تعارض مفاتيح الجنان مع القرآن

فهرس الكتاب

الشبهة الثانية:

الشبهة الثانية:

من جملة المُغالطات التي يقولونها للعوام: إن الحدّ الفاصل بين الشرك والتوحيد هو الاعتقاد باستقلال أو عدم استقلال كائن غير الله.

26كتب شابٌّ جاهل بالقرآن -هداه الله تعالى- (ومن الواضح أنه مرعوب من علماء قم الخرافيين ونظائرهم ومخدوع بهم)، دون أن يتدبر القرآن بشكل كافٍ يقول: "إن الاعتقاد باستقلال كائن غير الله بالأفعال والاعتقاد بعدم استقلاله في أفعاله عن الله، هما المعياران الصحيحان للـ «الشرك» و «التوحيد». فالشرك عبارة عن الاعتقاد باستقلال أحد غير الله في التأثير والفاعلية، والتوحيد في مرتبة الأفعال هو الاعتقاد بانحصار الاستقلال في الفاعلية في ذات الله تبارك وتعالى المُقدّس وحده...... والشرك في الأفعال..... هو أن يعتقد الإنسان بـ «التأثير الاستقلالي» لكائن غير الله في عالَم الإيجاد والخلق والتدبير، واعتباره شريكاً مُستقلاً لِـلَّهِ ومُماثلاً له أي ندَّاً له في تلك الأفعال. ومعنى التأثير الاستقلالي أن يكون ذلك الكائن الذي هو غير الله، غير مُحتاج لِـلَّهِ في التأثير وفي أفعال التدبير التي يقوم بها بأي نحو من الأنحاء بل يكون مُستقلَّاً في التدبير والإرادة والعمل ومُكتفياً ذاتيَّاً. وهذا الاستقلال في التأثير والأفعال لا فرق فيه بين أن يتم على نحو «الاشتراك والمعيّة» مع الله، أو على نحو «التفويض» أي أن يكون الله قد فوَّض إليه وأوكل إليه أمور خلق العالَم...... إن تفويض أمور خلق الكون إلى غير الله معناه أن الله بعد أن خلق المخلوقات تنحَّى جانباً عن عمل تدبيرهم وإدارة أمورهم كالإحياء والإماتة والرزق والإعزاز والإذلال، وأوكل كل هذه الأمور إلى أحد من مخلوقاته أو جماعة منهم...... وقد كان هناك فريق يعتقد بمثل هذه العقيدة، أُطلق عليهم الغُلاة وسُمُّوا أيضاً بالمُفوِّضة، فكانوا يؤمنون بأن الله -والعياذ بالله- أوكل إلى الأئمة كل أعمال خلق المخلوقات ورزقهم وإحيائهم وإماتتهم وشفائهم وحلِّ مشكلاتهم. بينما اعتزل هو وتنحَّى جانباً. تعالى الله عما يقول الجاهلون عُلوّاً كبيراً[223]. وكلا الاعتقادين (الاشتراك والتفويض) هما في نظر المُوحِّدين الحقيقيين اعتقاد شركيٌّ وباطل وهو علاوةً على كونه منهي عنه شرعاً، يستحيل عقلاً"[224].

27لاحظوا كيف يخدع هذا الكاتب العوام بخلطه بين الجزء والكل، أي أنه عدَّ جزءاً من الشرك كل الشرك فحصر الشرك كله بالقول بالاستقلال في الأفعال لأحد غير الله!!! من الواضح أن القول بالاستقلال في الأفعال لأحد غير الله شرك صارخٌ بلا أيّ شُبهة، ولكن الشرك لا ينحصر بذلك، بل دائرة الشرك أوسع من هذا التعريف بكثير، والقرآن الكريم اعتبر أموراً أخرى أيضاً شركاً. (كل جوزة كروية وليست كل كرة جوزة!)

أمر الله تعالى أهل الكتاب أن لا يعبدوا أحداً إلا الله وأن لا يُشركوا به شيئاً (سورة آل عمران: 64)، وبيَّن لهم أنه لم يأمرهم ﴿وَلَا يَأۡمُرَكُمۡ أَن تَتَّخِذُواْ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةَ وَٱلنَّبِيِّ‍ۧنَ أَرۡبَابًا[ال عمران: ٨٠]. ومن الواضح أن اليهود والنصارى لم يكونوا يعبدون الأصنام الحجرية ولم يكونوا يعتقدون أن لحضرة عيسى (ع) وحضرة مريم (ع) أو الملائكة استقلالٌ وجوديٌّ عن الله، بل كانوا يقومون نحو أولئك الأشخاص العُظماء بأعمال اعتبرها القرآن عبادة وشركاً. (فَتَأَمَّل جداً)

28ويعلم المُطَّلعون على تاريخ الجزيرة العربية في صدر الإسلام جيداً أن أغلب المشركين المُعاصرين للنبيّ الأكرم ص أن خلق الكائنات والإحياء والإماتة وتدبير أمور العالَم ورزق الخلائق هو فعل الله وأن المالك الحقيقي للأرض ولكل الكائنات بما في ذلك الملائكة هو الله وحده، كما قال تعالى: ﴿قُلۡ مَن يَرۡزُقُكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِ أَمَّن يَمۡلِكُ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡأَبۡصَٰرَ وَمَن يُخۡرِجُ ٱلۡحَيَّ مِنَ ٱلۡمَيِّتِ وَيُخۡرِجُ ٱلۡمَيِّتَ مِنَ ٱلۡحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ ٱلۡأَمۡرَۚ فَسَيَقُولُونَ ٱللَّهُۚ فَقُلۡ أَفَلَا تَتَّقُونَ ٣١ فَذَٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمُ ٱلۡحَقُّۖ فَمَاذَا بَعۡدَ ٱلۡحَقِّ إِلَّا ٱلضَّلَٰلُۖ فَأَنَّىٰ تُصۡرَفُونَ ٣٢[يونس : ٣١، ٣٢].

وقال أيضاً: ﴿قُل لِّمَنِ ٱلۡأَرۡضُ وَمَن فِيهَآ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ ٨٤ سَيَقُولُونَ لِلَّهِۚ قُلۡ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ٨٥ قُلۡ مَن رَّبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ ٱلسَّبۡعِ وَرَبُّ ٱلۡعَرۡشِ ٱلۡعَظِيمِ ٨٦ سَيَقُولُونَ لِلَّهِۚ قُلۡ أَفَلَا تَتَّقُونَ ٨٧ قُلۡ مَنۢ بِيَدِهِۦ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيۡءٖ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيۡهِ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ ٨٨ سَيَقُولُونَ لِلَّهِۚ قُلۡ فَأَنَّىٰ تُسۡحَرُونَ ٨٩[المؤمنون : ٨٤، ٨٩]، وقال كذلك: ﴿وَلَئِن سَأَلۡتَهُم مَّنۡ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَسَخَّرَ ٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُۖ فَأَنَّىٰ يُؤۡفَكُونَ ٦١...وَلَئِن سَأَلۡتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَأَحۡيَا بِهِ ٱلۡأَرۡضَ مِنۢ بَعۡدِ مَوۡتِهَا لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُۚ قُلِ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِۚ بَلۡ أَكۡثَرُهُمۡ لَا يَعۡقِلُونَ ٦٣[العنكبوت: ٦١- ٦٣].

وقال تعالى: ﴿وَلَئِن سَأَلۡتَهُم مَّنۡ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُۚ قُلِ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِۚ بَلۡ أَكۡثَرُهُمۡ لَا يَعۡلَمُونَ ٢٥ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلۡغَنِيُّ ٱلۡحَمِيدُ ٢٦[لقمان: ٢٥، ٢٦].

وقال أيضاً: ﴿وَلَئِن سَأَلۡتَهُم مَّنۡ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُۚ قُلۡ أَفَرَءَيۡتُم مَّا تَدۡعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ إِنۡ أَرَادَنِيَ ٱللَّهُ بِضُرٍّ هَلۡ هُنَّ كَٰشِفَٰتُ ضُرِّهِۦٓ أَوۡ أَرَادَنِي بِرَحۡمَةٍ هَلۡ هُنَّ مُمۡسِكَٰتُ رَحۡمَتِهِۦۚ قُلۡ حَسۡبِيَ ٱللَّهُۖ عَلَيۡهِ يَتَوَكَّلُ ٱلۡمُتَوَكِّلُونَ ٣٨[الزمر: ٣٨].

وقال كذلك: ﴿وَلَئِن سَأَلۡتَهُم مَّنۡ خَلَقَهُمۡ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُۖ فَأَنَّىٰ يُؤۡفَكُونَ ٨٧[الزخرف: ٨٧].

بل حتى أنهم كانوا يطلبون الإماتة وإنزال العذاب من الله مباشرةً ويقولون: ﴿ٱللَّهُمَّ إِن كَانَ هَٰذَا هُوَ ٱلۡحَقَّ مِنۡ عِندِكَ فَأَمۡطِرۡ عَلَيۡنَا حِجَارَةٗ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ أَوِ ٱئۡتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٖ ٣٢[الانفال: ٣٢].

29وفي الظروف العصيبة جداً عندما يعجز كل أحد عن فعل أيّ شيء، كحالة المشركين عندما يكونون وسطَ البحر تتقاذفهم الأمواج ويُشرفون على الهلاك أو يضلون الطريق في الصحراء ويظنون الهلاك، كانوا يدعون الله مباشرةً دون وسائط، مخلصين له الدين، ولا يدعون أحداً غير الله في مثل تلك الأوضاع، كما قال تعالى: ﴿قُلۡ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَٰتِ ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِ تَدۡعُونَهُۥ تَضَرُّعٗا وَخُفۡيَةٗ لَّئِنۡ أَنجَىٰنَا مِنۡ هَٰذِهِۦ لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّٰكِرِينَ ٦٣ قُلِ ٱللَّهُ يُنَجِّيكُم مِّنۡهَا وَمِن كُلِّ كَرۡبٖ ثُمَّ أَنتُمۡ تُشۡرِكُونَ ٦٤[الانعام: ٦٣، ٦٤].

وقال: ﴿وَلَهُۥ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَلَهُ ٱلدِّينُ وَاصِبًاۚ أَفَغَيۡرَ ٱللَّهِ تَتَّقُونَ ٥٢ وَمَا بِكُم مِّن نِّعۡمَةٖ فَمِنَ ٱللَّهِۖ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ ٱلضُّرُّ فَإِلَيۡهِ تَجۡ‍َٔرُونَ ٥٣ ثُمَّ إِذَا كَشَفَ ٱلضُّرَّ عَنكُمۡ إِذَا فَرِيقٞ مِّنكُم بِرَبِّهِمۡ يُشۡرِكُونَ ٥٤[النحل: ٥٢، ٥٤].

وقال: ﴿رَّبُّكُمُ ٱلَّذِي يُزۡجِي لَكُمُ ٱلۡفُلۡكَ فِي ٱلۡبَحۡرِ لِتَبۡتَغُواْ مِن فَضۡلِهِۦٓۚ إِنَّهُۥ كَانَ بِكُمۡ رَحِيمٗا ٦٦ وَإِذَا مَسَّكُمُ ٱلضُّرُّ فِي ٱلۡبَحۡرِ ضَلَّ مَن تَدۡعُونَ إِلَّآ إِيَّاهُۖ فَلَمَّا نَجَّىٰكُمۡ إِلَى ٱلۡبَرِّ أَعۡرَضۡتُمۡۚ وَكَانَ ٱلۡإِنسَٰنُ كَفُورًا ٦٧[الاسراء: ٦٦، ٦٧]. وقال: ﴿فَإِذَا رَكِبُواْ فِي ٱلۡفُلۡكِ دَعَوُاْ ٱللَّهَ مُخۡلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ فَلَمَّا نَجَّىٰهُمۡ إِلَى ٱلۡبَرِّ إِذَا هُمۡ يُشۡرِكُونَ ٦٥[العنكبوت: ٦٥]. وقال: ﴿وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوۡجٞ كَٱلظُّلَلِ دَعَوُاْ ٱللَّهَ مُخۡلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ [لقمان: ٣٢].

وذكر القرآن أن الوالدَين المشركَين كانا يدعوان الله كي يرزقهما ابناً سالماً صحيحاً فيقولان: ﴿دَّعَوَا ٱللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنۡ ءَاتَيۡتَنَا صَٰلِحٗا لَّنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّٰكِرِينَ ١٨٩ فَلَمَّآ ءَاتَىٰهُمَا صَٰلِحٗا جَعَلَا لَهُۥ شُرَكَآءَ فِيمَآ ءَاتَىٰهُمَاۚ فَتَعَٰلَى ٱللَّهُ عَمَّا يُشۡرِكُونَ ١٩٠[الاعراف: ١٨٩، ١٩٠].

ففي هذه الآيات نُلاحظ أن مشركي العرب لم يكونوا يعتبرون معبوداتهم واجبة الوجود ولا خالقةً ولا رازقةً ولا مدبِّرةً لأمور العالَم أو مالكةً للأرض والسموات ولجميع الكائنات في الدنيا أو أن بيدها إماتة العباد وعذابهم بل حتى لم يكونوا يعتبرون آلهتهم مُنْزِلَةً للمطر من السماء بل يعتبرون كل تلك الأمور خاصَّةً بالله وحده، وفي الظروف العصيبة والصعبة جداً كانوا يدعون الله وحده، وحتى لو سألتهم: هل تستطيع معبوداتكم إذا أراد الله بِعَبْدٍ ضرَّاً أو أراد به نفعاً أن تمنع الله من فعل ذلك؟ لأجابوا بالنفي وأقرُّوا أن الحكم والتصرُّف في كل شيء هو لِـلَّهِ وحده، فلم يكونوا يعتقدون أن معبوداتهم مستقلّة بالذات عن الله ومُماثلة له في المُلك والتصرّف، كل ما في الأمر أنهم كانوا يخضعون لتلك المعبودات ويتذلَّلون لها ويُقدِّمون لها صنوف العبادات من قبيل الطواف بها والنذر لها وتقديم الأضاحي والقرابين لها ودعائها وتعظيمها وتمجيدها و..... ظاِّنين أنها وسيلةً تُقرِّبهم من الله، ولم يكونوا يعتبرونها مستقلّة عن الله. كما قال تعالى: ﴿فَلَوۡلَا نَصَرَهُمُ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ قُرۡبَانًا ءَالِهَةَۢ ۖ بَلۡ ضَلُّواْ عَنۡهُمۡۚ وَذَٰلِكَ إِفۡكُهُمۡ وَمَا كَانُواْ يَفۡتَرُونَ ٢٨[الاحقاف: ٢٨].

30ولهذا السبب لم يدعُ النَّبِيّ الأَكْرَم ص المشركين إلى شعار «لا خالق إلا الله» أو «لا رازقَ إلا الله» أو «لا مُدَبِّر إلا الله» أو «لا مُحيي ولا مُميت إلا الله» ونظائرها، بل دعاهم إلى الإسلام من خلال الإقرار بكلمة «لا إله إلا الله» أي لا معبود حقَّ إلا الله[225]. ذلك لأنهم كانوا يقومون بالأعمال العبادية تجاه غير الله على أمل الشفاعة وكان نزاع الإسلام وجهاده الأساسي مع المشركين حول هذا الموضوع لا حول استقلالية المعبودات عن الله. ولذلك فقد صرَّح القرآن ذاته بأن المشركين كانوا يعتبرون معبوداتهم واسطةً بينهم وبين الله وشفيعةً لهم عند الله[226]. ولم يكونوا يعتقدون باستقلالها عن الله لأنهم لو كانوا يعتقدون أنها مستقلة لما كان من الضروري أن يتوجَّهوا إليها بالأعمال العبادية لأجل أن تتوسط لهم عند الله وتُقرِّبهم منه [سورة يونس: 18، والزمر: 3]، بل كانوا يرجعون إليها على نحو الاستقلال طالما أنها قادرة على أن تضر وتنفع وتُحيي وتُميت وتستجيب بذاتها لطلباتهم.

وذكر المرحوم الطبرسي في تفسيره «مجمع البيان» أن مشركي الجاهلية كانوا يقولون في تلبيتهم: "لَبَّيكَ اللَّهُمَّ لبَّيْكَ، لبَّيْكَ لا شريكَ لَكَ، إلاَّ شرِيكاً هو لَكَ، تمْلِكهُ ومَا مَلَكَ !"[227].

بل أكثر من ذلك، فقد ذكر القرآن لنا أن المشركين كانوا يعتقدون أن الله تعالى هو ذاته الذي أراد منهم عبادة غيره: ﴿وَقَالَ ٱلَّذِينَ أَشۡرَكُواْ لَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ مَا عَبَدۡنَا مِن دُونِهِۦ مِن شَيۡءٖ نَّحۡنُ وَلَآ ءَابَآؤُنَا وَلَا حَرَّمۡنَا مِن دُونِهِۦ مِن شَيۡءٖۚ كَذَٰلِكَ فَعَلَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۚ فَهَلۡ عَلَى ٱلرُّسُلِ إِلَّا ٱلۡبَلَٰغُ ٱلۡمُبِينُ ٣٥ وَلَقَدۡ بَعَثۡنَا فِي كُلِّ أُمَّةٖ رَّسُولًا أَنِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱجۡتَنِبُواْ ٱلطَّٰغُوتَ[النحل: ٣٥، ٣٦]. وكانوا يقولون: ﴿لَوۡ شَآءَ ٱلرَّحۡمَٰنُ مَا عَبَدۡنَٰهُم[الزخرف: ٢٠][228]. وقد ردَّ الله ادِّعاءَهم هذا وقال ليس الأمر على ما تقولون وأنا لم آمر أبداً بعبادة سواي ولم أسمح بذلك بل أرسلتُ في كلِّ أمَّةٍ رسولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ.

31لقد لاحظنا إذن في هذه الآية وفي الآيات التي ذكرناها في الصفحات السابقة أن جهاد القرآن للمشركين كان أغلبه حول موضوع عبادتهم غير الله، ولتقرير عدم جواز عبادة أحد سوى الله، ولم يكن حول استقلال غير الله عن الله أو عدم استقلاله! وكان اعتراض القرآن على المشركين يتلخَّص في تقريعهم على عبادتهم غير الله دون أن يكون عندهم من الله في ذلك دليل صحيح، وأن اللهَ لم يُجِز أبداً عبادة أحدٍ سواه لا في الإسلام ولا في أيِّ دين من الأديان [الكهف: 15، ويوسف: 39 - 40]، وأن المشركين كانوا يُمارسون ذلك الشرك في العبادة دون أي دليلٍ أو حُجَّةٍ أتتهم من الله.

32إضافةً إلى ذلك، يجب على الخرافيين بدلاً من أن يضعوا ملاكاً للشرك والتوحيد من بنات أفكارهم، أن يتدبَّروا كتاب الله ويتأملوا آياته ليُدركوا أن القرآن انتقد في موارد مختلفة الناس على اتِّخاذهم غير الله آلهةً وأرباباً دون أن يعتقدوا باستقلال تلك الآلهة والأرباب عن الله. ومن جملة ذلك قوله تعالى: ﴿أَرَءَيۡتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَٰهَهُۥ هَوَىٰهُ[الفرقان: ٤٣]، وتُشبهها الآية 23 من سورة الجاثية]، وقال: ﴿ٱتَّخَذُوٓاْ أَحۡبَارَهُمۡ وَرُهۡبَٰنَهُمۡ أَرۡبَابٗا مِّن دُونِ ٱللَّهِ وَٱلۡمَسِيحَ ٱبۡنَ مَرۡيَمَ وَمَآ أُمِرُوٓاْ إِلَّا لِيَعۡبُدُوٓاْ إِلَٰهٗا وَٰحِدٗاۖ لَّآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۚ سُبۡحَٰنَهُۥ عَمَّا يُشۡرِكُونَ ٣١[التوبة: ٣١][229].

في هذه الآيات يُبيِّن الله تعالى أن من الناس من يتَّخذُ هوى نفسه بمثابة «إله» له (أي معبود له يخضع له ويطيعه في كل شيء)، وبعضهم يتَّخذ علماء دينه «أرباباً». ومن البديهي أن أولئك الناس لم يكونوا يعتبرون أهواء أنفسهم أو علماءهم موجودات مستقلة عن الله أو خالقة للسماوات والأرض ومُتصرِّفة فيها بلا مُنازع!

ويقول القرآن أيضاً: ﴿وَلَا يَأۡمُرَكُمۡ أَن تَتَّخِذُواْ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةَ وَٱلنَّبِيِّ‍ۧنَ أَرۡبَابًاۗ أَيَأۡمُرُكُم بِٱلۡكُفۡرِ بَعۡدَ إِذۡ أَنتُم مُّسۡلِمُونَ ٨٠[ال عمران: ٨٠]، ويقول كذلك: ﴿قُلۡ يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ تَعَالَوۡاْ إِلَىٰ كَلِمَةٖ سَوَآءِۢ بَيۡنَنَا وَبَيۡنَكُمۡ أَلَّا نَعۡبُدَ إِلَّا ٱللَّهَ وَلَا نُشۡرِكَ بِهِۦ شَيۡ‍ٔٗا وَلَا يَتَّخِذَ بَعۡضُنَا بَعۡضًا أَرۡبَابٗا مِّن دُونِ ٱللَّهِ[ال عمران: ٦٤]. وقال الله تعالى أيضاً لعيسى بن مريم: ﴿... ءَأَنتَ قُلۡتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيۡنِ مِن دُونِ ٱللَّهِ؟ [المائ‍دة: ١١٦]، ولا شك أن أولئك الناس لم يكونوا يعتبرون بني جنسهم ولا حتى الملائكة والأنبياء بما في ذلك حضرة مريم وحضرة عيسى عليهما السلام مستقلِّين عن الله ومُتصرِّفين في الكون بلا مُنازع، بل كانوا يعتبرونهم عباداً أعزاء ومُقرَّبين عند الله، ولكنهم كانوا لا يُفرِّقون بين حالتهم وهم أحياء وحالتهم بعد الموت والرحيل عن الدنيا، فيدعونهم بعد موتهم لقضاء حوائجهم ورفع مشكلاتهم.

وقال تعالى في كتابه: ﴿لَّا تَعۡبُدُواْ ٱلشَّيۡطَٰنَ[يس: ٦٠]، وقصَّ علينا كلام إبراهيم مع أبيه فقال: ﴿يَٰٓأَبَتِ لَا تَعۡبُدِ ٱلشَّيۡطَٰنَۖ إِنَّ ٱلشَّيۡطَٰنَ كَانَ لِلرَّحۡمَٰنِ عَصِيّٗا ٤٤[مريم: ٤٤]، ومن البديهي أن لا أحد كان يعتبر الشيطان خالقاً للسماوات والأرض وموجوداً مستقلاً عن الله. وقال تعالى مُخاطباً المسلمين: ﴿وَإِنۡ أَطَعۡتُمُوهُمۡ إِنَّكُمۡ لَمُشۡرِكُونَ[الانعام: ١٢١] أي لو أطعتم هؤلاء المشركين المُجادلين المُعاندين فإنكم مشركون. ومن الواضح تماماً أن لا أحد كان يعتقد أن المُجادلين المُعاندين مستقلون عن الله ومُتصرِّفون في الكون بلا مُنازع! (فَتَأَمَّل جداً).

يعتبرُ القرآنُ - من حيث المبدأ - الطاعةَ المُطلقةَ لكائنٍ أو شخصٍ عبادةً له، فنجده يقصُّ علينا قول فرعون وآله: ﴿وَقَوۡمُهُمَا لَنَا عَٰبِدُونَ[المؤمنون : ٤٧]أي أنهم مُطيعون لنا طاعةً محضةً.

وذكر الله لنا في كتابه أن أتباع حضرة موسى لما عبروا نهر النيل[230] صادفوا قوماً يعبدون أصناماً لهم[231] فقالوا لموسى: ﴿ٱجۡعَل لَّنَآ إِلَٰهٗا كَمَا لَهُمۡ ءَالِهَةٞ[الاعراف: ١٣٨]. ومن البديهي أنهم كانوا يعلمون أن الإله الذي طلبوا من موسى أن يجعله لهم، لن يكون واجب الوجود وخالق السماوات والأرض ومستقلاً بالذات عن الله، ومُتصرِّفاً في الوجود بلا مُنازع!

أو عندما أخذ السامريُّ منهم الذهب وصنع لهم منه عجلاً له خوار وقال لهم هذا إلهكم وإله موسى [سورة طه: 88] فإنهم كانوا يعلمون أن ذلك العجل الذهبيّ لم يكن واجب الوجود ولا خالقاً للموجودات ولا رازقاً للعباد ولا مُستقلاً بالذات عن الله، بل أرادوا أن يكون لهم -مثلما كان لأولئك القوم الذين كانوا يعكُفون على أصنام لهم- صنمٌ أو معبودٌ أو شيءٌ ملموسٌ يتوجهون إليه ويُعظِّمونه ويُقدِّسونه ويتواضعون أمامه ويتوسَّلون إليه لقضاء حوائجهم ويجعلونه واسطة وشفيعاً لهم يُؤدون إليه طقوس العبادة[232]!

وينبغي أن ننتبه إلى أن أتباع موسى طلبوا منه ذلك الطلب، ولو جعل موسى لهم واسطةً ومعبوداً لكان هذا المعبود مُتَّصفاً بصفة «كونه لِـلَّهِ أو من الله» -على حدّ قول المُطَهَّرِي-، لأن الشارع هو الذي عيَّنه وجعله، لكن نبيّ الله حضرة موسى (ع) خالف رغبتهم هذه واعتبرها طلباً جاهلاً وباطلاً، وهذا يدلُّ على أن الشارع لا يقبل في أمر التوجه إلى الله والسعي إلى رضاه وطلب الحوائج منه وجود واسطة مطلقاً. (فَتَأَمَّل جداً)

بناءً على ذلك تُلاحظون أن مناط الشرك والتوحيد في القرآن أوسع بكثير مما يدَّعيه الخرافيون. ولذلك فإذا حصر أحدهم الشرك بأنه اعتبار غير الله «الله» وقال: "الشرك هو أن نُؤَلِّهَ شخصاً أو كائناً ونعتبرهُ الله أو أن نعبد شخصاً أو كائناً باعتباره الله أو أن نطلب من شخصٍ أو كائنٍ شيئاً باعتبار أنه مُستقلٌّ في التأثير عن الله وأنه الله"[233]، إن لم نقل إن صاحب هذا الكلام كان يريد خداع العامة فيُمكننا أن نقول بكل اطمئنان: إنه كان جاهلاً بالقرآن وبتاريخ جزيرة العرب.

[223] من الواضح تماماً أن موضوع اختيار الله العُزلة وتنحّيه جانباً بعد أن أوكل الأمور المذكورة أعلاه إلى غيره، أو عدم اختياره العزلة وعدم تنحِّيهِ جانباً، لا تأثير له إطلاقاً في كون هذه العقيدة عقيدة شركية. [224] كتاب «نقد وتحليلى پيرامون وهّابيگرى»، همايون همتى، [أي نقد وتحليل حول الوهابية، تأليف همايون همتي]، مركز چاپ ونشر سازمان تبليغات اسلامى، الطبعة الأولى، 1367 هـ. ش. ص 194 و155 حتى 157. [225] استناداً إلى الآية 30 من سورة لقمان [أي قوله تعالى: ﴿ ذَٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلۡحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدۡعُونَ مِن دُونِهِ ٱلۡبَٰطِلُ وَأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلۡعَلِيُّ ٱلۡكَبِيرُ ٣٠[لقمان: ٣٠]يتبيّن أن الخبر المحذوف لـ «لا النافية للجنس» هو كلمة «حقّ». [226] راجعوا ما ذكره الشيخ جعفر السبحاني حول اعتقادات المشركين في ص109 من الكتاب الحالي. [227] تفسير مجمع البيان، ذيل الآية 28 و29 من سورة الروم. أقول (المترجم): وذكر ذلك أيضاً جميع المفسرين كالبغوي والقرطبي والبقاعي وابن كثير وابن الجوزي والسيوطي في الدر المنثور.. الخ. [228] وقد كان المشركون في موارد أخرى أيضاً ينسبون أعمالهم القبيحة والفاسدة إلى الله ويدَّعون أنه هو الذي أمرهم بها وسمح لهم بفعلها، فعلى سبيل المثال لما كانوا يطوفون حول الكعبة عراةً كانوا يقولون: إن آباءنا كانوا يفعلون ذلك والله أمرنا بذلك [الأعراف: 28] (راجعوا ما ذكره الطبرسي في «مجمع البيان» ذيل تفسيره لهذه الآية)، ولم يكونوا يقولون إن موجوداً مُستقلاً غير الله قد أجاز لهم مثل ذلك العمل! [229] لحسن الحظ اتَّفق الشيعة والسنة حول تفسير هذه الآية، راجعوا ما جاء في كتاب «صحيح الكافي» للأستاذ الشيخ محمد باقر البِهْبُودِيّ، ج 1، الحديث 23 و 409. وكتاب «وسائل الشيعة»، ج 18، ص 96 و97، الأحاديث 33390 و 33393 و 33394. وجاء هذا أيضاً في مصادر غير الشيعة: فقد "روى الترمذي (وحسَّنه) وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في سننه وان جرير من طرق متعددة عن عدي بن حاتم - رضي الله عنه - قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وهو يقرأ في سورة براءة: ﴿ ٱتَّخَذُوٓاْ أَحۡبَارَهُمۡ وَرُهۡبَٰنَهُمۡ أَرۡبَابٗا مِّن دُونِ ٱللَّهِ، قال فقلتُ: إنهم لم يعبدوهم؟! فقال: «بلى! إنهم حرَّموا عليهم الحلال، وأحلُّوا لهم الحرام، فاتَّبعوهم: فذلك عبادتهم إياهم...». (نقلاً عن تفسير «في ظلال القرآن»، سيد قطب، ج 4، ص 202 و203)، وراجعوا أيضاً كتاب «تصحيح الاعتقاد» للشيخ المفيد، مع تعليقات الشهرستاني، منشورات الرضي، ص 57. [230] هكذا قال المصنِّف رحمه الله، والصحيح أنهم عبروا خليج السويس وليس نهر النيل. (الـمُتَرْجِمُ) [231] وردت في الآية الكريمة هنا كلمة «يعكُفون»، ومن اللازم أن نُذكِّر بأن العكُوف معناه التوجه الكامل نحو الشيء على سبيل التعظيم والتكريم وكلمة «العاكف» تُطلق على الذي يُقيم في مسجد أو معبد بقصد العبادة. [232] في الإسلام يُعتبر الحلف بغير الله شرك. وقد قال رسول اللهص: "مَنْ حَلَفَ بشيء من دون اللهِ فَقَدْ أَشْرَكَ [أو قال: ألا هو مشرك]" (مصنف عبد الرزاق، ج 8، الحديث 15926). وروى أستاذ الشيخ عبَّاس القُمِّيّ ومُعلِّمه [أي الميرزا حسين نوري الطَّبْرَسِي] أن النبيّ ص قال: "مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ الله فَقَدْ أَشْرَكَ [وفي بعض الروايات:«فقد كفر بالله»]" (مستدرك الوسائل، الطبعة الحجرية، ج 3، ص 51 و 54). ويوجد ما يُشبه هذه الروايات في كتب أهل السنة ومن جملتها أن رجلاً أقسم بالكعبة فقيل له: إن النبيّ ص قال: "مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللهِ فَقَدْ أَشْرَكَ " (التاج الجامع للأصول في أحاديث الرسول، ج 3، ص 75). [233] روح الله الموسوي الخميني، كشف الأسرار، بازار نوروز خان، اول بازار كاشفي، نشر ظفر، ص 40.