تعارض مفاتيح الجنان مع القرآن

فهرس الكتاب

[بحث في أن بعثة النبي ص وقعت في رمضان وليس في رجب]

[بحث في أن بعثة النبي ص وقعت في رمضان وليس في رجب]

للأسف، لقد اضطرت هذه الأحاديث المخالفة للقرآن العلماءَ الخرافيين إلى أن يُثبتوا، بأنواع المُغالطات واستناداً إلى احتمالات ضعيفة، نزولين للقرآن الكريم ويقولون: إن القرآن نزل مرّتين على النبيّ، المرّة الأولى نزل دفعةً واحدةً، ثم نزل ثانية منجَّماً خلال 23 عاماً، فكان ينزل على النبيِّ كلَّ مرّةٍ جزءٌ من آيات القرآن فيقوم حضرته بإبلاغها للناس!

وبالنسبة إلى نزول القرآن دفعةً واحدةً لا يُقدِّمُ القائلون بذلك لنا كلاماً واضحاً غير مُبْهَمٍ ومستندٍ إلى دلائل محكمة قوية، بل ترى كلَّ واحدٍ منهم يقول شيئاً، ولكنهم غالباً ما يستندون إلى الفَرْق بين فعل «الإنزال» و«التنزيل». فيقولون: بما أن القرآن استخدم في حق القرآن فعل «الإنزال» وفعل «التنزيل» أيضاً فحيثما تكلَّم عن «إنزال» الكتاب أشار إلى نزول القرآن كله دفعةً واحدةً، وحيثما قال «تنزيل» الكتاب كان يُشير إلى نزول القرآن التدريجي!

لكن هذا القول ليس سوى مغالطة لا أكثر. صحيح أن لكل باب من أبواب الفعل الثلاثي المزيد فيه دلالة خاصة، لكن هذا لا يعني أنه لا يُمكن بحال من الأحوال أن يكون لبابين من أبواب الفعل الثلاثي المزيد فيه، المعنى ذاته! ولو رجعنا إلى كتب اللغة لرأينا نماذج عديدة لفعل من الأفعال المُجرَّدة رُوي ببابين من أبواب المزيد فيه مع أن لكلاهما المعنى ذاته! وكمثال على ذلك «أَفْرَغَ» وَ«فَرَّغ» اللذان يُفيدان المعنى ذاته. وهناك أمثلة عديدة أخرى على ذلك.

ثانياً: من الواضح أن المطر يهطل بصورة واحدة أي قطرة قطرة أي أنه ينزل بشكل تدريجي ولهذا السبب أُطلق عليه «المطر» ولا ينزل أبداً كما ينزل الماء عندما يقلب الإنسان دلواً ويصبُّ ما فيه من ماء! وكذلك جاء في القرآن الكريم بشأن المطر تعبير «تَنزيل الماء» [سورة العنكبوت: 63، والزخرف: 11] ولكن استخدم القرآن أيضاً عن للمطر تعبير «إنزال الماء» [سورة البقرة: 22، الأنعام: 99، إبراهيم 32]، وهذا بحدِّ ذاته يمنعنا من القول: إن معنى «الإنزال» و «التنزيل» مختلف دائماً وأنه لا يجوز استخدام أحدهما بدل الآخر. ولذلك نجد أن الله استخدم الفعلين «الإنزال» و «التنزيل» في بيانه لنزول المائدة السماوية كما قال: ﴿إِذۡ قَالَ ٱلۡحَوَارِيُّونَ يَٰعِيسَى ٱبۡنَ مَرۡيَمَ هَلۡ يَسۡتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيۡنَا مَآئِدَةٗ مِّنَ ٱلسَّمَآءِۖ... قَالَ عِيسَى ٱبۡنُ مَرۡيَمَ ٱللَّهُمَّ رَبَّنَآ أَنزِلۡ عَلَيۡنَا مَآئِدَةٗ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ... قَالَ ٱللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيۡكُمۡ... [المائ‍دة: ١١٢- ١١٥].

ومن الواضح أن المائدة لا تنزل جزءاً جزءاً بل تنزل كلها دفعة واحدة. كما استخدم القرآن تعبير «التنزيل» لبيان نزول كتاب من السماء مكتوباً في قرطاس [سورة النساء: 153، والأنعام: 7، والإسراء: 93] واستخدم للحديث عن نزول الملاك تعبير «التنزيل» [الإسراء: 95][435].

بل إن القرآن استخدم فعل «الإنزال» بحق نزول سورة واحدة فقط واستخدم لذلك فعل «التنزيل» أيضاً فقال: ﴿وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَوۡلَا نُزِّلَتۡ سُورَةٞۖ [حول الجهاد] فَإِذَآ أُنزِلَتۡ سُورَةٞ[محمد : ٢٠]، كما تمَّ استخدام فعل «التنزيل» في سورة التوبة في الكلام عن نزول سورة واحدة [سورة التوبة: 124 و 127].

حتى أن الله استخدم فعل «التنزيل» للكلام عن نزول القرآن جملةً واحدةً فقال: ﴿وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوۡلَا نُزِّلَ عَلَيۡهِ ٱلۡقُرۡءَانُ جُمۡلَةٗ وَٰحِدَةٗۚ كَذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِۦ فُؤَادَكَۖ وَرَتَّلۡنَٰهُ تَرۡتِيلٗا ٣٢[الفرقان: ٣٢].

وهذه الآية الأخيرة كما نُلاحظ ردّت على من اقترح نزول القرآن جملةً واحدةً وبيَّنت سبب عدم نزوله كذلك ولم تقل: بلى إن القرآن نزل مرَّةً جملةً واحدةً ولكنكم لا تعلمون ذلك![436].

ثالثاً: استخدم القرآن أيضاً فعلي «الإنزال» و «التنزيل» بحق التوراة [سورة آل عمران: 3 و91] مع أنه لم يدّعِ أحد أن للتوراة نزولين أيضاً.

رابعاً: لو كان القرآن قد نزل دفعةً واحدةً على قلب النبيّ لَمَا فُوجئ النبيُّ ليلة القدر من شهر رمضان عندما هبط جبريل عليه بآية: ﴿ٱقۡرَأۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَوَلَمَا سأل النبيّ: ماذا أقرأ؟ وَلَمَا رجع إلى بيته وهو يقول: «زمِّلوني زمِّلوني» بعد أن نزلت عليه الآيات الأولى من سورة العلق (راجعوا تفسير سورة المُزَّمل والمُدَّثر في «مجمع البيان»)، وَلَمَا استعجل بتحريك لسانه في قراءة ما يقرأه جبريل عند نزول القرآن التدريجي عليه (راجعوا تفسير سورة القيامة في «مجمع البيان»)، وَلَمَا قبل عذر من اعتذر عن الخروج يوم تبوك قبل التحقق من صدقه [سورة التوبة: 43] وَلَمَا حرَّم على نفسه ما أحلَّ الله له [سورة التحريم: 1 و 3] ولما شاور أحداً في واقعة الإفك بحق عائشة ليتحقق من الأمر (راجعوا تفسير الآيات من 11 حتى 15 من سورة النور في «مجمع البيان»)، لأنه لو كان القرآن قد نزل عليه كله مِنْ قَبْل لَعَلِم بنهايات كل تلك الأمور. وهناك أمثلة عديدة على ذلك في القرآن الكريم. أضف إلى ذلك أن في القرآن آيات لو فرضنا أنها نزلت دفعةً واحدةً لَمَا كانت مُتَّفقة مع الواقع الخارجي مثل قوله تعالى: ﴿وَلَقَدۡ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ بِبَدۡرٖ[ال عمران: ١٢٣]، وقوله: ﴿قَدۡ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوۡلَ ٱلَّتِي تُجَٰدِلُكَ فِي زَوۡجِهَا[المجادلة: ١]، أو قوله: ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّىٰٓ ١ أَن جَآءَهُ ٱلۡأَعۡمَىٰ ٢[عبس : ١، ٢] ففي مثل هذه الموارد تمَّ بيان الوقائع بفعل الماضي مع أنها لم تقع بعد وهذا خلاف الواقع والكل يعلم أن الإخبار عن فعل ما قبل وقوعه باستخدام الزمن الماضي غير صحيح.

خامساً: يُطلق على كل جزء من القرآن اسم «القرآن» أيضاً ولذلك فلا مانع من أن يُعبَّر عن بدء نزول جزء من القرآن بإنزال القرآن.

وينبغي أن ننتبه إلى أن بعثة النبيّ هي ابتداء نزول آيات القرآن الكريمة (الآيات الأولى من سورة العلق) عليه ص وكان ذلك في شهر رمضان، وَمِنْ ثَمَّ فقول الشيخ عبَّاس القُمِّيّ عن يوم 27 رجب: "وفيه كان بعثة النّبي ص وهبوط جبرئيل عليه السلام بالرّسالة"[437]!! غير صحيح[438].

بناءً على ما تقدّم فإن ما قيل في الباب السادس من المفاتيح حول «زيارة ليلة المبعث ويومه» خرافة لا أساس شرعيّ لها لأن المبعث لم يكن في شهر رجب أصلاً.

ورغم أن الشيخ عبَّاس أورد دعاءً جيداً في آخر الفصل المُتعلّق بشهر شعبان ذكر فيه أن القرآن نزل في شهر رمضان[439]، إلا أنه اعتبر هنا أن البعثة وقعت في شهر رجب! في ذلك الدعاء المُشار إليه قال الإمام الصادق ÷: "اللهم إِنَّ هَذَا الشَّهْرَ المُبَارَكَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدَىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ قَدْ حَضَرَ".

54وبالنسبة إلى ثواب الصوم في شهر رجب رُوِيَتْ أحاديث عديدة منها ما رواه «ابن عياش الجوهري»[440] مختل العقل عن النبيّ أنه قال: "إِنَ‏ رَجَباً شَهْرٌ عَظِيمٌ مَنْ صَامَ مِنْهُ يَوْماً كَتَبَ اللهُ لَهُ صَوْمَ أَلْفِ سَنَةٍ، وَمَنْ صَامَ مِنْهُ يَوْمَيْنِ كَتَبَ اللهُ لَهُ صَوْمَ أَلْفَيْ سَنَةٍ، وَمَنْ صَامَ مِنْهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ كَتَبَ اللهُ لَهُ صَوْمَ ثَلَاثِ آلَافِ سَنَةٍ"!!![441]

ورَوَوْا أيضاً أن الإمام الصادق ÷ قال: "فِي السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْهُ [أي من شهر رجب] نَزَلَتِ النُّبُوَّةُ عَلَى رَسُولِ اللهِ ص وَمَنْ صَامَ هَذَا الْيَوْمَ كَانَ ثَوَابُهُ ثَوَابَ مَنْ صَامَ سِتِّينَ شَهْراً"[442].

ورَوَوْا أيضاً أن الإمام الصادق والإمام الرضا - عليهما السلام - قالا: "فَصَوْمُ ذَلِكَ الْيَوْمِ [أي 27 رجب] كَصَوْمِ سَبْعِينَ عَامَاً"[443].

وقد اختار الشيخ عباس من هذه المجموعة من الأحاديث الثلاثة في كتابه (ص 148)[444] رواية السبعين عاماً، واعتبر أن صيام يوم 27 من رجب يعدل صيام سبعين سنة!! وللأسف لم يُفكّر بأن الله الرحمن الرحيم ذا الفضل العظيم قال: ﴿مَن جَآءَ بِٱلۡحَسَنَةِ فَلَهُۥ عَشۡرُ أَمۡثَالِهَا[الانعام: ١٦٠]أي أنه إذا وقع عمل الخير موقع القبول مِنْ قِبَلِ الله تعالى أعطى عليه عشرة أمثاله من الأجر والثواب. وبناءً على ذلك فتلك الأحاديث التي تُعطي ثوابات جُزافاً بلا ميزان ولا حساب لا يُمكن الوثوق بها. لكن للأسف لم يكن للشيخ عبَّاس معرفة كافية بالقرآن.

في هذه الأيام لا أملك القدرة على تمحيص أسانيد كل رواية من الروايات التي ذكرها الشيخ عبَّاس حول أعمال شهر رجب أو سائر الشهور، إضافةً إلى أنني لو أردت أن أُمحِّص جميع الروايات والأمور المذكورة في المفاتيح لأدَّى ذلك إلى أن يُصبح كتابي هذا كتاباً ضخماً ومُفصلاً جداً ولأصبح مُملاً لكثير من القرَّاء لذلك سأكتفي في كل فصل وباب من فصول المفاتيح وأبوابه بتمحيص ونقد بعض ما فيه توعيةً للقرَّاء وليكون ذلك نموذجاً للبقية. وينبغي أن نعلم أن أكثر ما لم نذكره ليس له وضع أفضل من الذي ذكرناه! ويُمكن لأهل التحقيق أن يُحققوا بأنفسهم في المطالب التي لم تُذكر هنا ويُنبِّهوا الآخرين بشأنها.

ولكن قبل الانتقال إلى الموضوعات المُتعلّقة بشهر «شعبان» أرى من الواجب عليّ أن أقول كلمةً بشأن ما قاله الشيخ عبَّاس نقلاً عن كتاب «رحلة ابن بطوطة» (أعمال ليلة المبعث، ليلة السابع والعشرين من شهر رجب، ص 145 فما بعد)[445]. وقد أشار إلى كتاب «رحلة ابن بطوطة» أيضاً في الصفحة 386 قبل بداية الفصل الخامس من الباب الثالث من المفاتيح[446].

[435] لاحظوا أن القرآن استخدم فعل «التنزيل» للحديث عن نزول ملاك واحد لا نزول الملائكة، فلا مجال للقول بأن المقصود نزول الملائكة بشكل تدريجي متتابع. (فَتَأَمَّل) [436] راجعوا ما ذكرناه في تفسيرنا «تابشي از قرآن» [شعاع من القرآن] حول هذه الآية. [437] مفاتيح الجنان (الفارسي)، ص 148. ومفاتيح الجِنان (المُعَرَّب)، ص 222. [438] راجعوا كتاب «زيارت و زيارتنامه»، ص 135 فما بعد. [439] مفاتيح الجنان (الفارسي)، ص 169 و 170. ومفاتيح الجِنان (المُعَرَّب)، ص 244. [440] راجعوا الكتاب الحالي، حاشية الصفحة 238. [441] بحار الأنوار، ج 94، ص 54 و 55. [442] بحار الأنوار، ج 94، ص 35، وسائل الشيعة، ج 7، 330. [443] بحار الأنوار، ج 94، ص 35. [444] مفاتيح الجِنان (المُعَرَّب)، ص 222، تحت عنوان: «يوم المبعث: اليوم السابع والعشرون». [445] مفاتيح الجِنان (المُعَرَّب)، ص 219. [446] مفاتيح الجِنان (المُعَرَّب)، ص 501.