فصل: زيارة الزهراء (ع) في المدينة
ورغم ما سبق، نجد الخرافيين مثل مؤلِّف «المفاتيح» يحضُّون الناس، للأسف، على زيارة مراقد أولياء الدين الصالحين ومن جملتهم حضرة فاطمة الزهراء (ع) التي لا يَعَلَمُ أحدٌ موضع قبرها، ويذكر: أن هناك ثلاثة أمكنة يُحتمل أن يكون قبرها فيها، ويقول: "ومن زارها في هذه الثلاثة مواضع كان أفضل"!![682]، ويحثّ على قراءة جُمَل ركيكة[683] في زيارتها!! مثلاً جاء في الزيارة التي ذكرها مخاطبة الزائر لحضرة الزهراء بقوله: "فَإِنّا نَسْأَلُكِ إِنْ كُنَّا صَدَّقْنَاكِ إلَّا أَلْحَقْتِنَا بِتَصْدَيقِنَا لَهُمَا"! وليت شعري! هل الأئِمَّة مأمورون بإيصال الناس إلى مقامات مختلفة في الآخرة؟! وهل وقوف الإنسان ساعةً مقابل قبر حضرة الزهراء وتملُّقه لها وتزلُّفه إليها يُعجبها ويجعلها ترضى عنه وتسعى لرفع مقامه عند الله؟! 70أضف إلى ذلك أن الأموات ليس لهم الأذن التي يسمعون بها الأصوات الطبيعية في هذا العالَم وهم لا يستطيعون السماع دون آلة السمع، والله وحده هو الذي لا يحتاج إلى آلة للسمع، كما قال أمير المؤمنين ÷ في وصف الحق تعالى: "وَالسَّمِيعِ لا بِأَدَاةٍ وَالْبَصِيرِ لَا بِتَفْرِيقِ آلَةٍ " (نهج البلاغة، الخطبة 152)، وقال: "بَصِيرٌ لَا يُوصَفُ بِالْحَاسَّةِ " (نهج البلاغة، الخطبة 179). أما سائر الكائنات فهي بحاجة إلى آلة خاصَّة لأجل الرؤية والسمع.
ولكننا نعلم أن واضعي هذه الزيارات ليس لديهم آذان صاغية لهذه الحقائق، لأن غرضهم، إضافةً إلى الانتفاع، إيجاد الفُرقة بين المسلمين كي يبتعدوا عن بعضهم فتضعف قوتهم. كما نقرأ في زيارة حضرة الزهراء (ع) (ص 323)[684] بعد مقدار من التملُّق والتزلُّف إلى تلك السيدة الطاهرة المُطهَّرة: "وَمَنْ جَفاكِ فَقَدْ جَفا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ، وَمَنْ آذاكِ فَقَدْ آذى رَسُولَ اللهِ....... أُشْهِدُ اللهَ وَرُسُلَهُ وَمَلائِكَتَهُ أَنّي رَاضٍ عَمَّنْ رَضَيتِ عَنْهُ، ساخِطٌ عَلى مَنْ سَخِطْتِ عَلَيْهِ، مُتَبَرِّئٌ مِمَّنْ تَبَرَّأْتِ مِنْهُ....."!.
يُريد هذا الزائر أن يقول: إن أصحاب أبيك الذين تعلّموا وتربّوا على يديه سنوات طويلة، أي المُهاجرين والأنصار الذين مدحهم الله تعالى في آيات عديدة من كتابه، قد جفوكِ وعلينا أن نُظهر العداوة تجاه أولئك الأشخاص كي نُفرح قلوب أعداء الإسلام!! وعليه فلو فرضنا -على سبيل الفرض المحال- أن فاطمة (ع) بُعثت اليوم وعادت إلى الدنيا الفانية وقالت: لست حاقدةً على أحد ولست ساخطةً على أحد، وكُفُّوا عن إثارة هذه الضجَّة والفتنة ومدُّوا أيدي الوحدة والاتِّحاد بعضكم إلى بعض، واسعَوا في حلّ مشكلات الإسلام والمسلمين، لأجابوها قائلين: كلا! يجب عليك أن تكوني ساخطةً! فإن رضيتِ فنحن غير راضين!! نعم! لأن ازدهار تجارتهم رهين باستمرار هذه الاختلافات والأحقاد!
سمعتُ مرَّةً قارئَ مرثيَّةٍ يقرأ في مأتم حضرة الزهراء (ع) البيت التالي (بالفارسية):
عُمَـــــر دَرْ زد بــــه پهـــــلويش شكست از كينه بازويـش...الخ
أي: ضرب عُمَر خاصرتها بالباب وكسر من حقده عضدها...الخ
فلما نزل من المنبر قلتُ له: إن جميعَ مُؤرِّخي الشيعة ومُحدِّثيهم مُتَّفقون على أن عليّاً (ع) أنْكَحَ الخليفةَ الثاني عمرَ بن الخطاب ابنةَ حضرة فاطمة (ع) ذاتها [أي أم كلثوم] (الكافي، ج 2، ص311، طبع الهند، تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي، ج3، ص 380، ومناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب، ج 3، ص162، ومسالك الأفهام للشهيد الثاني، باب النكاح، طبع إيران وسائر الكتب المعتبرة الأخرى). ووُلِدَ لأمير المؤمنين عليٌّ (ع) من عُمَر حفيدين باسم: زيد الأكبر وَرُقيّة. ثم قلتُ لقارئ المرثيّة هذا: لو كان ما تقوله صحيحاً فكيف أقدم عليٌّ على هذا العمل وأنْكَحَ ابنةَ حضرة الزهراء (ع) قاتلَ أُمِّها، وكيف رضيت ابنةُ فاطمة بهذا العمل وتزوّجتْ قاتلَ أمِّها؟ وكيف رضي أخَوَا أم كلثوم حضرات الحسنين ذوي الشهامة والنخوة بزواج أختهما من قاتل أمهما؟! فقال في الإجابة: لم أكن أعلم هذا الأمر!! وأقول: آهٍ! ما الحيلة مع مثل هؤلاء الجاهلين إلى هذا الحدّ، ورغم جهلهم يقرؤون المراثي ويأخذون على ذلك الأموال من الناس ويبثُّون كلَّ سَنَةٍ الفرقة والعداوة بين المسلمين؟!!
ثم في فصل «زيارة أئمة البقيع» ذكر الشيخ عبَّاس في نصّ الزيارة قول الزائر خطاباً للأئمة: "يا مَوالِيَّ يا أَبْناءَ رَسُولِ اللهِ، عَبْدُكُمْ وَابْنُ أَمَتِكُمُ الذَّليلُ بَيْنَ أَيْديكُمْ..."!! [685] هل من يقول مثل هذا الكلام يعرف رسول الله ص وله أدنى اطِّلاع على سيرة ذلك النبيّ الكريم؟ كلا والله. هل كان رسول الله ص يسمح لأصحابه أن يُخاطبوه بمثل هذه الصورة أم أنه كان سينهاهم عن ذلك حتماً؟ من هذا نعلم أن صُنَّاع تلك الزيارات لم يكن لهم أيّ معرفة بسيرة نبيّ الإسلام ص وحضرة عليٍّ (ع) ولم يكونوا يعلمون أن أمير المؤمنين علي ÷ قال: "وَلا تَكُنْ عَبْدَ غَيْرِكَ وَقَدْ جَعَلَكَ اللهُ حُرَّاً" (نهج البلاغة، الرسالة رقم 31).
والنموذج الآخر لجهل هؤلاء المُبْتَدِعِين أنهم يقولون في الزيارة: "وَهذا مَقامُ مَنْ أَسْرَفَ وَأَخْطَأَ وَاسْتَكانَ وَأَقَرَّ بِما جَنى، وَرَجا بِمَقامِهِ الْخَلاصَ، وَأَنْ يَسْتَنْقِذَهُ بِكُمْ مُسْتَنْقِذُ الْهَلْكَى مِنَ الرَّدَى، فَكُونُوا لي شُفَعاءَ....."!! وينبغي أن نقول لهذا الجاهل الخرافي: أولاً: إن تعيين الشفيع واختياره خاصٌّ بالله وليس بأيدي عبيد الله (بل لِـلَّهِ الشفاعة جميعاً). ثانياً: ألا تعلم أن رسول الله ص وأئمة الإسلام الأجلاء الكرام ما كانوا يُحبُّون أثناء حياتهم الدنيوية أن يُفصح لهم الناس عن ذنوبهم وخطاياهم. فمثلاً إذا ارتكب أحدهم الزنا أو السرقة أو..... فجاء إليهم وأخبرهم عما اقترفت يداه وطلب منهم العفو والشفاعة أو إقامة الحدِّ عليه كي يتطهّر من عواقب ذنبه وخطيئته كانوا يُعرضون عنه ولا يُعيرونه اهتمامهم، كما قال عليّ (ع): "... مَا أَقْبَحَ بِالرَّجُلِ مِنْكُمْ أَنْ يَأْتِيَ بَعْضَ هَذِهِ الْفَوَاحِشِ فَيَفْضَحَ نَفْسَهُ عَلَى رُءُوسِ الْمَلَإِ أَفَلَا تَابَ فِي بَيْتِهِ؟ فَوَاللهِ لَتَوْبَتُهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهِ أَفْضَلُ مِنْ إِقَامَتِي عَلَيْهِ الْحَدَّ..."[686]. فإذا كان الأمر كذلك فكيف يُمكن أن يرضى ذلك الإمام الجليل أن يحضر المسلمون بعد وفاته من أماكن بعيدة إلى قبره ليُقِرُّوا أمامه بإسرافهم وخطئهم وجُرمهم وذنوبهم ويطلبون منه نجاة أنفسهم؟! أَفَلَا تَعْقِلُونَ؟!
يجب أن نقول للأشخاص الذين ضلُّوا الطريق وأذنبوا: اذهبوا وتوبوا توبةً صادقةً وقوموا بأعمالٍ خَيِّرَةٍ تكفيراً عن ذنوبكم فإن الحسنات يُذهبن السيئات ولا تكشفوا عن ذنوبكم لأحد غير الله، لأنه لا يملك أحد غير الله إنقاذكم من العذاب كما قال تعالى لنبيّه الكريم: ﴿أَفَمَنۡ حَقَّ عَلَيۡهِ كَلِمَةُ ٱلۡعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي ٱلنَّارِ ١٩؟﴾[الزمر: ١٩]. فإذا كان رسول الله ص لا يستطيع أن يُنقذ إنساناً من عذاب الله فكيف يُمكن للآخرين فِعْلُ ذلك؟! إن الذين يطلب الزُّوَّارُ منهم إنقاذهم من عذاب الله هم أنفسهم خائفون من عذابه تعالى ولا يستطيعون أن يتكلَّموا دون إذن من الحق تعالى، وهم أنفسهم يبتغون إلى ربِّهم الوسيلة أي أعمال الخير التي تُقرِّبهم منه تعالى، وَمِنْ ثَمَّ فبدلاً من تملُّقهم وإظهار الذل أمام مراقدهم يجب الاقتداء بأعمالهم واتِّباع أقوالهم.
ثم أورد الشيخ عبَّاس في الصفحة 337 [687] أموراً بهدف ترغيب الناس بقراءة نصوص زيارات أئمة الدين وتشجيعهم على زيارة قبورهم. وينبغي أن نقول: أيها الخرافي الجاهل! اذهب وتعلّم القرآن والسنة والسيرة كي تعلم كيف كان عمل رسول الله ص واعلم أن كلمات الآخرين ليست حُجَّةً عليك.
ثم ذكر الشيخ عبَّاس زيارةً لشهداء أُحد -رضوان الله عليهم- لم يأتِ المَجْلِسِيّ لها بسند (بحار الأنوار، ج 97، ص 221 و222). ولا ندري هل كانت هذه التلفيقات وليدة الفراغ والبطالة أم كان وراءها هدف آخر؟ الله أعلم.
ثم روى في الصفحة 339[688] عن أستاذه -الذي كان يعتقد بتحريف القرآن[689]- إن قبر رسول الله ص والأئمة أشرف من الكعبة!! في حين أن النبيّ نفسه كان يذهب إلى زيارة الكعبة ويركع أمامها ويسجد. نعم هذه هي معلومات هؤلاء الغُلاة!! ولا يخفى أن الشيخ عبَّاس ذكر في الصفحة ذاتها حديثاً يدَّعي أن الصلاة في مسجد النبيّ الأكرم ص تُعادل عشرة آلاف صلاة في غيره من المساجد ولم يستثنِ المسجد الحرام (بحار الأنوار، ج 97، ص 147، وفروع الكافي، ج 4، ص 556). ومن المُثير للانتباه أن نعلم أن راوي هذا الحديث الكاذب «عدي بن الحكم» الذي كان أيضاً من القائلين بتحريف القرآن!! فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ؟
***
[682] مفاتيح الجنان (النسخة المُعَرَّبَة)، ص 424. (الـمُتَرْجِمُ) [683] راجعوا الصفحة 68 من الكتاب الحالي. [684] مفاتيح الجنان (النسخة المُعَرَّبَة)، ص 425. (الـمُتَرْجِمُ) [685] وذكر الشيخ عبَّاس ما يُشبه هذا القول أيضاً في زيارة الإمام الحسين (ع) في العيدين. [686] فروع الكافي، ج 8، ص 188. [687] مفاتيح الجنان (النسخة المُعَرَّبَة)، ص 439-440 . (الـمُتَرْجِمُ) [688] مفاتيح الجنان (النسخة المُعَرَّبَة)، ص 448. (الـمُتَرْجِمُ) [689] يقصد الحاج الميرزا حسين نوري الطَّبْرَسِيّ صاحب كتاب «مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل»، والذي ألَّف كتاباً في إثبات تحريف القرآن سمَّاه: «فصل الخطاب في تحريف الكتاب»!!! وقد ذكر بعض تلامذته كصاحب الذريعة (آقا بزرگ الطهراني) وصاحب «أعيان الشيعة» (السيد محسن الأمين العاملي) أنه تراجع عن بعض ما فيه في آخر عمره واقتصر على القول بوقوع النقص في مصحف عثمان عن المصحف المنزل!! (وتوفي سنة 1320 هـ.) (الـمُتَرْجِمُ)