تعارض مفاتيح الجنان مع القرآن

فهرس الكتاب

المعنى الصحيح لشهادة الرسول على أمته

المعنى الصحيح لشهادة الرسول على أمته

فعلى سبيل المثال عندما أخذتُ بتصفح كتاب «علم النبي والإمام في القرآن» رأيت أن مؤلفيه استشهدوا في الصفحتين 104 و 105 منه بسبع آيات من القرآن نذكرها فيما يلي: 61

1- ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِنَّآ أَرۡسَلۡنَٰكَ شَٰهِدٗا وَمُبَشِّرٗا وَنَذِيرٗا ٤٥[الاحزاب : ٤٥].

2- ﴿إِنَّآ أَرۡسَلۡنَٰكَ شَٰهِدٗا وَمُبَشِّرٗا وَنَذِيرٗا ٨[الفتح: ٨].

3- ﴿إِنَّآ أَرۡسَلۡنَآ إِلَيۡكُمۡ رَسُولٗا شَٰهِدًا عَلَيۡكُمۡ كَمَآ أَرۡسَلۡنَآ إِلَىٰ فِرۡعَوۡنَ رَسُولٗا ١٥[المزمل: ١٥].

4- ﴿فَكَيۡفَ إِذَا جِئۡنَا مِن كُلِّ أُمَّةِۢ بِشَهِيدٖ وَجِئۡنَا بِكَ عَلَىٰ هَٰٓؤُلَآءِ شَهِيدٗا ٤١[النساء: ٤١].

5- ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَٰكُمۡ أُمَّةٗ وَسَطٗا لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيۡكُمۡ شَهِيدٗا[البقرة: ١٤٣].

6- ﴿يَعۡتَذِرُونَ إِلَيۡكُمۡ إِذَا رَجَعۡتُمۡ إِلَيۡهِمۡۚ قُل لَّا تَعۡتَذِرُواْ لَن نُّؤۡمِنَ لَكُمۡ قَدۡ نَبَّأَنَا ٱللَّهُ مِنۡ أَخۡبَارِكُمۡۚ وَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمۡ وَرَسُولُهُۥ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَٰلِمِ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ ٩٤[التوبة: ٩٤].

7- ﴿وَقُلِ ٱعۡمَلُواْ فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمۡ وَرَسُولُهُۥ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَۖ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَٰلِمِ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ ١٠٥[التوبة: ١٠٥].

62أولاً: قبل أن نتكلم على معنى الآيات المذكورة نُذكّر أن كلمة «الغيب» كثيراً ما تُفسَّر بمعنى غير معناها الحقيقي وهو أحد الأمور التي كنا دائماً نختلف فيها ونتناقش حولها مع الخرافيين، إذْ كثيراً ما يُفسِّرون معنى «الغيب» بأمور هي أصول الشريعة وفروعها وأخبارها والأخبار التي ذُكرت في القرآن والتي تُوحى إلى النبيّ وحده فقط لا غير، ومن جملة ذلك آية: ﴿قُلۡ إِنۡ أَدۡرِيٓ أَقَرِيبٞ مَّا تُوعَدُونَ أَمۡ يَجۡعَلُ لَهُۥ رَبِّيٓ أَمَدًا ٢٥ عَٰلِمُ ٱلۡغَيۡبِ فَلَا يُظۡهِرُ عَلَىٰ غَيۡبِهِۦٓ أَحَدًا ٢٦ إِلَّا مَنِ ٱرۡتَضَىٰ مِن رَّسُولٖ فَإِنَّهُۥ يَسۡلُكُ مِنۢ بَيۡنِ يَدَيۡهِ وَمِنۡ خَلۡفِهِۦ رَصَدٗا ٢٧ لِّيَعۡلَمَ أَن قَدۡ أَبۡلَغُواْ رِسَٰلَٰتِ رَبِّهِمۡ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيۡهِمۡ وَأَحۡصَىٰ كُلَّ شَيۡءٍ عَدَدَۢا ٢٨[الجن: ٢٥، ٢٨]وكذلك آية: ﴿وَمَا هُوَ عَلَى ٱلۡغَيۡبِ بِضَنِينٖ ٢٤[التكوير: ٢٤].

من البديهي أن الغيب الذي لا يجعله الله تحت تصرف أيّ شخص إلا النبيّ الذي لا يضن بإظهاره، والذي يجعل الله أمامه وخلفه حَفَظةً يُشرفون على تبليغه كي يصل إلى الناس كاملاً تاماً دون تغيير ولا زيادة ولا نقصان، ليس سوى ما نُعبّر عنه بـ «شريعة الإسلام»، وهو يُوحَى إلى النبيّ فقط الذي يقوم بإبلاغه لعامة الناس على حدّ سواء[566] (الأنبياء: 109). إن هذا المعنى للغيب خارج عن بحثنا تماماً ولا مخالف له [أي لا أحد من المسلمين يختلف في أن النبيّ يعلم هذا الغيب]، لكن بحثنا هو حول ما يقوله الكتاب المذكور من أن:

"إن الاطِّلاع والمعرفة التي يعجز عنها الآخرون [أي غير النبيّ والإمام] ولا يُمكن الحصول عليها بواسطة الوسائل الطبيعية والأسباب العادية، يُعتبر علماً بالغيب. وليس من الضروري أن يكون ما يتعلَّق به هذا العلم والمعرفة أموراً غيرَ محسوسةٍ أو أموراً خارجةً عن مجال الحواس الظاهرية، إذ إن الشخص قد يُشاهِد بواسطة طرقٍ غير عادية أموراً خارجةً عن قدرة عامة الناس واستطاعتهم"[567].

أي أن معنى الغيب الذي يقصدونه هو بالضبط معنى كلمة «الغيب» التي وردت في آيات كالآيات التالية:

1- ﴿قُل لَّآ أَقُولُ لَكُمۡ عِندِي خَزَآئِنُ ٱللَّهِ وَلَآ أَعۡلَمُ ٱلۡغَيۡبَ وَلَآ أَقُولُ لَكُمۡ إِنِّي مَلَكٌۖ إِنۡ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰٓ إِلَيَّ[الانعام: ٥٠].

2- ﴿قُل لَّآ أَمۡلِكُ لِنَفۡسِي نَفۡعٗا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَآءَ ٱللَّهُۚ وَلَوۡ كُنتُ أَعۡلَمُ ٱلۡغَيۡبَ لَٱسۡتَكۡثَرۡتُ مِنَ ٱلۡخَيۡرِ وَمَا مَسَّنِيَ ٱلسُّوٓءُۚ إِنۡ أَنَا۠ إِلَّا نَذِيرٞ وَبَشِيرٞ لِّقَوۡمٖ يُؤۡمِنُونَ ١٨٨[الاعراف: ١٨٨].

3- ﴿وَلَآ أَقُولُ لَكُمۡ عِندِي خَزَآئِنُ ٱللَّهِ وَلَآ أَعۡلَمُ ٱلۡغَيۡبَ وَلَآ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٞ وَلَآ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزۡدَرِيٓ أَعۡيُنُكُمۡ لَن يُؤۡتِيَهُمُ ٱللَّهُ خَيۡرًاۖ ٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا فِيٓ أَنفُسِهِمۡ إِنِّيٓ إِذٗا لَّمِنَ ٱلظَّٰلِمِينَ ٣١[هود: ٣١]. ونظائرها.

ثانياً: من الضروري أن يرجع القارئ إلى القرآن الكريم بشأن الآيتين اللتَين ذكرناهما تحت رقم 6 و 7 (أي الآيتان 94 و 105 من سورة التوبة) اللتَين يستغلّهما مؤلفو الكتاب المذكور كي يعلم أنه قبل الآية 94 من سورة التوبة بيَّن الله تعالى في الآية 91 فما بعد شأنَ الذين لم يكن واجباً عليهم الجهاد بالمال والنفس، وَمِنْ ثَمَّ لم يكن هناك لومٌ عليهم لعدم خروجهم إلى الجهاد، ثم قال في الآيتين 93 و94: ﴿إِنَّمَا ٱلسَّبِيلُ عَلَى ٱلَّذِينَ يَسۡتَ‍ٔۡذِنُونَكَ وَهُمۡ أَغۡنِيَآءُۚ رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ ٱلۡخَوَالِفِ وَطَبَعَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ فَهُمۡ لَا يَعۡلَمُونَ ٩٣ يَعۡتَذِرُونَ إِلَيۡكُمۡ إِذَا رَجَعۡتُمۡ إِلَيۡهِمۡۚ قُل لَّا تَعۡتَذِرُواْ لَن نُّؤۡمِنَ لَكُمۡ قَدۡ نَبَّأَنَا ٱللَّهُ مِنۡ أَخۡبَارِكُمۡۚ وَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمۡ وَرَسُولُهُۥ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَٰلِمِ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ ٩٤[التوبة: ٩٣، ٩٤].

من الواضح أن الآيات المذكورة ومنها الآية 94 والآية 105 من سورة التوبة نزلت بشأن غزوة تبوك التي امتنع فيها المنافقون عن الخروج إلى الجهاد لأنهم لم يكونوا يتوقعون أن يعود جيش الإسلام سالماً من حربه مع الروم، لذا أخذوا يختلقون الأعذار ليُبرّروا عدم خروجهم! فقال تعالى في الآيات المذكورة لرسوله ص -وبالطبع أطلع رسول الله ص سائر المؤمنين على هذا الإخبار الإلهي-: يا أيها النبيّ! قل لهم أن لا يعتذروا بل المطلوب منهم العمل، أما مُجرّد الادّعاء اللساني فلن يُقبل منهم، قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ ونحن نعلم أن ادِّعاءاتكم ادِّعاءات كاذبة، وقريباً جداً سوف يرى الله ورسوله عملكم في المعارك الآتية وأنكم هل ستُشاركون في الجهاد أم ستتخلفون عنه أيضاً؟ وسيتبيَّن هل تبتم من نفاقكم أم أنكم لا تزالون مستمرّين عليه؟

ثم في الآيات التالية يواصل تعالى الموضوع ذاته ويُخبرنا قائلاً: ﴿سَيَحۡلِفُونَ بِٱللَّهِ لَكُمۡ إِذَا ٱنقَلَبۡتُمۡ إِلَيۡهِمۡ لِتُعۡرِضُواْ عَنۡهُمۡۖ فَأَعۡرِضُواْ عَنۡهُمۡۖ إِنَّهُمۡ رِجۡسٞۖ وَمَأۡوَىٰهُمۡ جَهَنَّمُ جَزَآءَۢ بِمَا كَانُواْ يَكۡسِبُونَ ٩٥ يَحۡلِفُونَ لَكُمۡ لِتَرۡضَوۡاْ عَنۡهُمۡۖ فَإِن تَرۡضَوۡاْ عَنۡهُمۡ فَإِنَّ ٱللَّهَ لَا يَرۡضَىٰ عَنِ ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡفَٰسِقِينَ ٩٦ ٱلۡأَعۡرَابُ أَشَدُّ كُفۡرٗا وَنِفَاقٗا وَأَجۡدَرُ أَلَّا يَعۡلَمُواْ حُدُودَ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِۦۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞ ٩٧ وَمِنَ ٱلۡأَعۡرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغۡرَمٗا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ ٱلدَّوَآئِرَۚ عَلَيۡهِمۡ دَآئِرَةُ ٱلسَّوۡءِۗ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٞ ٩٨ وَمِنَ ٱلۡأَعۡرَابِ مَن يُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَٰتٍ عِندَ ٱللَّهِ وَصَلَوَٰتِ ٱلرَّسُولِۚ أَلَآ إِنَّهَا قُرۡبَةٞ لَّهُمۡۚ سَيُدۡخِلُهُمُ ٱللَّهُ فِي رَحۡمَتِهِۦٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ ٩٩[التوبة: ٩٥، ٩٩]، إلى قوله تعالى: ﴿وَمِمَّنۡ حَوۡلَكُم مِّنَ ٱلۡأَعۡرَابِ مُنَٰفِقُونَۖ وَمِنۡ أَهۡلِ ٱلۡمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى ٱلنِّفَاقِ لَا تَعۡلَمُهُمۡۖ نَحۡنُ نَعۡلَمُهُمۡۚ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيۡنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَىٰ عَذَابٍ عَظِيمٖ [التوبة: 101].

لاحظوا كيف يُصرّح القرآنُ أن النبيّ ص لا يعرف هؤلاء المنافقين من أهل المدينة الذين مردوا على النفاق أي تمرَّسوا فيه، في حين أنه لو كان النبيّ شاهداً لأعمالهم، حتى على نحو العلم غير الاستقلالي، لعرفهم بالطبع. (فتأمَّل جداً).

ثم يُعرّف القرآن لنا فريقاً آخر فيقول: ﴿وَءَاخَرُونَ ٱعۡتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمۡ خَلَطُواْ عَمَلٗا صَٰلِحٗا وَءَاخَرَ سَيِّئًا عَسَى ٱللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيۡهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌ ١٠٢[التوبة: ١٠٢]. عندئذ يأمر تعالى النبيّ بأن يأخذ من أموالهم الصدقات فيقول: ﴿خُذۡ مِنۡ أَمۡوَٰلِهِمۡ صَدَقَةٗ تُطَهِّرُهُمۡ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيۡهِمۡۖ إِنَّ صَلَوٰتَكَ سَكَنٞ لَّهُمۡۗ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ١٠٣ أَلَمۡ يَعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ هُوَ يَقۡبَلُ ٱلتَّوۡبَةَ عَنۡ عِبَادِهِۦ وَيَأۡخُذُ ٱلصَّدَقَٰتِ وَأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ ١٠٤[التوبة: ١٠٣، ١٠٤].

ثم مرة أخرى يأمر رسوله في الآية 105 أن يقول: ﴿وَقُلِ ٱعۡمَلُواْ فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمۡ وَرَسُولُهُۥ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَۖ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَٰلِمِ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ ١٠٥[التوبة: ١٠٥]أي أن الله ورسوله والمؤمنون سوف يرون عملكم ولا داعي إلى أن تدّعوا ما تدّعونه بلسانكم. إذن علينا أن ننتبه إلى أن الآية 105 مُبيِّنة للآية 94 السابقة ومُفسِّرة لها[568].

تقول الآية 105: «فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمۡ وَرَسُولُهُۥ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ»، أي أن الآية الكريمة تشجع المعذِّرين على العمل وتطمئنهم أنكم إذا عملتم فإن عملكم لن يتم تجاهله مِنْ قِبَلِ الله والنبي والمؤمنين. من الواضح تماماً أن الله لا يحتاج إلى أن يتحقق العمل بالواقع الخارجي حتى يراه ويعلمه! سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا.

مَن الذي لا يعلم أن علم الله تعالى بالأشياء جميعها يستوي فيه علمه بها قبل وجودها وعلمه بها أثناء وجودها وبعد إيجادها؟ وأنَّ اللهَ عالمٌ أزلاً بكل شيء وبصير وخبير بكل شيء وشاهدٌ له.

يقول الشيخ الطوسي في تفسيره «التبيان» (ذيل تفسير الآيات 94 و105 من سورة التوبة): "وإنما قال «فَسَيَرَى اللهُ» على وجه الاستقبال، وهو عالم بالأشياء قبل وجودها؛ لأن المراد بذلك أنه سيعلمها موجودةً بعد أن علمها معدومةً. وكونه عالماً بأنها ستوجد مِنْ [أي مثل] كونه عالماً بوجودها إذا وجدت، لا يُجَدَّدُ حال له بذلك"[569].

وقال أيضاً: "والمراد بالرؤية ها هنا العلم الذي هو المعرفة، ولذلك عدَّاه إلى مفعول واحد، ولو كان بمعنى العلم الذي ليس بمعرفة لتعدّى إلى مفعولين، وليس لأحد أن يقول: إن أعمال العباد من الحركات يصحّ رؤيتها لمكان هذه الآية، لأنه لو كان المراد بها العلم لعدَّاه إلى الجملة وذلك أن العلم الذي يتعدَّى إلى مفعولين ما كان بمعنى الظن، وذلك لا يجوز على الله، وإنما يجوز عليه ما كان بمعنى المعرفة‏"[570]. انتهى.

أما غير الله تعالى فليس كذلك. إضافة إلى ذلك فإن الرؤية الإلهية وإبصار الله للأشياء لا يتم بالعين ولا يُحَدُّ بأي حد ولا يُقَيَّد بقيد، في حين أن الرؤية وحصول العلم البصري للبشر مُقَيَّد بقيود عديدة من جملتها أنه لا يتم إلا بالعين ولا يتيسر إلا عند وجود الشيء المرئي وتحقُّقه وحضوره في مسافة محدودة أمام العين، كما أنه عندما يَرِدُ حرف الاستقبال «س» على الفعل المضارع «يرى» فإنه يفيد هذا المعنى بشأن غير الله، وبعبارةٍ أخرى فإن الفعل له معنى خاص يتناسب مع كل فاعل من فاعليه. (فلا تتجاهل)

بناءً على ذلك فلا يعني عطف الرسول والمؤمنين - الذين هم بشر محدودون- على الله الذي ﴿لَيۡسَ كَمِثۡلِهِۦ شَيۡءٞ [الشورى: 11] أن البشر يمكن أن يكونوا أيضاً بصيرين مثل بصر الله عز وجل!! فأين بصيرة الله من بصيرة غير الله ؟! أَفَلَا تَعْقِلُونَ؟

إن بصيرة النبي والمؤمنين الذين هم جميعاً بشر، بصيرةٌ محدودةٌ لا تتم إلا بالعين ولا تتيسر إلا عند ظهور الشيء أو العمل، فهم لا يستطيعون أن يروا أعمال جميع المؤمنين الخفية والظاهرة. إن هذه النقطة بديهية إلى درجة لا يمكن لأي عاقل معها أن يعتبر أن عطف النبي والمؤمنين على الله تعالى في موضوع الرؤية، يمكن أن يكون حجَّةً للقول بأن بصر البشر ورؤيتهم تشابه بصر الله وشهوده ورؤيته! بناءً على ذلك لا يمكننا أن ننقض عموم لفظ «المؤمنين» وأن نقول هناك ثلاثة عشر مؤمن فقط- ومعظمهم لم يكن قد ولد بَعد عند نزول الآية-، إضافةً إلى النبي، يتمتعون برؤية وشهود جميع الأعمال الظاهرة والخفية للناس !!

بدلاً من أن ننقض عموم لفظ «المؤمنين» ونخصِّصه بلا دليل بعدة أشخاص فقط، فنعتبرهم مراقبين لأعمال المؤمنين الظاهرة والخفيَّة شاهدين لها جميعها كشهود الله لها، فإن المعقول والمنطقي أكثر أن لا نتغافل عن الفَرْق بين بصر الله وشهوده وبصر غير الله وشهوده وهو تفاوت واضح لا يخفى على أحد. (فتأمَّل).

أضِف إلى ذلك أننا نعلم أن الله نهى عن التجسُّس والاطّلاع على ذنوب الغير، وقال: ﴿وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِۦ خَبِيرَۢا بَصِيرٗا ١٧[الاسراء: ١٧ و فرقان 58]. وأساساً، الكل يعلم أن رؤية كثير من أعمال الناس[571] مُحرَّمةٌ على رسول الله ص كما هي مُحرَّمةٌ على سائر المؤمنين بلا استثناء.

في إحدى رسائله يوصي حضرةُ عليٍّ (ع) أحدَ عُمَّالِهِ بتقوى اللهِ في السرّ والعَلَن، ولا يعتبر أحداً سوى الله شاهداً على أعمال العباد الخفية. نقرأ في الرسالة 62 في نهج البلاغة: ".... أَمَرَهُ بِتَقْوَى اللهِ فِي سَرَائِرِ أَمْرِهِ وخَفِيَّاتِ عَمَلِهِ حَيْثُ لا شَهِيدَ غَيْرُهُ". (فتأمَّل)

كما اعتبر عليٌّ (ع) أن الشاهد والحاكم في الأمور المستورة والخفية التي يقوم بها الناس، واحدٌ، ويقول: "اتَّقُوا مَعَاصِيَ اللهِ فِي الْخَلَوَاتِ فَإِنَّ الشَّاهِدَ هُوَ الْحَاكِمُ" (نهج البلاغة، الكلمات القصار، 324).

والمثير للانتباه أن مؤلِّفَي الكتاب المذكور كتبا في كتابهما ذاك أن كلمة «شَهِدَهُ» في كتب اللغة تعني حضر الأمر وشاهده، وكلمة «شهيد» تعني الحاضِر. وأنه يُقال للمكان الذي يحضر فيه الناس ويجتمعون فيه «مَشْهد». ويعلمون أن كلمة «شهود» استُخْدِمَت في نهج البلاغة في مقابل كلمة «غياب»، وأن أمير المؤمنين علي ÷ قال: "إِنْ شَهِدَ لَمْ يُعْرَفْ وإِنْ غَابَ لَمْ يُفْتَقَدْ" (نهج البلاغة، الخطبة 103). وقال: "مَا لِي أَرَاكُمْ أَشْبَاحاً بِلا أَرْوَاحٍ..... وشُهُوداً غُيَّبَاً" (نهج البلاغة، الخطبة 108). وقال: "هَذَا مَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْيَمَنِ حَاضِرُهَا وبَادِيهَا....... عَلَى ذَلِكَ شَاهِدُهُمْ وغَائِبُهُمْ" (نهج البلاغة، الرسالة 74). ولكنهما لم يستخدما عقليهما ليدركا أنه لا يمكن لغير الله - بما في ذلك الإنسان - أن يشهد -أي يكون حاضراً شاهداً ومراقباً - عملين أو مكانين في آن واحد، سواء كان ذلك أثناء حياته في هذه الدنيا الفانية، أم بعد انتقاله عنها إلى عالم البقاء، أي سواء كان حيا بالحياة الدنيوية أم ميتاً بالنسبة إلى الدنيا، هذا فضلاً عن أن يشهد -أي يحضر- في أماكن عديدة لا حصر لها في آن واحد؟!!

إن الله تعالى وحده فقط الذي يتَّصِف بصفة "لَا يَشْغَلُهُ شَأْنٌ عَنْ شَأْنٍ "، كما بيَّن أمير المؤمنين عليٌّ ÷ اختصاص هذه الصفة بالله تعالى وحده عندما قال: "اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ وأَنْتَ الْخَلِيفَةُ فِي الأهْلِ ولا يَجْمَعُهُمَا غَيْرُكَ لأَنَّ الْمُسْتَخْلَفَ لا يَكُونُ مُسْتَصْحَباً والْمُسْتَصْحَبُ لا يَكُونُ مُسْتَخْلَفاً." (نهج البلاغة، الخطبة 46).

على ضوء ما بينَّاه أعلاه، يمكننا أن ندرك أن جميع الآيات التي ذُكِرَت فيها شهادة غير الله ومراقبته هي على النحو الذي بيَّنَّاه، ومن ذلك آية: ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَٰكُمۡ أُمَّةٗ وَسَطٗا لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيۡكُمۡ شَهِيدٗا[البقرة: ١٤٣] فليس هذا الشهود أو الشهادة على المعنى الذي يدَّعيه الغلاة والخرافيون وتجَّار الخرافات الذين يقولون إن معنى الآية أنكم أيها المؤمنون شاهدون وناظرون لجميع طاعات الناس ومعاصيهم، حتى لو فعلوها في الخفاء، وستشهدون عليهم، والرسول كذلك سيشهد عليكم!. في حين أن الاطلاع على أعمال الناس والتجسُّس عليهم حرامٌ! بل المقصود أنكم أيها المؤمنون أُمَّةٌ معتدلةٌ خيِّرةٌ، وطالما كنتم أحياء وكنتم تنتفعون من تعاليم النبي فعليكم أن تبلِّغوا سائر البشر تعاليمه، وأن تكونوا مراقبين وناصحين لأفراد مجتمعكم، تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر، ويوم القيامة ستشهدون على من قمتم بإبلاغهم تعاليم الإسلام وأوامره ونواهيه. والنبي كذلك أيضاً، فطالما كان حياً ومُكَلَّفاً، وكان يعيش في هذا العالم الفاني، فعليه أن يبلِّغ شريعة الإسلام للناس وأن يهتم بصلاح أفراد مجتمعه، وأن يشهد عليهم يوم القيامة بأنني قد أبلغتكم ما أمرني ربِّي بإبلاغكم إياه. وليس معنى شهادته على الناس أنه يطَّلع -أثناء حياته أو بعد رحيله وانتقاله إلى دار البقاء- على أعمال الناس المستورة والخفية، ويغتمّ لما يراه من المعاصي والآثام، فتتحوّل دار السلام التي هو فيها إلى دار هَمٍّ وحُزْنٍ!! إن الله ستَّارٌ للعيوب لا كشَّافٌ للعيوب، والله وحده فقط المطَّلع على أحوال العباد وأعمالهم الظاهرة والخفية والعليم بها والخبير بها والشهيد عليها، ولا شريك له في هذه الصفة كما أسلفنا. (فلا تتجاهل). وبعبارة أخرى تقول آية سورة التوبة للمتخلفين المُعَذِّرين: إن كنتم صادقين في اعتذاركم فعليكم العمل بدلاً من الادِّعاء، وسيشاهد اللهُ ورسولُه والمؤمنون أعمالَكم التي ستظهر منكم ثم سَتُرجَعون إلى الله الذي يعلم الجهر وما نُعْلِن ويعلم الغيب وما نُخفي، وسوف يُنَبِّئُكم الله، الشاهد والشهيد على كل شيء، بما كنتم تعملونه في الظاهر والباطن، ويحكم بينكم. ولا تريد الآية أن تقول إن النبي أو بعض المؤمنين يكتسبون صفة الله الشاهد للظاهر والباطن!! (فتأمَّل)

أضف إلى ذلك أن موضوع الشهادة تكرر في الآية [أي آية لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا] مرتين وكلاهما يفيد المعنى ذاته، لأن المعطوف والمعطوف عليه كلاهما بشر، ورغم أن روح البشر لا تفنى إلا أن أحياءهم وأمواتهم لا يستوون [فاطر: 22]. وَمِنْ ثَمَّ فكيفما كانت شهادة المؤمنين فإن شهادة الرسول ستكون مثلها أيضاً، ولا يمكننا أن نفسر كلمة واحدة في آية واحدة بمعنيين مختلفين دون دليل ومستند.

علاوة على ذلك، لو كان الأنبياء - سواء أثناء حياتهم أم بعد وفاتهم - شاهدين لأعمال الناس جميعهم لَمَا قال حضرة نوح (ع) زمن حياته: ﴿وَمَا عِلۡمِي بِمَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ؟ [الشعراء: 112]، وَلَمَا قال حضرة عيسى (ع) يوم القيامة: ﴿وَكُنتُ عَلَيۡهِمۡ شَهِيدٗا مَّا دُمۡتُ فِيهِمۡۖ فَلَمَّا تَوَفَّيۡتَنِي كُنتَ أَنتَ ٱلرَّقِيبَ عَلَيۡهِمۡۚ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ شَهِيدٌ ١١٧[المائ‍دة: ١١٧](فتأمَّل جداً). بل الأنبياء ومن جملتهم حضرة عيسى (ع) يشهدون أنهم أبلغوا الناس التوحيد ودين الله كما جاءهم من عند الله، لا أنهم كانوا شاهدين لأعمال الناس فرداً فرداً.

كما قال الله لرسوله: ﴿وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ ٱلۡغَرۡبِيِّ إِذۡ قَضَيۡنَآ إِلَىٰ مُوسَى ٱلۡأَمۡرَ وَمَا كُنتَ مِنَ ٱلشَّٰهِدِينَ[572]٤٤[القصص: ٤٤]فهذا يدلُّ على أنَّ شهادة النبيِّ (أي شهوده) غير شهادة الله. كما نعلم أيضاً أن النصارى، بعد رحيل المسيح وأمه مريم - عليهما السلام -، اتخذوهما إلهين (المائدة: 116) ولكن المسيح وأمه يوم القيامة سيعلنان عدم علمهما بعمل المنحرفين ذاك، وهذا بحد ذاته دليل على أن أعمال العباد لا تُعْرَض على الأنبياء.

63ثانياً: لقد تجاهل مؤلِّفَي الكتاب أن كلمة «الأُمَّة» في القرآن لا تعني دائماً جميع أتباع ملَّةٍ ما، كأن تكون أمَّة اليهود شاملة لجميع أتباع حضرة كليم الله (ع) أو أمَّة النصارى شاملة لجميع أتباع حضرة المسيح (ع)، وهكذا... بل لا بد أن نعلم أن كلمة «الأُمَّة» تُطلق أحياناً على جماعة معينة من الأمَّة أو على بعض أفرادها. فمثلاً كلمة أمَّة في آية: ﴿وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدۡيَنَ وَجَدَ عَلَيۡهِ أُمَّةٗ مِّنَ ٱلنَّاسِ يَسۡقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ ٱمۡرَأَتَيۡنِ[القصص: ٢٣]أو في آية: ﴿وَإِذۡ قَالَتۡ أُمَّةٞ مِّنۡهُمۡ لِمَ تَعِظُونَ قَوۡمًا ٱللَّهُ مُهۡلِكُهُمۡ[الاعراف: ١٦٤] جاءت بمعنى «جماعة من الناس» لا بمعنى جميع أتباع دين ما.

والأمر ذاته ينطبق أيضاً على مخاطبة المُخاطَب الجَمْع في القرآن. فينبغي أن نعلم أن خطاب الجمع الحاضر لا يتوجَّه دائماً إلى جميع الأمة أو جميع المسلمين بالضرورة. فمثلاً المخاطب الجمع في آيات مثل قوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡقِصَاصُ...[البقرة: ١٧٨]أو قوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلصِّيَامُ[البقرة: ١٨٣]وكثير من الموارد المشابهة مُوجَّهٌ إلى المسلمين جميعهم - الماضين والمعاصرين والآتين في المستقبل - أي هو خطاب لأمَّة الإسلام جمعاء، ولكن هناك حالات لا يكون فيها لخطاب الجمع مثل هذا العموم الشامل، كما في الآيات 121 حتى 127 من سورة آل عمران مثلاً أو آية ﴿إِن يَمۡسَسۡكُمۡ قَرۡحٞ فَقَدۡ مَسَّ ٱلۡقَوۡمَ قَرۡحٞ مِّثۡلُهُۥۚ[ال عمران: ١٤٠]فضمير «كُمْ» في الآية يعود على مجاهدي معركة «أُحُد» لا على جميع المسلمين، والمُراد من «القوم» أيضاً مشركو مكَّة لا غير. وكذلك الآيات من 11 إلى 17 من سورة النور لا تعود مخاطبة الجمع فيها على المسلمين جميعاً[573] بل على فريق منهم وهم الذين خاضوا في الإفك بحق عائشة، وهكذا....

وكذلك لا تعني كلمة «الناس» دائماً عامة البشر، بل تدلُّ أحياناً على عدد محدود منهم، فمثلاً من البديهي أن كلمة «الناس» في قوله تعالى: ﴿ٱلَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ٱلنَّاسُ إِنَّ ٱلنَّاسَ قَدۡ جَمَعُواْ لَكُمۡ فَٱخۡشَوۡهُمۡ فَزَادَهُمۡ إِيمَٰنٗا[ال عمران: ١٧٣]لا يُراد منها جميع البشر في كل الأزمنة والأمكنة! بل المقصود من «الناس» الأولى عدد من المخبرين الذين جاؤوا إلى مجاهدي الإسلام وكلموهم، ومن «الناس» الثانية بقية جيش المشركين الذين عزموا على العودة إلى مهاجمة مُجاهدي معركة أحد من جديد. وكذلك في آية: ﴿لَّعَلِّيٓ أَرۡجِعُ إِلَى ٱلنَّاسِ لَعَلَّهُمۡ يَعۡلَمُونَ ٤٦[يوسف: ٤٥]المقصود من «الناس» هنا المَلِك وسائر مسؤولي البلاط الملكي وحاشية «عزيز مصر» في زمن يوسف لا عامَّة الناس!! أو آية: ﴿سَحَرُوٓاْ أَعۡيُنَ ٱلنَّاسِ وَٱسۡتَرۡهَبُوهُمۡ[الاعراف: ١١٦] من الواضح أن المقصود من «الناس» فيها جماعة الناس الذين كانوا حاضرين لمشاهدة منافسة السحرة لحضرة موسى (ع) لا جميع أهل مصر، وهكذا....

على ضوء ما تقدَّم يَتَبَـيَّنُ أن ما ادعاه مؤلفا الكتاب حول الآية 15 من سورة المُزَّمِّل [أي قوله تعالى: إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا] وبعض الآيات الأخرى، بأن المقصود بالخطاب جميع الأمة في جميع الأزمنة وأن هذه الآيات نظائرها تثبت بوضوح شهادة النبي ص على أعمال أمته[574] لا يعدو المغالطة وخداع العوام.

وكذلك الأمر بشأن مسألة «الجَعْل»؛ إذْ من الضروري أن نعلم أن الجَعْل الإلـهي في القرآن لا ينحصر بنوعين من الجعل فقط، إما الجعل التكويني المباشر أو الجعل الاعتباري والتشريعي، بل ثمَّة موارد يكون الجَعْل فيها من سِنْخِ جَعْل النتيجة والقابليَّة، أي أن ترتُّب النتيجة على الجَعْل الإلـهي يُعَدُّ «جعلاً» أيضاً. وهذا «الجَعْل» الأخير نوعٌ من الجَعْل المشروط أو الجَعْل التكويني غير المباشر. فمثلاً يقول تعالى في القرآن: ﴿وَجَعَلۡنَٰهُمۡ أَئِمَّةٗ يَدۡعُونَ إِلَى ٱلنَّارِ[القصص: ٤١]، ومن البديهي أن الله الرحمن الرحيم الحكيم لم يخلقهم مباشرةً أئمَّةً لأهل النار، بل هم الذين أصبحوا - بناء على سنن الله في خلقه - أئمّةً لأهل النّار بسبب ظلمهم واستكبارهم ومحاربتهم للحقّ وسوء استغلالهم للقوّة والقدرة التي أعطاهم الله إياها[575]، لأن من سنن الله في خلقه أنه إذا ظلم أكابر قوم وحاربوا الحق، فإن هناك - شئنا أم أبينا - جماعةٌ من الناس ستجتمع حولهم، كما قال تعالى: ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَا فِي كُلِّ قَرۡيَةٍ أَكَٰبِرَ مُجۡرِمِيهَا لِيَمۡكُرُواْ فِيهَاۖ وَمَا يَمۡكُرُونَ إِلَّا بِأَنفُسِهِمۡ وَمَا يَشۡعُرُونَ ١٢٣[الانعام: ١٢٣]، وقال: ﴿وَإِذَآ أَرَدۡنَآ أَن نُّهۡلِكَ قَرۡيَةً أَمَرۡنَا مُتۡرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيۡهَا ٱلۡقَوۡلُ فَدَمَّرۡنَٰهَا تَدۡمِيرٗا ١٦ وَكَمۡ أَهۡلَكۡنَا مِنَ ٱلۡقُرُونِ مِنۢ بَعۡدِ نُوحٖۗ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِۦ خَبِيرَۢا بَصِيرٗا ١٧[الاسراء: ١٦، ١٧]. من المعلوم إذن أن من السنن الإلـهية في المجتمعات البشرية أنه إذا عصى سادة المجتمع وأصحاب القدرة فيه اللهَ، فإن الذين تحت أيديهم سيتبعونهم في ذلك قهراً، فيستحق الجميع نزول العذاب الإلـهي بهم، رغم أن المسؤولية الأصلية تقع على عاتق السادة وأصحاب القدرة الذين يصبحون دعاةً إلى النار، لا أن الله تعالى جعلهم مباشرةً أئمَّةً للنار. (فتأمَّل ولا تتجاهل). كما نجد القرآن يقول: ﴿ إِنَّا جَعَلۡنَا ٱلشَّيَٰطِينَ أَوۡلِيَآءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ ٢٧[الاعراف: ٢٧]أي أنه طبقاً للسنة الإلـهية، فإن من يكتمون الحق و يتبعون آباءهم وأجدادهم بتعصب وعناد ودون تفكير أو تأمُّل، ينشأ بينهم وبين الشياطين المعادين للحق نوع من الاتحاد في الجهة والهدف والولاية.

وإذا قال تعالى: ﴿فَبِمَا نَقۡضِهِم مِّيثَٰقَهُمۡ لَعَنَّٰهُمۡ وَجَعَلۡنَا قُلُوبَهُمۡ قَٰسِيَةٗ[المائ‍دة: ١٣]فمن البديهي أن الربّ الرؤوف الرحيم الحليم لم يخلق قلوبهم قاسيةً من البداية وبشكل مباشر، بل طبقاً للسنن الإلـهية، قست قلوبهم نتيجة نقضهم ميثاقهم، وهكذا.... وأمثال هذه النماذج في القرآن ليست بالقليلة. (فلا تتجاهل).

ولكن للأسف فإن كاتِبَي الكتاب المذكور قالا ما يفيد (ص 118) أن «الجَعْل» ينحصر في أمرين: إما أن يكون جعلاً تشريعياً أو يكون جعلاً تكوينياً مباشراً غير مشروط. فإذا لم يكن «الجَعْل» تشريعياً فهو بالضرورة جعلٌ تكويني مباشر لا غير!! في حين أن «الجَعْل» في الآية 143 من سورة البقرة [أي قوله تعالى: ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَٰكُمۡ أُمَّةٗ وَسَطٗا لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيۡكُمۡ شَهِيدٗا[البقرة: ١٤٣] هو - على ضوء ما ذكرناه أعلاه ونماذج عديدة أخرى في القرآن - من باب الجعل الذي يحصل طبقاً للسنة الإلـهية أي الجعل الذي يتم من خلال ترتُّب النتيجة على الفعل، لا جعلٌ تكوينيٌّ مباشرٌ غير مشروط. بناء على ذلك، وبملاحظة أن الآية 143 من سورة البقرة تكلَّمَتْ عن موضوع تغيير القبلة، فإن كل عاقل يدرك أن خطاب الآية مُوجَّهٌ إلى معاصري النبي الذين أذعنوا لتغيير القبلة، وهي تقول في الواقع للمسلمين المقصودين: إنكم بإطاعتكم للنبي الأكرم ص وإيمانكم به واتِّباعكم له، و عدم إعطائكم أي أهمية لتحجُّج اليهود حول القبلة، والتزامكم بشريعة الرسول الخاتم، خلافاً لأهل الكتاب الذين اختلفوا بين أنفسهم حول القبلة، وأظهروا أنهم غير مستعدين لتغيير قبلتهم وقبول قبلة المسلمين بأي ثمن حتى ولو أُتُوا بكل آية، رغم علمهم في قرارة أنفسهم بأن قبلة الإسلام حقَّة وصحيحة (البقرة: 144)، إنكم أيها المؤمنون، نتيجةً لذلك، أصبحتم أمَّةً صالحةً عادلةً أو معتدلةً ومتوازنةً، والنبي الذي ربَّاكم وزكَّى نفوسكم وعلَّمكم هذا الكتاب السماوي والحكمة وما لم تكونوا تعلمون (البقرة: 151) سيكون شاهداً لكم يوم القيامة، بأنكم تعلَّمتم منه التربية وأخذتم عنه معارفكم عن الشريعة الإلـهية وأنتم أيضاً ستكونون شهداء على من أخذ عنكم دين النبيّ ص. ولا ننسَ أن القرآن الكريم وصل إلينا عن طريق أصحاب النبي ص.

وكذلك الآية 78 من سورة الحج[576] المدنية تخاطب أصحاب النبي ص المُلْتَفّين حوله الذين كانوا يعتبرون أنفسهم من ذرية إبراهيم (ع) وتقول لهم: إن الله سماكم - في زمن جدكم الأعلى إبراهيم (البقرة: 128 و 131 حتى 133، وآل عمران: 67) وفي هذا الكتاب (= القرآن)-: «مُسْلِمِينَ»، وهذا الدين الذي أنتم عليه الآن موافقٌ لدين جدِّكم إبراهيم فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ واعبدوا الله وجاهدوا في سبيله واعمَلوا الأعمال الصالحة وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ يوم القيامة وتكونوا أنتم أيضاً شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ الذين أخذوا عنكم دين النبيّ. بناء على ذلك فإن صيرورة أصحاب النبيّ الأمة الوسط (الصالحة الخَـيِّرَة أو المعتدلة المتوازنة) هو نتيجة لاتِّباعهم الرسول ص، لا أن الله تعالى جَعَلَهُمْ هكذا جعلاً تكوينياً مباشراً غير مشروط، كما أن صيرورتهم خير أمة أخرجت للناس هو نتيجة لإيمانهم بالنبي الخاتم وقيامهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (آل عمران: 110) خاصَّةً أن القرآن الكريم قال: ﴿وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا [القصص: 75] وهو نبيُّها الذي يشهد على أمَّته بالحقّ، وقال: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ [أي على معاصري النبيّ] شَهِيدًا [النساء: 41]، بناء على ذلك فإن ما يلفِّقه الخرافيون متأثِّرٌ برواية موضوعة ساقطة من الاعتبار، لا تستند إلى دليلٍ شرعيٍّ قويمٍ.

الآن، على ضوء ما تم بيانه، إذا أردنا أن نعرف معنى الآيات السبعة التي يستغلها الخرافيون ويسيئون تفسيرها، وأن لا نُخْدَع بتلفيقاتهم، فعلينا أن ننتبه إلى المسائل التالية:

أولاً: قال الله تعالى: ﴿هُوَ ٱللَّهُ ٱلَّذِي لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۖ عَٰلِمُ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِۖ هُوَ ٱلرَّحۡمَٰنُ ٱلرَّحِيمُ ٢٢[الحشر: ٢٢]، وقال أيضاً: ﴿أَوَ لَمۡ يَكۡفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُۥ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ شَهِيدٌ ٥٣[فصلت: ٥٣]، وقال: ﴿عَٰلِمِ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ فَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يُشۡرِكُونَ ٩٢[المؤمنون : ٩٢]، بناء على ذلك لا يجوز أن نعتبر غير الله شاهداً على أعمال الناس الخفية استناداً إلى أحاديث موضوعة لا اعتبار لها!

ثانياً: علينا أن نعلم أن الأنبياء عليهم السلام لم يكونوا مُطَّلعين على أعمال الناس الخفية أثناء حياتهم، كما قال تعالى لرسوله: ﴿وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُعۡجِبُكَ قَوۡلُهُۥ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَيُشۡهِدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلۡبِهِۦ وَهُوَ أَلَدُّ ٱلۡخِصَامِ ٢٠٤ وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي ٱلۡأَرۡضِ لِيُفۡسِدَ فِيهَا وَيُهۡلِكَ ٱلۡحَرۡثَ وَٱلنَّسۡلَۚ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلۡفَسَادَ ٢٠٥[البقرة: ٢٠٤، ٢٠٥]في حين أنه لو كانت الأعمال المفسدة لأمثال أولئك الأشخاص تُعْرَض على النبيّ ص لَمَا أعجبه قولهم لأنه كان سيعرف أنه مجرد قول بلا عمل. بناء على ذلك فإن شهادة الأنبياء منحصرة بفترة حياتهم الدنيوية وبمعاصريهم فقط، كما أنهم في فترة حياتهم الدنيوية غير مطلعين على أعمال الناس الخفيَّة (الشعراء: 122). أما بعد انتهاء حياتهم الدنيوية وانتقالهم إلى دار البقاء، فلا تعود لهم أي صلة بعالمنا أو ارتباط به (المائدة: 117). ويوم القيامة يقول بعض المعبودين من دون الله - ومن جملتهم الأنبياء السابقين - لعابديهم: ﴿فَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيدَۢا بَيۡنَنَا وَبَيۡنَكُمۡ إِن كُنَّا عَنۡ عِبَادَتِكُمۡ لَغَٰفِلِينَ ٢٩[يونس : ٢٩]. ويقول القرآن أيضاً للرسول ص: ﴿وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعۡضَ ٱلَّذِي نَعِدُهُمۡ أَوۡ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيۡنَا مَرۡجِعُهُمۡ ثُمَّ ٱللَّهُ شَهِيدٌ عَلَىٰ مَا يَفۡعَلُونَ ٤٦[يونس : ٤٦]، مما يُبَيِّن أن أعمال العباد لا تُعْرَضُ على الأنبياء، فهم ليسوا شهداء على أعمال جميع أتباعهم من المعاصرين لهم[577].

ثالثاً: علينا أن نعلم أن شهادة الأنبياء تكون حول أصول الدين وإبلاغ أحكام شريعتهم للناس، لا شهادتهم على جميع أعمال الناس. إن الله تعالى يقول: ﴿يَوۡمَ يَجۡمَعُ ٱللَّهُ ٱلرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَآ أُجِبۡتُمۡۖ قَالُواْ لَا عِلۡمَ لَنَآۖ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّٰمُ ٱلۡغُيُوبِ ١٠٩[المائ‍دة: ١٠٩]ويقول أيضاً: ﴿فَلَنَسۡ‍َٔلَنَّ ٱلَّذِينَ أُرۡسِلَ إِلَيۡهِمۡ وَلَنَسۡ‍َٔلَنَّ ٱلۡمُرۡسَلِينَ ٦[الاعراف: ٦]. وعلى سبيل المثال بيَّن لنا أنه سيسأل يوم القيامة عيسى بن مريم (ع) فيقول: ﴿... ءَأَنتَ قُلۡتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيۡنِ مِن دُونِ ٱللَّهِۖ قَالَ سُبۡحَٰنَكَ مَا يَكُونُ لِيٓ أَنۡ أَقُولَ مَا لَيۡسَ لِي بِحَقٍّۚ إِن كُنتُ قُلۡتُهُۥ فَقَدۡ عَلِمۡتَهُۥۚ تَعۡلَمُ مَا فِي نَفۡسِي وَلَآ أَعۡلَمُ مَا فِي نَفۡسِكَۚ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّٰمُ ٱلۡغُيُوبِ ١١٦ مَا قُلۡتُ لَهُمۡ إِلَّا مَآ أَمَرۡتَنِي بِهِۦٓ أَنِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمۡۚ وَكُنتُ عَلَيۡهِمۡ شَهِيدٗا مَّا دُمۡتُ فِيهِمۡۖ فَلَمَّا تَوَفَّيۡتَنِي كُنتَ أَنتَ ٱلرَّقِيبَ عَلَيۡهِمۡۚ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ شَهِيدٌ ١١٧[المائ‍دة: ١١٦، ١١٧]والحواريون وأتباع حضرة المسيح وأصحابه الذين أخذوا تعاليم دين الله منه مباشرةً ودون واسطة، وكان واجباً عليهم أن ينقلوا تلك التعاليم إلى سائر الناس، سيشهدون على صدق معجزات المسيح (ع) وتعاليم ذلك النبي الكريم للآخرين في الدنيا والآخرة، بأننا تلقينا تعاليم ذلك النبي منه وكنا شاهدين لمعجزاته، ومنها نزول المائدة السماوية. (آل عمران: 53، والمائدة: 113).

كما أن علماء اليهود العالمين بالتوراة والذين كان واجباً عليهم أن يبلِّغوها للآخرين كانوا يُعَدُّون من زمرة الشهود (المائدة: 44). والأمر نفسه ينطبق على القِسِّيسِينَ والرهبان المتواضعين لِـلَّهِ الذين لَا يَسْتَكْبِرُونَ والذين أسلموا فكانوا من الشاهدين (المائدة: 83).

بناء على ما سبق، نرى أن الشهداء ليسوا محصورين في عدة معدودة من الأفراد - كأن يكونوا مثلاً أربعة عشر نفراً فقط.

على ضوء كل ذُكِرَ أعلاه، نلاحظ أن في الآية 45 من سورة الأحزاب، والآية 8 من سورة الفتح تمَّ ذِكْر ثلاث صفات هي: «شاهد» و«بشير» و«نذير» ولكن لم يُذْكَر موضوع الشهادة والبشارة والإنذار [أي لم تُبيِّن الآيتان على أي شيء يشهد النبي وبماذا يبشِّر ويُنذِر]، لذا فلا بد أن ننظر في القرآن الكريم ذاته لنعلم موضوع الشهادة والبشارة والإنذار.

والنقطة الأخرى التي لا تجوز الغفلة عنها أن صفتي «بشير» أو «مُبَشِّر»، و«نذير» أو «مُنْذِر» تم التأكيد عليها بالنسبة إلى الأنبياء - ومن جملتهم الرسول الأكرم ص - أشدّ وأكثر من التأكيد على صفة «الشاهد»، بل جاءت صفتا «البشير والنذير» في بعض الموارد في القرآن، تستهدف -بلا ريب- جميع الناس إلى يوم القيامة، ومن جملة ذلك الآيات التالية:

1- ﴿إِنَّآ أَرۡسَلۡنَٰكَ بِٱلۡحَقِّ بَشِيرٗا وَنَذِيرٗا[البقرة: ١١٩]

2- ﴿فَبَعَثَ ٱللَّهُ ٱلنَّبِيِّ‍ۧنَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ [البقرة: 213]

3- ﴿إِنۡ أَنَا۠ إِلَّا نَذِيرٞ وَبَشِيرٞ لِّقَوۡمٖ يُؤۡمِنُونَ [الأعراف: 188]

4- ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا مُبَشِّرٗا وَنَذِيرٗا ١٠٥[الاسراء: ١٠٥ و الفرقان 56]، كما قال تعالى عن عامَّة الأنبياء: ﴿وَمَا نُرۡسِلُ ٱلۡمُرۡسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ[الانعام: ٤٨].

5- ﴿إِنَّنِي لَكُم مِّنۡهُ نَذِيرٞ وَبَشِيرٞ ٢[هود: ٢]، و ﴿إِنَّمَآ أَنتَ نَذِيرٞۚ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ وَكِيلٌ ١٢[هود: ١٢]

6- ﴿قُلۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّمَآ أَنَا۠ لَكُمۡ نَذِيرٞ مُّبِينٞ ٤٩[الحج : ٤٩]

7- ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا كَآفَّةٗ لِّلنَّاسِ بَشِيرٗا وَنَذِيرٗا ٢٨[سبا: ٢٨]

والمسألة الثانية التي ينبغي أن نعرفها هي: ما هو الذي يبشِّر به الأنبياء ومِمَّ يحذِّرون الناسَ منه ويُنْذِرونهم؟ هذا ما بيَّنه لنا القرآن كما في الآيات التالية:

1- ﴿لِتُبَشِّرَ بِهِ ٱلۡمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِۦ قَوۡمٗا لُّدّٗا ٩٧[مريم: ٩٧]أي لِتُبَشِّرَ بالقرآن المتقين وَتُنْذِرَ بِالقرآن المعاندين اللجوجين.

2- ﴿وَبَشِّرِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ أَنَّ لَهُمۡ جَنَّٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ[البقرة: ٢٥].

3- وقال تعالى مستخدماً أسلوب التَّهَكُّمِ وَالتَّوِبِيخِ بحق المنافقين والكفار: ﴿بَشِّرِ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ بِأَنَّ لَهُمۡ عَذَابًا أَلِيمًا ١٣٨[النساء : ١٣٨]و: ﴿... بَشِّرِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ٣[التوبة: ٣].

4- ﴿وَأَنذِرِ ٱلنَّاسَ يَوۡمَ يَأۡتِيهِمُ ٱلۡعَذَابُ[ابراهيم: ٤٤]. وقال بشأن أهالي شبه الجزيرة العربية: ﴿وَتُنذِرَ يَوۡمَ ٱلۡجَمۡعِ لَا رَيۡبَ فِيهِۚ فَرِيقٞ فِي ٱلۡجَنَّةِ وَفَرِيقٞ فِي ٱلسَّعِيرِ ٧[الشورى: ٧].

المسألة الثالثة: أن نعلم أن الأنبياء يشتركون في صفتي «البشير» و«النذير» مع كتابهم، أي أن «البشير» و«النذير» صفتان للنبي، وصفتان للكتاب الذي أتى به النبي من عند الله أيضاً.

قال تعالى عن كتابه المُنْزَل: ﴿إِنَّ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ يَهۡدِي لِلَّتِي هِيَ أَقۡوَمُ وَيُبَشِّرُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٱلَّذِينَ يَعۡمَلُونَ ٱلصَّٰلِحَٰتِ أَنَّ لَهُمۡ أَجۡرٗا كَبِيرٗا ٩ وَأَنَّ ٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡأٓخِرَةِ أَعۡتَدۡنَا لَهُمۡ عَذَابًا أَلِيمٗا ١٠[الاسراء: ٩، ١٠]. وقال أيضاً: ﴿ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ عَلَىٰ عَبۡدِهِ ٱلۡكِتَٰبَ وَلَمۡ يَجۡعَل لَّهُۥ عِوَجَاۜ ١ قَيِّمٗا لِّيُنذِرَ بَأۡسٗا شَدِيدٗا مِّن لَّدُنۡهُ وَيُبَشِّرَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٱلَّذِينَ يَعۡمَلُونَ ٱلصَّٰلِحَٰتِ أَنَّ لَهُمۡ أَجۡرًا حَسَنٗا ٢ [الكهف: ١، ٢].

المسألة الرابعة: أن على أتباع الأنبياء الصادقين أن يتمثلوا هم أيضاً بصفتي «المُبَشِّر»، و«المُنْذِر» كما قال تعالى: ﴿فَلَوۡلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرۡقَةٖ مِّنۡهُمۡ طَآئِفَةٞ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي ٱلدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوۡمَهُمۡ إِذَا رَجَعُوٓاْ إِلَيۡهِمۡ لَعَلَّهُمۡ يَحۡذَرُونَ ١٢٢ [التوبة: ١٢٢].

من الذي لا يعلم أن الأنبياء بشروا الناس، بواسطة آيات الكتاب السماوي المُنْزَل وبواسطة أقوالهم وأفعالهم، بالجنَّة والسعادة الأخروية الأبدية بشرط أن يؤمنوا ويعملوا بأوامر الأنبياء ويجتنبوا نواهيهم، وأنهم أنذروا الناس الذين لم يؤمنوا: عذابَ الله الأخروي والجحيم والشقاء الأبديين.

وعلى المؤمنون بالأنبياء أيضاً مهمَّة إبلاغ كُتُب الله المُنْزَلة إلى سائر الناس، وأن يُبَشِّروهم ويُنذروهم، وهكذا كان الأمر دائماً وانتقل الدين من جيل إلى جيل بهذه الطريقة.

ولكن ينبغي أن ننتبه إلى أن صفة «الشاهد» أو «الشهيد» ليست كذلك. ولمعرفة المقصود من هذه الصفة التي وُصِفَ بها النبيُّ في الآية 45 من سورة الأحزاب والآية 8 من سورة الفتح، علينا أن ننتبه إلى الآية الكريمة التي يقول تعالى فيها: ﴿فَكَيۡفَ إِذَا جِئۡنَا مِن كُلِّ أُمَّةِۢ [578]بِشَهِيدٖ وَجِئۡنَا بِكَ عَلَىٰ هَٰٓؤُلَآءِ شَهِيدٗا ٤١[النساء : ٤١]إذْ من الواضح أن المُشار إليه باسم الإشارة «هَؤُلَاءِ» هم أصحاب النبيّ ومعاصروه، لأنه لو كان المراد «أُمَّة» النبيّ لوجب أن تتم الإشارة إليها باسم الإشارة «هذه». (فتأمَّل)

كما يجب أن ننتبه إلى الآية الكريمة التالية: ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَٰكُمۡ أُمَّةٗ وَسَطٗا لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيۡكُمۡ شَهِيدٗا[البقرة: ١٤٣][579]، وإلى الآية الكريمة التالية أيضاً: ﴿إِنَّآ أَرۡسَلۡنَآ إِلَيۡكُمۡ رَسُولٗا شَٰهِدًا عَلَيۡكُمۡ كَمَآ أَرۡسَلۡنَآ إِلَىٰ فِرۡعَوۡنَ رَسُولٗا ١٥[المزمل: ١٥]؛ إذْ من الواضح أن أعمال العباد لم تكُن تُعْرَض على حضرة موسى (ع) وإلا لَمَا لام موسى (ع) أخاه هارون (ع) ووبَّخه عندما رجع إلى قومه بعدما كان قد تعجَّل بالمجيء إلى ميقات ربه في الطور، متقدِّماً على الجماعة الذين كانوا معه، فأخبره تعالى بإضلال السامري لقومه، ولَعَلِمَ أن أخاه هارون كان قد نهى المنحرفين عن عبادة العجل (طه: 84 - 85، و 93 - 94). بناء على ذلك فإن النبيّ الأكرم ص - مثله في ذلك مثل حضرة عيسى (ع) وسائر الأنبياء - عليهم السلام - سيشهد يوم القيامة على معاصريه قائلاً: اللهم لقد أبلغتُ الناسَ من أهل زماني كتابَكَ وتعاليمَكَ كما سيشهد حضرة موسى (ع) أيضاً يوم القيامة قائلاً: اللهم لقد أبلغتُ فرعون وآله ورعيته كتابَكَ وتعاليمَكَ. وكذلك سيشهد أتباع النبي الصادقون على الناس الذين أبلغوهم رسالة الله وكتابه، كما قال تعالى: ﴿وَيَوۡمَ نَبۡعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٖ شَهِيدٗا ثُمَّ لَا يُؤۡذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ وَلَا هُمۡ يُسۡتَعۡتَبُونَ ٨٤[النحل: ٨٤]، وقال: ﴿وَيَوۡمَ نَبۡعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٖ شَهِيدًا عَلَيۡهِم مِّنۡ أَنفُسِهِمۡۖ وَجِئۡنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَىٰ هَٰٓؤُلَآءِ[النحل: ٨٩]؛ ومن الواضح تماماً أن المراد من كلمة «هَؤُلَاءِ» - كالمراد من «هَؤُلَاءِ» في الآية 41 من سورة البقرة - ليسوا سوى أصحابَ النبيِّ ومعاصريه[580]. (فلا تتجاهل).

وقد خاطب الله تعالى المشركين أيضاً فقال: ﴿وَنَزَعۡنَا مِن كُلِّ أُمَّةٖ شَهِيدٗا فَقُلۡنَا هَاتُواْ بُرۡهَٰنَكُمۡ فَعَلِمُوٓاْ أَنَّ ٱلۡحَقَّ لِلَّهِ[القصص: ٧٥]، وخاطب معاصري النبي ص الذين كانوا يَعُدُّون أنفسهم ذريَّةَ إبراهيم (ع): ﴿لِيَكُونَ ٱلرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيۡكُمۡ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِۚ فَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ وَٱعۡتَصِمُواْ بِٱللَّهِ هُوَ مَوۡلَىٰكُمۡۖ فَنِعۡمَ ٱلۡمَوۡلَىٰ وَنِعۡمَ ٱلنَّصِيرُ ٧٨[الحج : ٧٨].

لِنَنْتَـبِهْ إلى مقطع الآية الذي يقول:"فَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ وَٱعۡتَصِمُواْ بِٱللَّهِ هُوَ مَوۡلَىٰكُمۡۖ فَنِعۡمَ ٱلۡمَوۡلَىٰ وَنِعۡمَ ٱلنَّصِيرُ "، فعندما يأتي الكلام على أداء «الشهادة» فإن مثل هذه الأوامر أكثر تناسباً مع المؤمنين العاديين من مناسبتها للنبيّ ولأشخاص يُفْتَرَضُ أنهم منصوبون ومعينون مِنْ قِبَلِ الله، وتُعْرَضُ عليهم أعمال العباد!! [581]

وكما علَّم القرآن الكريم المسلمين أن يسألوا اللهَ أن يجعلَهم أئمَّةً لأهل التقوى ويقولوا: ﴿وَٱجۡعَلۡنَا لِلۡمُتَّقِينَ إِمَامًا [الفرقان: 74] أمرهم أيضاً أن يسألوا اللهَ تعالى أن ينيلهم مقام «الشاهِدين» ويقولوا: ﴿رَبَّنَآ ءَامَنَّا بِمَآ أَنزَلۡتَ وَٱتَّبَعۡنَا ٱلرَّسُولَ فَٱكۡتُبۡنَا مَعَ ٱلشَّٰهِدِينَ ٥٣ [ال عمران: ٥٣ والمائدة 83] ؛ بناء على ذلك لا يمكن أن نحصر الشاهدين بأربعة عشر نفراً فقط. (فتأمَّل)

يتَّضح مما بينَّاه أعلاه بطلان ما قاله مُؤَلِّفَي الكتاب حول آيات الشهادة السبع التي أوردناها في بداية هذا المبحث (راجعوا ص 319)، ولكن الإنصاف يقتضي أن نُقِرّ أن مسؤولية الانحرافات وترسيخ الخرافات بين الناس تقع على عاتق المتقدِّمين الذين جمعوا في كتبهم كل خبر خرافي تحت عنوان «الآثار الصحيحة عن الصادِقِين»!! ثم بالغ الكُتَّاب المتأخِّرون بتكريم أولئك المتقدِّمين وتجليلهم مبالغة شديدة، حتى وصل الأمر إلى سعي الكُتَّاب وخرِّيجي الحوزة العلمية اليوم إلى تحميل معاني الأحاديث الخرافية على آيات كتاب الله، من خلال أنواع التلفيق والمغالطات والتأويلات الباردة غير المتناسبة مع معاني الآيات!!

نعم، إن إشكالات كتاب «علم پيامبر وامام در قرآن» [علم النبي والإمام في القرآن]، تأليف «أحمد المطهري» و«غلام رضا كاردان»، كثيرة للغاية ويحتاج بيانها جميعاً إلى كتاب مستقل، وهو أمر غير ميسورٍ لي في مثل ظروف التشرُّد والتنقُّل من بيت إلى بيت هذه التي أعيشها هذه الأيام. وليت أخينا الفاضل جناب الأستاذ «مصطفى الحسيني الطباطبائي» -حفظه الله تعالى من شر أعدائه - يقوم بنقد شامل لهذا الكتاب المشحون بالخرافات من أوله إلى آخره، و يبرز الإشكالات العديدة التي يطفح بها لإخوتنا وأخواتنا في الإيمان. إن شاء الله تعالى.

هذا وقد ذُكِرَتْ في ذلك الكتاب (ص 201 إلى 212) أمورٌ بيَّنَّا بطلانها في تنقيحنا الثاني لكتاب «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول»، (ص 538 إلى 540) والكتاب الحاضر (ص 141 إلى 149).

وأورد الكتاب المذكور (في ص 141) مغالطةً حول الآية 124 من سورة البقرة[582] نقلها عن «تفسير الميزان»، ولعله أراد بهذا الاقتباس من تفسير الميزان أن يُرهِبَ القُرَّاء نظراً إلى الشهرة والاحترام الكبيرين اللذَين يحظى بهما مؤلف «تفسير الميزان»، العلامة محمد حسين الطباطبائي، بين الناس. ولكن من الواضح أن القول غير الصحيح لا تثبت صحته لمجرَّد انتسابه إلى أحد العلماء الكبار! ولقد ذكرنا توضيحات كافية بشأن الآية الكريمة 124 من سورة البقرة، في كتابنا «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول»، (ص 384 إلى 389) فلا نفصل الكلام عليها هنا، ولكننا نُذَكِّر هنا بهذه النقطة الواضحة وهي أنَّ الصفة المضادَّة لصفة «الظالم» هي «العادل» لا «المعصوم»[583] (فلا تتجاهل).

وينبغي أن نعلم أن الذي يصدر عنه مرة واحدة أو مرات نادرة أمرٌ مخالفٌ للعدل لا يخرج عن صفة «العادل» [أي لا تُنتَقَضُ عدالته] وإلا للزم أن لا ينال كل من حضرة آدم (ع) (الأعراف: 19 إلى 23) وحضرة يونس (ع) (الأنبياء: 87 و88، والقلم: 49، والصافات: 142 و143) وحضرة موسى (ع) (القصص: 16) وحضرة داود (ع) (ص: 24- 25) وابنه حضرة سليمان (ع) (ص: 35) الذين احتاجوا على الأقل مرة واحدة إلى غفران الله وسألوه المغفرة؛ العهدَ الإلهي أو النبوة والإمامة.

وعلى القارئ بالطبع أن ينتبه جيداً ويعلم أنه رغم أن القرآن قال عن حضرة آدم (ع): ﴿وَعَصَىٰٓ ءَادَمُ رَبَّهُۥ فَغَوَىٰ ١٢١ [584][طه: ١٢١] وأن الأنبياء اعتبروا أن الخسران الأخروي هو النتيجة الحتمية لعصيان الله -هذا بالطبع إن لم يُعقبه الذي عصى بالتوبة وإصلاح العمل والاستغفار- (الأنعام ويونس: 15، وهود: 63)، ورغم أنهم اعتبروا أنفسهم «قد ظلموا» (الأعراف: 23، والأنبياء: 87) واستناداً إلى أن كلمة «الظالمين» جاءت في الآية 124 من سورة البقرة مطلقة غير مُقيّدة، رغم كل ذلك يُصرُّ الشيوخ بكل عناد ولجاجة -لأنهم يعلمون أن ملاحظة الأمور المذكورة أعلاه تُطيح بكل مغالطاتهم- يُصرُّون على أن المراد من الموارد المذكورة أعلاه ترك الأولى على أكثر حدّ!! هذا في حين أنه من الواضح تماماً أن أهل النار الذين يقولون: ﴿فَأَغۡوَيۡنَٰكُمۡ إِنَّا كُنَّا غَٰوِينَ ٣٢[الصافات : ٣٢]ليس مقصودهم أننا كنا نترك الأولى! (فلا تتجاهل). بناءً على ذلك فإن ترك الأولى ليس ضلالاً بل هو عدم التوفيق لاختيار الأفضل ومثل هذا الأمر لا يستوجب طبعاً الخسران الأخروي ولا العذاب الإلهي بل أكثر ما يستوجبه عدم الرقي في الدرجة.

آمل أن يكون هذا المقدار الذي عرضناه كافياً ليقظة القُرَّاء وأن لا أكون قد قصَّرْتُ في أداء واجبي في بيان هذا الأمر. ﴿رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلۡنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِۦۖ وَٱعۡفُ عَنَّا وَٱغۡفِرۡ لَنَا وَٱرۡحَمۡنَآ[البقرة: ٢٨٦]. آمين يا رب العالمين.

***

[566] كما جاء في حديث أَبُي الطُّفَيْلِ: عَامِرِ بْنِ وَاثِلَةَ قَالَ: "كُنْتُ عِنْدَ عَلِيٍّ بْنِ أَبِى طَالِبٍ (ع) فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: مَا كَانَ النَّبِيُّ ص يُسِرُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ فَغَضِبَ وَقَالَ: مَا كَانَ النَّبِيُّ ص يُسِرُّ إِلَيَّ شَيْئًا كَتَمَهُ النَّاسَ". (التاج الجامع للأصول، ج 3، ص 109، نقلاً عن صحيح مسلم). [567] علم پيامبر و امام در قرآن، [أي علم النبي والإمام في القرآن]، ص 13. [568] حول الآيات 94 و 105 من سورة التوبة، راجعوا كتاب «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول»، من الصفحات من 198 إلى 200. [569] الشيخ الطوسي، التبيان في تفسير القرآن، ج 5، ص 295. (الـمُتَرْجِمُ) [570] المصدر السابق نفسه. (الـمُتَرْجِمُ) [571] كالجماع والاغتسال ببدن عار والتخلي وكل عمل تظهر فيه عورة الإنسان مثلاً. (الـمُتَرْجِمُ) [572] تدل الآيات 44 إلى 46 من سورة القصص دلالة بيِّنة على كَذِب الأخبار الواردة في كتب الحديث والتي تقول إن حضرة محمد (ص) وحضرة علي بن أبي طالب (ص) كانا قبل الأنبياء ومع جميع الأنبياء، لأنه عندما لا يكون النبي محمد ص ذاته مع الأنبياء وفي زم الأنبياء السابقين ولا يكون له علم بهم ولا يطَّلع على أحوالهم إلى بعد أن تجاوز سنه الأربعين سنة وجاءه الوحي بأخبارهم من عند الله، فمن باب أولى أن لا يكون وصيه مع الأنبياء السابقين ولا يكون له علم بهم. [573] هذا بمعزل بالطبع عن أن في مثل هذه الآيات عِظة و عبرة لجميع المسلمين. [574] علم پيامبر و امام در قرآن، [أي علم النبي والإمام في القرآن]، ص 108 - 109. [575] انتبهوا إلى الآيات من 36 فما بعد من سورة القصص، وسائر الآيات التي تتحدث عن آل فرعون. [576] ونص الآية: ﴿وَجَٰهِدُواْ فِي ٱللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِۦۚ هُوَ ٱجۡتَبَىٰكُمۡ وَمَا جَعَلَ عَلَيۡكُمۡ فِي ٱلدِّينِ مِنۡ حَرَجٖۚ مِّلَّةَ أَبِيكُمۡ إِبۡرَٰهِيمَۚ هُوَ سَمَّىٰكُمُ ٱلۡمُسۡلِمِينَ مِن قَبۡلُ وَفِي هَٰذَا لِيَكُونَ ٱلرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيۡكُمۡ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِۚ فَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ وَٱعۡتَصِمُواْ بِٱللَّهِ هُوَ مَوۡلَىٰكُمۡۖ فَنِعۡمَ ٱلۡمَوۡلَىٰ وَنِعۡمَ ٱلنَّصِيرُ ٧٨[الحج: 78] (الـمُتَرْجِمُ) [577] راجعوا الحديث الذي ذكرناه في الصفحة 189 في الكتاب الحاضر. [578] من المفيد الانتباه إلى معنى كلمة «أمة» الذي أوضحناه قبل بضع صفحات (ص 327). [579] سبق أن أوضحنا قبل عدة صفحات المعنى المقصود من هذه الآية بالتفصيل، راجع ص420-421. [580] قال رسول الله ص: "سَيَأْتِيكُمْ قَوْمٌ مِنْ أقْطَار الأَرْضِ يَتفقَّهُونَ فَإذَا رَأَيْتُمُوهُمْ فاسْتَوْصُوا بِهِمْ خَيْراً" (المصنَّف، ج1، ص 53، وبحار الأنوار، ج1، ص 170). وجاء في رواية أخرى أنه ص قال: "سَيَأْتِيكُمْ أَقَوَامٌ يَطْلُبُونَ الْعِلْمَ فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمْ فَقُولُوا لَهُمْ مَرْحَباً بِوَصِيَّةِ رَسُولِ الله وَأَفْتُوهُمْ" وفي رواية أخرى: "فَرَحِّبُوا بِهِمْ وَحَيُّوهُمْ وَعَلِّمُوهُمْ" (كلاهما في سنن ابن ماجه، ج1، ص 90 - 91). وخاطب النبي ص أصحابه قائلاً: "إنّ النَّاسَ لَكمْ تَبَعٌ، وإن رِجالاً يأتونَكمْ مِنْ أقْطار الأَرْضِ يَتفقَّهُونَ في الدِّينِ فإذا أتَوْكُمْ فاسْتَوْصُوا بِهِمْ خَيْراً" (بحار الأنوار، ج2، ص 62، والتاج الجامع للأصول، ج1، ص 73). [581] يعني أن أمر الله تعالى بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والاعتصام بالله يناسب المؤمنين العاديين، أكثر مما يناسب أشخاصاً معصومين منصوبين مِنْ قِبَلِ اللهِ. (الـمُتَرْجِمُ) [582] ونص الآية: ﴿وَإِذِ ٱبۡتَلَىٰٓ إِبۡرَٰهِ‍ۧمَ رَبُّهُۥ بِكَلِمَٰتٖ فَأَتَمَّهُنَّۖ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامٗاۖ قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِيۖ قَالَ لَا يَنَالُ عَهۡدِي ٱلظَّٰلِمِينَ ١٢٤[البقرة: 124]. (الـمُتَرْجِمُ) [583] لا يخفى -كما قلنا ذلك مراراً - أن موضوع عصمة الأنبياء (ع) في تبليغ الشريعة الإلـهية وتعليمها للناس أمر يؤيده القرآن الكريم (الجن: 26 حتى 28، والأعلى: 6) وهو موضوع خارجٌ عن بحثنا تماماً. واختلافنا مع المتاجرين بالخرافات بشأن مسألة العصمة وعلم الغيب و...، خارج عن هذا الموضوع تماماً. على سبيل المثال عندما نرى أن القرآن ينسب إلى النبي النسيان (الكهف: 24 و61 و63 و73، وطه: 115) لا نسعى إلى تأويل ذلك بمعان أخرى باستخدام أنواع التلفيقات الباردة. كما أننا لا نقول بشأن آياتٍ مثل قوله تعالى ﴿وَٱسۡتَغۡفِرۡ لِذَنۢبِكَ وَلِلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتِۗ[محمد: 19] أو الآيات المشابهة [النساء: 106، وغافر: 55، والفتح: 2] أن الأنبياء -معاذ الله- يمكنهم أن يرتكبوا القتل والزنا والغدر والسرقة والقمار و ...!! حاشا وكلَّا، حاشا وكلَّا، حاشا وكلَّا، ويشهد الله أننا ننكر من أعماق قلوبنا الأساطير التي ذكرها المفسِّرون من أمثال الزمخشري أو الطبرسي أو الميبدي..... متأثرين بالإسرائيليات، عن حضرة داود (ع) وزوجة «أوريا» ولا نعتبر ذنب ذلك النبي الكريم - عليه آلاف التحية والثناء - سوى استعجاله في القضاء قبل سماعه كلام الطرف الآخر. ولكننا في الوقت ذاته لا نفسر قوله تعالى «ذَنْبِكَ» بـ «ذَنْبِ أمَّتِكَ» بل نقول لو أن الله أراد هذا المعنى فعلاً لعبَّر عنه بصورة أوضح، وكذلك كلمة «ذنب» لا نتنزل بها عن معناها الظاهر إلى معنى «ترك الأولى»، وفي الوقت ذاته الذي نقول فيه -وكفى بالله شهيداً- أن ذنوب أنبياء الله ليست من الكبائر، كما نرى مثلاً في سيرة النبيّ الأكرمصأنه لم يبرز عنه أيّ ذنب ذي أهمية، نقول اتِّباعاً للقرآن الكريم، دون أن نحمل القرآن على رأينا: إن ذنب النبيّ الناجم عن كونه بشراً كان صغيرةً لا تحتاج لمحوها إلا إلى الاستغفار (لأننا نرى أن الله تعالى أمر بالاستغفار منها) في حين أن ترك الأولى لا يستلزم الاستغفار بل يستلزم طلب التوفيق من الله، ولذلك نجد أن الله تعالى لم يأمر حضرة داود (ع) الذي لم يُصدر الحكم القضائي الأفضل بالاستغفار ولم يقل له: ﴿عَفَا ٱللَّهُ عَنكَ ...[التوبة: 43]، ولذلك نقول: إن ذنب النبيّ الأكرمصكان أيضاً استعجاله وقلة صبره إلى ما قبل فتح مكة. لقد كان رسول الله بشراً في نهاية الأمر وكان شديد الشوق وحريصاً على إيمان الناس إلى درجة أن الله تعالى قال له: ﴿فَلَعَلَّكَ بَٰخِعٞ نَّفۡسَكَ عَلَىٰٓ ءَاثَٰرِهِمۡ إِن لَّمۡ يُؤۡمِنُواْ بِهَٰذَا ٱلۡحَدِيثِ أَسَفًا ٦[الكهف: 6]، وقال له أيضاً: ﴿وَلَقَدۡ نَعۡلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدۡرُكَ بِمَا يَقُولُونَ ٩٧[الحجر: 97]. ولذلك دعاه مراراً وتكراراً إلى الصبر، وقال له مثلاً: ﴿فَٱصۡبِرۡ لِحُكۡمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ ٱلۡحُوتِ[القلم: 48]، وقال له كذلك: ﴿فَٱصۡبِرۡ إِنَّ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقّٞ وَٱسۡتَغۡفِرۡ لِذَنۢبِكَ وَسَبِّحۡ بِحَمۡدِ رَبِّكَ بِٱلۡعَشِيِّ وَٱلۡإِبۡكَٰرِ ٥٥[غافر: 55]، وقال له أيضاً: ﴿فَٱصۡبِرۡ إِنَّ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقّٞۖ وَلَا يَسۡتَخِفَّنَّكَ ٱلَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ ٦٠[الروم: 60]، وقال له كذلك: ﴿وَٱصۡبِرۡ وَمَا صَبۡرُكَ إِلَّا بِٱللَّهِۚ وَلَا تَحۡزَنۡ عَلَيۡهِمۡ وَلَا تَكُ فِي ضَيۡقٖ مِّمَّا يَمۡكُرُونَ ١٢٧[النحل: 127] وأمثال هذه الآيات. من البديهي أن الإنسان المبعوث ص كان يُبدي أحياناً قلة صبر واستعجال للنصر (البقرة: 214) ويشتكي (يوسف: 86) ولو قليلاً، ولذلك بعد «فتح مكة» ودخول الناس في دين الله أفواجاً، قال تعالى له استغفر على استعجالك وقلة صبرك. بناءً على ذلك يَتَبَـيَّنُ أن المُفسِّرين الذين قالوا: ما علاقة «الفتح» بالاستغفار؟ (سورة الفتح: 1 و 2) لم يتأمَّلوا جيداً في الآية ولم ينتبهوا إلى سورة «النصر» المباركة وإلا لو أنهم قارنوا سورة «النصر» بالآيتين 55 و77 من سورة غافر، والآية 3 من سورة الشعراء والآية 6 من سورة الكهف وسائر الآيات التي ذكرناها أعلاه لأمكنهم أن يُدركوا أنه بعد «النصر» الإلهي وحصول «الفتح» للمسلمين، أمر الله التواب بالاستغفار عن قلة الصبر. على كل حال، نحن نعتبر أن «ذنوب» الأنبياء هي بهذه الحدود فقط لا أكثر. أضف إلى ذلك أن العقل أيضاً يشهد أنه لو كانت إمكانية الذنب معدومة تماماً لدى إنسانٍ ما، أي أن الله خلقه معصوماً لا يمكنه أن يذنب، لَمَا كان له أيُّ فضل في عدم ارتكاب الذنوب ولَمَا استحقَّ الثواب، ولكان الذي حافظ على التقوى وهو غير معصوم أفضل منه، خاصةً أنه لو كان للأنبياء والأئمَّة تلك العصمة التي يدَّعيها الخرافيون لَمَا كان من المعقول أن يكونوا قدوةً وأُسوةً للناس العاديين، لأنه لا يُمكننا أن نقول للشخص الذي لم تُسْلَبْ منه القدرة على الذنب أو الخطأ، اتَّبع شخصاً قد سُلبت منه القدرة على الذنب والخطأ وتأسّى به في كل أفعاله، أو بعبارة أخرى لا يُمكننا أن نقول لمن له جسم وغريزة عليك أن تُقلِّد النور!! أضف إلى ذلك أنه لا بُدَّ من الإتيان بِدليلٍ من كتاب الله على عصمة الأنبياء خارج إطار تبليغ الدين وتعليم الشريعة، والحال أنه لا يوجد في القرآن هكذا دليل. للأسف! إن الشيوخ غالباً ما يسعون إلى الخلط بين موضوع «العصمة في تبليغ الدين وتعليم الشريعة» وموضوع «العصمة خارج تلك الأمور»!! [584] لقد ترجمنا الآية بالصورة المذكورة استناداً إلى ما جاء في الآيتين 19 و22 من سورة الأعراف. إذا تأملنا في الآية 19 عرفنا أنه لا يُمكن أن نقول إن حضرة آدم (ع) ترك الأولى أو ترك النصيحة لكن حوَّاء أذنبت!! أو مثل هذا الكلام الذي لا دليل صحيح عليه.