختفِ وغِبْ عن الأنظار؟! أم قال له ولأخيه: ﴿كَلَّاۖ فَٱذۡهَبَا بِ‍َٔايَٰتِنَآۖ إِنَّا مَعَكُم مُّسۡتَمِعُونَ ١٥ [الشعراء : ١٥]؟! كما أمر تعالى رسولَه أن يُبلِّغ ما أنزله إليه وقال: ﴿وَٱللَّهُ يَعۡصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِ [المائ‍دة: ٦٧]، إذن الحضور بين الناس من سُنن الأنبياء وَمِنْ ثَمَّ فإن الإمام التابع لسُنة النبيّ ص لا يُمكن بالطبع أن يهرب من الناس خوفاً على حياته!!

أما قولك: "قد أقام النبي ص في الشِّعب [شعب أبي طالب] مدةً طويلةً[447].....الخ" فلا يُفيدك في شيء: أولاً: لأن النبيّ ص قبل ذهابه إلى شِعب أبي طالب كان حاضراً بين الناس مدة أربعين سنة ولم يكن أحدٌ، مؤمنٌ أم مشركٌ، يشكُّ في وجوده، ولم يكن مُنكرو نُبُوَّة رسول الله ص يشكُّون بأيّ وجه من الوجوه في وجوده، خلافاً لمخالفي المهدي الذين يُنكرون وجوده من الأصل. ولو كان مخالفو النبيّ يشكون في وجوده لقام النبيّ قطعاً بإظهار نفسه ودفع تلك الشُّبهة. كما نرى أنه لما أُشيع أن النبيّ قُتل في غزوة «أُحد»، تبيَّن مباشرةً أن هذا الخبر كذب وأن النبيّ حيٌّ ولم تبقَ شُبهة في ذلك لأحد، مؤمناً كان أم مشركاً. على عكس حالة المهدي الذي كانت أكثرية أتباع حضرة العسكري والعلويين في ذلك الزمن لا يعتقدون بأن العسكري أنجب ولداً، وحتى بعد البحث والتحقيق الذي قام به القاضي والخليفة حول هذا الأمر لم يوجد أثر لابنٍ للعسكري. أضف إلى ذلك أننا كما لا نملك دليلاً يُثبِتُ أن الخليفة قَتَلَ حضرةَ العسكري، سوى مُجرّد الادِّعاء[448]، كذلك لا نملك دليلاً قاطعاً على أن الخليفة كان يريد قَتْلَ المهدي. (فَتَأَمَّل).

وبصرف النظر عن كل ما سبق، فإن السؤال المنطقي الذي يطرح نفسه: لماذا لم يظهر هذا المهدي الغائب زمن الصفوية أو في زماننا هذا الذي أصبحت فيه جميع شؤون البلاد بيد نائب المهدي(؟!) والناس يدعون الله ليل نهار أن يُعجّل لهم بظهور المهدي، فممّ يخاف إذن؟! ألا يثق بنائبه؟! هل يحتمل أن يقوم نائبه بقتله؟!!

ثم إن رسول الله ص، حتى في فترة إقامته في شِعب أبي طالب، كان يخرج من الشِّعب في موسم الحج ويلتقي بالوافدين إلى مكة ويدعوهم إلى الإسلام، كما يتَّفق على ذلك علماء السيرة، فلم يكن غائباً تماماً عن الأنظار لا يراه أحد من الناس، بل إن بعض الناس في مكة ومنهم «حكيم بن حزام» كان على صلة بالساكنين في الشِّعب، في حين أن وضع المهدي لم يكن كذلك.

بناءً على ما تقدّم، فإن تشبيه غيبة المهدي بإقامة رسول الله ص في شِعب أبي طالب ليس له أيُّ وجه من الصحة ولا يعدو الخداعَ والمغالطة!! أضف إلى ذلك أن النبيّ عندما كان في الشِّعب لم يكن غائباً عن أتباعه بل كان أتباعه يرونه، أما المهدي فلا يراه أحدٌ حتى أتباعه وشيعته!!! ثم إن النبيّ الذي لم يكن آمناً في مكة لم يَغِبْ ولم يتوارَ عن الأنظار تماماً بل هاجر إلى المدينة وكان ظاهراً فيها في حين أن مهديكم اختفى تماماً عن أنظار جميع الخلق، وبين الأمرين فرق شاسعٌ كالفرق بين السماء والأرض! أَفَلَا تَعْقِلُونَ؟

والمسألة الأخرى قول «النوبختي» أن النبيَّ ص: "كان يدعو الناس في أول أمره سراً إلى أنْ أَمِنَ وصارت له فئةٌ وهو في كل ذلك نبيٌّ مبعوثٌ مُرْسَلٌ؛ فلم يبطل تَوَقِّيه وتَسَتُّرَه من بعض الناس بدعوته، نُبُوَّتَهُ ولا أدحضَ ذلك حُجَّتَهُ!!".

الواقع أن لا علاقة لما ذكره بموضوع نقاشنا فالنبيُّ ص أخفى دعوته ورسالته في بداية بعثته، ولم يُخْفِ ذاته!! فكان أعداؤه ومخالفوه يرونه بكل سهولة ويسر، ولكنهم لم يكونوا يشاهدون دعوته، ومن الواضح أن إخفاء الدعوة غير إخفاء شخص النبيّ ذاته، ولذلك لم يكن لدى أحدٍ من مخالفي النبيّ شكٌّ أبداً في أصل وجوده، بل كانوا منكرين لدعوته لا لوجوده، على عكس حالة المهدي التي يوجد شك كبير وأساسيٌ في أصل وجوده، وليس لدينا أي دليل قاطع على وجوده الفعلي.

وأما قول النوبختي:

"ثم دخل [النبيُّ] عليه السلام الغار فأقام فيه فلا يعرف أحدٌ موضعَه[449] ولم يبطل ذلك نبوَّتَهُ ولو ارتفعت عينه لبطلت نبوته، وكذلك الإمام يجوز أن يحبسه السلطان المدة الطويلة ويمنع من لقائه حتى لا يُفْتِي ولا يُعَلِّم ولا يُبَيِّن والحُجَّةُ قائمةٌ ثابتةٌ واجبةٌ وإن لم يُفْتِ ولم يُبَيِّن؛ لأنه موجود العين في العالم ثابت الذات، ولو أن نبياً أو إماماً لم يُبَيِّن وَيُعَلِّم ويُفْتِ‏ لم تَبْطُلْ نُبُوَّتُهُ ولا إمامته ولاحُجَّتُهُ ولو ارتفعت ذاته لبطلت‏ الحُجَّة، وكذلك يجوز أن يستتر الإمام المدة الطويلة إذا خاف ولا تَبْطُلْ حُجَّةُ اللهِ عزَّ وَجَلَّ.". اهـ

فاعلم أنه: أولاً: الناس قبل أن يقوم السلطان الجائر بحبس حُجَّة الله كانوا قد رأوه ورأوا ثورته ضد جور السلطان ولم يكن من المستغرب لديهم أن يقوم السلطان الظالم بحبسه بسبب تحركه ضده. إذن فقد رأى الناس تلك الحُجَّة المذكورة قبل أن يتم القبض عليه ويُودع في السجن فعرفوه ولم يكن لديهم أيُّ شك في وجوده. كما أن أسرته وأهله كانوا يزورونه أثناء إقامته في السجن ويلتقون به وينقلون أخباره وأقواله إلى الآخرين. فليس بين مثل هذا الشخص ومهديكم أيُّ تشابه إذ إن مهديكم لم يرَ أحدٌ ولادته ولا يوجد أيُّ معلومات قطعية مُوَثَّقة عنه كما لا أثر له في كتاب الله.

ثانياً: إن موضوع نقاشنا مُنحصرٌ في حالة حبس حُجَّة الله (أي عدم قدرة الناس على التواصل معه والوصول إليه) وبقائه في السجن وعدم تحرُّره منه، أما الحُجَّة الذي يُسجن فترة من الزمن (أو يغيب) ثم يُطلق سراحه ويظهر للناس فهو خارج عن بحثنا.

ثالثاً: لا يخلو الأمر من إحدى حالتين: إما أن يُسجَنَ حُجَّةُ الله أو يغيب (أي يُصبح خارج متناول أيدي الناس) بعد أدائه مهمته، وهذا لا ينطبق على المهدي لأنه على فرض وجوده فإنه غاب قبل سن التكليف أي قبل أدائه للمهمَّة الإلهية. أو أن يُسجن حُجَّة الله أو يغيب (أي يُصبح خارج متناول أيدي الناس) قبل أدائه لمهمته الإلهية، ففي هذه الحالة لا تكون حُجَّة الله قد تمَّت على العباد، وبالنسبة إلى الناس لا يكون ثمَّة فرق بين الحُجَّة المعدومة والحُجَّة الموجودة لكنها خارج متناول أيديهم ويتعذّر الوصول إليها، ولهذا السبب قبل ختم النبوة كان الله تعالى كلما استُشهد نبيّ -من أنبياء الدعوة والتبليغ بالطبع- أو تعذَّر الوصول إليه لسبب ما، يُرسل نبياً جديداً. وهذا الحكم يجري أيضاً على المهدي، أي حتى لو كان موجوداً، طالما كان الوصول إليه والاتصال به مُتعذَّراً لا على عامة الناس فحسب بل حتى على العلماء والمراجع، فإن وجود عينه أو عدمه سيانٌ من ناحية عدم قيام حُجَّة الله به على العباد.

ولا غرابة في هذه الأقوال والاستدلالات الضعيفة الواهية من شخص قضى عمره في التلوّن كالحرباء واللعب على الحبلين وخداع عوام الناس، لكن عتبنا على علمائنا الذين يسكتون أمام هذه السفسطات أو يُدافعون عنها!!

4 - ويواصل «أبو سهل النوبختي» كلامه قائلاً:

" فإن قالوا: فكيف يصنع من احتاج إلى أن يسأل عن مسألة؟! قيل له: كما كان يصنع والنبي ص في الغار من جاء إليه ليُسْلِمَ وليتعلَّم منه؛ فإن كان ذلك سائغاً في الحكمة كان هذا مثله سائغاً[450]." اهـ.

فنقول: أولاً: معظم أحكام الإسلام العملية وتشريعاته الاجتماعية نزلت في المدينة، أما في مكة فكانت الآيات تُركِّز على التوحيد والمعاد إذ لم يكن المجتمع الإسلامي قد نشأ بعد في مكة، ولم يكن رسول الله ص قد تولى إدارة زمام أمور المجتمع وقيادته، أي لم يكن هذا الشأن من شؤونه ص أي الزعامة والرئاسة العملية للمجتمع قد تحققت له بعد. (فَتَأَمَّل)

ثانياً: معظم أصحاب النبيّ ص كانوا موجودين في مكة والمدينة، بناءً عَلَى ذَلك إذا كان النبيّ قد غاب عن أصحابه بضعة أيام في الغار فإن من أراد أن يُسْلِمَ أو أراد أن يسأل عن مسألة كان بإمكانه أن يرجع إلى أحد صحابة رسول الله ص ومن جملتهم حضرة عَلِيٍّ (ع) أو جناب جعفر الطيار أو جناب حمزة -رضي الله عنهما- أو عمار بن ياسر و ....... ويسأله عما أراد ويحصل على ما يطلب إلى أن يُعلن النبيّ عن مواصلة مهمته الإلهية من جديد بعد مُدَّة قصيرة في المدينة ويُلبِّي سائر حاجات المؤمنين الشرعية بنفسه. وهذا لا يُشبه على الإطلاق غيبة شخص -على فرض وجوده- تواصل غيابه عشرات الأجيال، ولم يكن أحد خلال ذلك يستطيع أن يراه أو يتصل به أو يسمع منه. و لو كان النبيّ وأصحابه قبل ظهورهم في المدينة خارج متناول أيدي جميع الناس تماماً -كما هو حال المهدي- لَمَا كانوا قطعاً حُجَّةً على سائر الناس ما لم يُظْهِر النبيُّ نفسَه ويُصبح في متناول أيدي الخلق، إذْ لا فرق بالنسبة إلى المُكلَّفين بين انعدام عين الحُجَّة أو وجود عينه مع تعذّر الاتصال به بأيّ شكل من الأشكال. (فَلَا تَتَجَاهَلْ).

ثالثاً: يتعلَّق المهدي بعصر ما بعد تشكيل المجتمع الإسلامي أي في الزمن الذي تحقق فيه أحد شؤون رسول الله ص وهو شأن قيادة المجتمع الإسلامي ورئاسته وإدارة دفة أموره. وأنتم أيضاً لا تعتبرون «الإمام» مُجرّد فقيه يُجيب عن الاستفتاءات المُتعلّقة بالمسائل الفقيهة بل تعتبرون أن أحد فوائد وجوده إقامة الحدود وتطبيق أحكام الشريعة وهداية المجتمع من خلال الأوامر والنواهي وسائر القرارات المُتعلّقة بشؤون الدولة والمجتمع الإسلامي كلها، وكلا الأمرين أي بيان حكم الشرع في المسائل الفقهية المُستحدثة، وقيادة المجتمع نحو الخير والصلاح يتعطَّلان تماماً بغيبة الإمام. فهذا لا يُشبه من قريب ولا من بعيد غياب النبيّ ص في [الغار أو الشِّعب] قبل تشكيل المجتمع الإسلامي. أَفَلَا تَعْقِلُونَ؟

5- يقول «أبو سهل النوبختي»:

"... فَصَحَّ لنا ثباتُ عين الإمام بما ذكرتُ من الدليل وبما وصفتُ عن أصحاب الحسن (ع) ورجاله ونقلهم خَبَرَهُ، وَصِحَّةَ غيبته بالأخبار المشهورة في غيبة الإمام (ع) وأن له غيبتين إحداهما أشدُّ من الأخرى. ومذهبنا في غيبة الإمام في هذا الوقت لا يشبه مذهب الممطورة[451] في موسى بن جعفر لأن موسى مات ظاهراً ورآه الناس مَيِّتاً ودُفن دفناً مكشوفاً[452] ومضى لموته أكثر من مائة سنة وخمسين سنةً[453] لا يدَّعي أحدٌ أنه يراه ولا يكاتبه ولا يراسله، ودعواهم أنه حيٌّ فيه إكذابُ الحواس التي شاهدته ميِّتاً، وقد قام بعده عدَّةُ أئمَّةٍ فأتوا من العلوم بمثل ما أتى به موسى (ع)؛ وليس في دعوانا هذه غيبة الإمام إكذاب للحس ولا محال ولادعوى تنكرها العقول ولا تخرج من العادات وله إلى هذا الوقت من يدعي من شيعته الثقات المستورين أنه باب إليه وسبب يؤدي عنه إلى شيعته أمره ونهيه ولم تطل المدة في الغيبة طولاً يَـخْرُجُ من عادات من غاب[454]؛ فالتصديق بالأخبار يوجب اعتقاد إمامة ابن الحسن (ع) على ما شرحت وأنه قد غاب كما جاءت الأخبار في الغيبة فإنها جاءت مشهورة متواترة، وكانت الشيعة تتوقعها وتترجاها كما ترجون بعد هذا من قيام القائم (ع) بالحق وإظهار العدل!". اهـ‏

فنقول: أولاً: طبقاً لإقرار «النوبختي» ذاته، كان الناس قد رأوا جثمان حضرة الكاظم (ع) - يستوي في ذلك أتباعه وغيرهم- وتأكدوا من موته وقاموا علناً بدفنه.

ثانياً: أعلن حضرة الرضا (ع) والعلويون جميعهم بلا خلاف وفاةَ حضرة الكاظم، وقام حضرة الرضا (ع) بمطالبة وكلاء أبيه بالأموال التي جبوها باسمه (راجعوا كتاب «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول»، الباب 18، ص 197 إلى 200). وكانت أموال حضرة الكاظم (ع)، إضافة إلى ممتلكاته الشخصية وإمائه، الوجوه الشرعية التي أودعها الناس لدى وكلائه ونُوّابه حتى يُسلّموها إلى الإمام عند تحرّره من السجن.

ثالثاً: كان حضرة الرضا (ع) نفسه مشهوداً ومرئياً ولم يكن أحد يشك في أنه ابن حضرة الكاظم (ع) ولم يكن الأئمة بعد حضرة الكاظم (ع) بحاجة على الإطلاق لإثبات بُنُوَّة كل منهم للإمام قبله. (فَلَا تَتَجَاهَلْ).

رابعاً: كيف توجب رؤية جثمان حضرة الكاظم (ع) العلم بوجوده ووفاته ولا يكون العلم بوجود المهدي بحاجة إلى رؤيته (إذ لم يره سوى بعض الأشخاص الضعفاء في الرواية والمجهولون أو المحتالون المخادعون للعوام؟!)، خاصة أن أكثرية مُحبّي حضرة العسكري (ع) وأتباعه أي 13 فرقة من أصل 14 فرقة من شيعته، لم يكونوا يعتقدون بإنجابه لابنٍ.

خامساً: قوله إن غيبة المهدي لم تطل مُدَّتها طولاً يَخْرُجُ من عادات من غاب، يدل على أن «النوبختي» كان مهتماً فقط بإسكات عوام الناس في زمانه ولم يكن يخطر على باله أن زمن الغيبة سيطول طولاً شديداً على نحو يوقع الأجيال اللاحقة في إشكال كبير. (فَتَأَمَّل). في حين أنه في زمننا هذا تكون غيبة المهدي قد طالت قرابة ألف ومئتي عام وهو أمر عجيب جداً وخارج تماماً عن عادات من غاب، ولا يقبله عقل العقلاء من جهات مُتعدّدة.

نعم، إن إشكالات رسالة «أبي سهل النوبختي» هذه وسفسطاته أكثر مما ذكرنا، ولكنني لصعوبة الكتابة في هذه الأيام سأكتفي من تفنيد أباطيله بما ذكرته ولا شك لديَّ أنه لو قرأ شخص سائر كتب هذا العبد الفقير يعني التحرير الثاني لكتاب «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول» والتحرير الثاني لكتاب «نقد مفاتيح الجنان في ضوء آيات القرآن» وكتاب «خرافات وفور در زيارات قبور» الذي يُشكّل الجزء الثاني من كتاب «زيارت و زيارتنامه» [زيارت المزارات ونصوص الزيارات]، أو الكتابين القيمين لأخينا العالم الفاضل المرحوم «حيدر علي قلمداران» -أعلى الله مقامه- «شَاهْرَاه اتِّحَاد» [طَرِيق الاتِّحاد]، و «راه نجات از شر غلاة» [طريق النجاة من شر الغلاة] ستتضح له بكل سهولة خدع «أبي سهل النوبختي» وأتباعه. لذا سأنتقل في الصفحات التالية إلى كشف خدع أحد معاصري النوبختي -وهو «ابن قِبَّة الرازيّ»- على نحو الاختصار، الذي يبدو أنه قد كتب رسائله أو بعضها قبل أن يكتب النوبختي كتابه «التنبيه»، ولعلّ النوبختي قد استفاد في مغالطاته من رسائل «ابن قِبَّة» وأخذها عنه. والعلم عند الله.

***

[439] وضعتُ هذا العنوان من عندي لأجل التوضيح. (المُتَرْجِمُ) [440] كما نجد أنه لما قال موسى (ع): ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّيٓ أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ ١٢ [الشعراء : ١٢] لم يقل الله تعالى له: إذن فاصمت ولا تقل شيئاً، بل قال له ولأخيه: ﴿قَالَ لَا تَخَافَآۖ إِنَّنِي مَعَكُمَآ أَسۡمَعُ وَأَرَىٰ ٤٦ فَأۡتِيَاهُ فَقُولَآ إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرۡسِلۡ مَعَنَا بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ [طه: ٤٦، ٤٧]. (فَتَأَمَّل) [441] وهذا القول يستند إلى الرسالة 6 من نهج البلاغة. وحول مدلولات هذه الرسالة من الضروري مراجعة كتاب «نقد مفاتيح الجنان في ضوء آيات القرآن»، ص 383. [442] ولأجل توعية للناس لدينا على وضع الأحاديث والروايات في كتب الحديث الشيعية ألَّفنا كتاب «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول» وكتاب «تضاد مفاتيح الجنان با قرآن». [443] كتب السيد عباس إقبال الآشتياني يقول: "إن الذي يَرْشَحُ من كتاب «فرق الشيعة» الذي بين أيدينا اليوم، والعبارات المنقولة عن النوبختي، هو أن فرقة الشيعة الإمامية انقسمت بعد رحيل الإمام الحسن بن علي العسكري إلى 14 فرقة، ولكن في تلك الأيام التي كان كل شخص فيها يقوم بإظهار مقالة حول موضوع الإمامة فيجمع حوله جماعة من الناس، وكان النزاع فيها على خليفة الإمام الحادي عشر لا يزال مستمراً، أُضيفت فرق أخرى جديدة لتلك الفرق الأربعة عشر بحيث أن المؤرّخ المسعودي صاحب «مروج الذهب» ذكر أن عدد فرقهم بلغ عشرين فرقةً وقد ذكر المسعودي في اثنين من مؤلَّفاته أي «المقالات في أصول الديانات» و«سرّ الحياة» مقالات تلك الفرق العشرين كلَّها". كتاب «خاندان نوبختي» [الأسرة النوبـختية]، ص 161. [444] أي الفترة بين 256 هـ إلى 320هـ، التي توالى فيها حكم الخلفاء العباسيين التالين (مع سنوات توليهم الخلافة): أبو العباس أحمد المعتمد 256هـ، أبو العباس أحمد المعتضد 279هـ، أبو محمد علي المكتفي 289هـ، أبو الفضل جعفر المقتدر 295هـ الذي استمر حكمه حتى 320هـ . (المُتَرْجِمُ) [445] إشارة إلى الخرافات التي جمعها الكُلَيْنِيّ في الأبواب 62 و63 و 64 من أصول الكافي. ومن اللازم مراجعة تعليقنا على أحاديث الأبواب المذكورة في كتاب «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول»، الصفحات من 398 إلى 403. [446] حول الآية 59 من سورة النساء من الضروري مراجعة كتاب «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول»، الصفحات 374، و417 إلى 419 (بحث في المُراد من «أُولِي الْأَمْرِ» الذين أوجب الله طاعتهم). [447] أيها القارئ المحترم! تأمل قليلاً في قول من يعتبر ثلاث سنوات مدة طويلة، ما عساه أن يقول عن مدة ألف ومئتي عام؟!! [448] حول كيفية وفاة الأئمة من الضروري مراجعة كتاب «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول»، الباب 130، الصفحة 660، حيث أتينا بكلام الشيخ المفيد والشيخ الطوسي اللذين قالا إنه ليس لدينا دليلٌ على أن حضرات الجواد والهادي والعسكري -عليهم السلام- قُتلوا أو ماتوا بالسم، وأن الأخبار التي تدل على قتلهم قيلت لأجل إثارة الناس وإرجافهم!! [449] راجعوا الصفحة 237 من الكتاب الحاضر. [450] راجعوا الصفحة 237 من الكتاب الحاضر. [451] في عُرفِ الشيعة الاثني عشرية يُطلق على الواقفية لقب: "الكلاب الممطورة"!! ويُقال لهم اختصاراً: الممطورة!. وأقول (المُتَرْجِمُ): «الممطورة»: الكلاب المبتلة بالمطر (كما في مجمع البحرين)، وذكر في المجمع أن سبب تسمية الواقفية بذلك "أن علي بن إسماعيل الميثمي ويونس بن عبد الرحمن ناظرا بعضهما فقال له عليّ بن إسماعيل- وقد اشتد الكلام بينهما-: ما أنتم إلا كلاب ممطورة. أراد أنكم أنتن من جيف لأن الكلاب إذا أصابها المطر؛ فلزم الواقفية هذا اللقب فهم يعرفون به اليوم". انتهى. (المُتَرْجِمُ) [452] نسأله: لو أخفوا جثمانه، و لم ير دفنه أحد من الناس، فماذا كنت تقول؟! [453] لاحظوا أنه يعتبر هنا مدة 150 عاماً مدة طويلة وذات أهمية تستدعي الانتباه إليها! فما عساه أن يقول اليوم بشأن غيبة طالت أكثر من 1200 عام؟! [454] ونسأله: لو كانت غيبته طويلةً طولاً يَخْرُجُ عن عادات من غاب، فماذا تقول؟!