الفصل العاشر [من مفاتيح الجنان]: في زيارة أئمة سُرَّ من رأى عليهم السلام وأعمال السرداب الطاهر
كتب الشيخ عبَّاس القُمِّيّ في آداب السرداب أموراً تبعث على الأسف. لقد اخترعوا لهذا السرداب، الذي كان منزل حضرة العسكري (ع) قبل ألف ومئتي عام وتهدَّم بعد ذلك مراراً وجُدِّد بناؤه، إذنَ دخولٍ وآدابٍ وأدعيةً؟!! ولست أدري هل عملهم ذاك وليد الجهل أم ناتجٌ عن الفراغ والبطالة؟ إن قالوا: إن جدران السرداب وبابه تباركت بسبب مُلامستها لتُربة بدن الإمام فينبغي أن نُفهمهم أن ذلك الباب وتلك الجدران التي تباركت بذلك حسب قولكم قد زالت منذ مُدّة مديدة، ولكن الأهمّ من ذلك أن نسأل: هل علَّم رسول الله ص -الذي هو الجدُّ الكريم للأئمة جميعهم- أصحابه آداباً وأدعيةً خاصةً بجدران وباب منزله؟! فإن لم يفعل ذلك فلماذا زاد هؤلاء السادة هذه الآداب على الدين من عند أنفسهم؟! هل لتقبيل الجدران والباب وقراءة الأدعية عندها سبب سوى التملُّق الذي يُحبُّه السلاطين والجبابرة؟ ما أسوأها من خيالات واهية!
لو أردنا أن نستعرض الآداب التي اخترعها الخرافيون والغُلاة جملةً جملةً لاحتجنا إلى كتاب ضخم! لذلك سنكتفي بذكر بعض الجمل كنموذج كي يقف القارئ على جهل واضعي هذه الآداب أو مقدار علمهم.
يقول الشيخ عبَّاس: "روى الشيخ الجليل أحمد بن أبي طالب الطبرسي (رح) في كتابه الشريف «الاحتجاج» أنه خَرَجَ التَّوْقِيعُ مِنَ النَّاحِيَةِ الْمُقَدَّسَةِ حَرَسَهَا اللهُ إلى مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَعْفَرٍ الْحِمْيَرِيِّ .... الخ".
ونقول: أولاً: لم يُشاهد أحدٌ أحداً ساكناً في الناحية المُقدَّسة ولم يرَ خطَّ كتابته، فمن أين نعلم أن ما يُقال عن الناحية المُقدَّسة صحيح وصادق؟! أَفَلَا تَعْقِلُونَ؟
ثانياً: لم يكن محمد الْحِمْيَرِيِّ من النُّوَّاب الأربعة وبالطبع لا ينبغي أن يصل بواسطته شيء من ناحية إمام الزمان إلى الناس؟!
ثالثاً: عاش أحمد بن أبي طالب الطبرسي (مؤلف كتاب الاحتجاج) بعد خمسة قرون من عهد الْحِمْيَرِيِّ، ولا أحد يعلم الرواة الواسطة بينهما!!
رابعاً: والأهمُّ من كل ذلك ضرورة التأمل في متن هذا الخبر الذي صدر -حسب قولكم- من الناحية المُقدَّسة لنرى هل يتوافق مع العقل والقرآن أم لا.
جاء في هذه الرسالة: "..... إِذَا أَرَدْتُمُ التَّوَجُّهَ بِنَا إِلَى اللهِ وَإِلَيْنَا فَقُولُوا كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى : سَلَامٌ عَلَى آلِ يس. السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا دَاعِيَ الله ".
ينبغي أن نعلم -كما قلنا ذلك مراراً وتكراراً- أن الذي يريد التوجه إلى الله سبحانه وتعالى لا يحتاج أبداً إلى أيّ واسطة أو وسيلة[755] توصله إلى الله لأن الله ليس بعيداً عنا بل قريب منا وهو سميع وعالم بجميع الموجودات وبصير وخبير بنا، وأعلم بنا وبأحوالنا من أنفسنا وأقرب إلينا من حبل الوريد.
ثانياً: هذه العبارة التي تقول: "..... إِذَا أَرَدْتُمُ التَّوَجُّهَ بِنَا إِلَى اللهِ وَإِلَيْنَا " عبارة مهملة وخاصةً أن كلمة «وإلينا» لغو زائد هنا؛ لأننا عندما نجعل شخصاً ما وسيلةً لنا فسنكون مُتوجِّهين إليه بالضرورة. فهل يقول الإمام مثل هذا الكلام؟!
ثالثاً: جاء في العبارة: "فَقُولُوا كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: سَلَامٌ عَلَى آلِ يس " وفسَّرها بأن «آل يس» تعني آل رسول الله صالذين هم نحن!!
وهذا كذب وافتراء على الله تعالى وقد قال سبحانه: ﴿فَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّنِ ٱفۡتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبٗا لِّيُضِلَّ ٱلنَّاسَ بِغَيۡرِ عِلۡمٍۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّٰلِمِينَ ١٤٤﴾[الانعام: ١٤٤]. نعم، قال تعالى في كتابه بعد السلام على موسى وهارون: ﴿سَلَٰمٌ عَلَىٰٓ إِلۡ يَاسِينَ ١٣٠ إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجۡزِي ٱلۡمُحۡسِنِينَ ١٣١ إِنَّهُۥ مِنۡ عِبَادِنَا ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ١٣٢﴾[الصافات : ١٣٠، ١٣٢][756]، ولكن هذا الوضَّاع اعتبر «الألف واللام» في بداية كلمة «إِلْ يَاسِينَ» كلمة منفصلة وأضاف إلى ألفها مداً كي يصنع منها كلمة «آل» في حين أن الألف في كلمة «إِلْ يَاسِينَ» مكسورة واللام فيها أيضاً ساكنة، ولكن الوضَّاع الجاهل جعل اللام مكسورةً فتلاعب بآية من آيات القرآن بكل وقاحة!! لكنه غفل عن أن الله تعالى قال في الآية اللاحقة: ﴿إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الصافات: 132] أي أنه أتى بضمير المُفرد في حين أنه لو كان المقصود «آل» لوجب أن يكون الضمير ضمير جمع أي لوجب أن يقول تعالى: «إِنَّهُم مِنْ عِبَادِنَا » كما جاء بشأن «آل لوط» أو «آل فرعون» حيث كان الضمير الذي يرجع إليهم ضمير الجمع «إنهم» (فلا تتجاهل). فليت شعري! هل يعتبر واضعو الحديث التلاعب بآيات القرآن أمراً جائزاً؟!
ثم يقول: "السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا دَاعِيَ الله " وهذه كذبة أخرى. لأنه إن كان المقصود داعياً خاصاً عيَّنه الله ونصبه، ففي هذه الحالة لا يشمل هذا العنوان سوى رسول الله ص لا شخصاً آخر، كما قال تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِنَّآ أَرۡسَلۡنَٰكَ شَٰهِدٗا وَمُبَشِّرٗا وَنَذِيرٗا ٤٥ وَدَاعِيًا إِلَى ٱللَّهِ بِإِذۡنِهِۦ﴾[الاحزاب : ٤٥، ٤٦]، وكما أطلق الله تعالى على رسوله ص في الآيتين 31 و 32 من سورة الأحقاف لقب «داعي الله». أما إن لم يكن المقصود داعياً منصوباً في هذا المقام مِنْ قِبَلِ الله فعندئذ لابُدّ على جميع المؤمنين -طبقاً لأمر القرآن- أن يكونوا دُعاةً إلى الله وهذا المعنى لا يختصُّ بفرد دون الآخر، كما قال تعالى: ﴿وَلۡتَكُن مِّنكُمۡ أُمَّةٞ يَدۡعُونَ إِلَى ٱلۡخَيۡرِ وَيَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِۚ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ ١٠٤﴾[ال عمران: ١٠٤][757].
ثم يقول: "السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا بَابَ اللهِ وَدَيَّانَ دِينِه ". وهذا أيضاً كذب آخر لأن الله ليس له باب[758]، ولأن ديَّان الدين هو الله وحده، فهو وحده مالك يوم الدين، وهو الذي يُحدِّد جزاء كل إمام ومأموم.
ويقول كذلك: "السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا حُجَّةَ اللهِ وَدَلِيلَ إِرَادَتِه " وهنا ينبغي أن نسأل: أين اعتبر الله تعالى في كتابه الإمام حُجَّةً؟ وهل يوحَى إلى الإمام أو يُطلعه الله على إرادته حتى يكون دليل إرادة الله؟! للأسف لما رأى هؤلاء الوضَّاعون أن الشيعة يقبلون قبولاً أعمى كل ما تُلفِّقه أقلامهم قاموا بنسج ما أمكنهم من خرافات وإشاعتها بين الناس!
ثم أورد مؤلف المفاتيح تحت فقرة: «ذِكر الصلاة عليه» (ويقصد إمام الزمان) (ص 533)[759] دعاءً مروياً عن إمام الزمان يبتدئ بجملة: "اللَّهُمَّ عَظُمَ الْبَلَاءُ وَ بَرِحَ الْخَفَاء ......" ومضمونه -كما سبق أن ذكرنا في هذا الكتاب (ص 72 و73)- كُفرٌ وشركٌ ومُعارضٌ لآيات الله. ومع ذلك يقول الشيخ عبَّاس القُمِّيّ عن مثل هذا الدعاء الشركي: "أقول: هذا دعاء شريف وينبغي أن يُكرَّر الدعاء به في ذلك الحرم الشريف وفي غيره من الأماكن"!! نَعُوذُ بِاللهِ تَعَالَى مِنَ الضَّلَالَةِ.
نكتفي بهذا المقدار حول موضوع «الزيارة» ونأتي الآن للكلام على «دُعَاء النُّدْبَة».
[755] حول موضوع «الوسيلة» راجعوا ما ذكرناه في هذا الكتاب الحالي، ص 200 فما بعد. [756] إذا انتبهنا إلى الآية 123 من سورة الصافات علمنا أن اسم النبي المشار إليه بالسلام كان «إلياس» و«إلياسين» وذلك مثل اسمي «سيناء» و«سينين» اللذين يُشيران إلى جبل واحد أو «ميكائيل» و«ميكائين» أو «إسرائين» و «إسرائيل» وكلاهما اسم شخص واحد. وقد قال شاعر العرب: يقول أهل السوق لما جينا هذا وربُّ البيت إسرائينا ولا بُدّ من الانتباه بالطبع إلى أن وزن الآيات هنا كما هو في سورة التين، جاء بالياء والنون لذا تمّت الاستفادة من الاسم الثاني. [757] اعلم أن «مِنْ» في الآية المذكورة أعلاه «بيانية» وليست «تبعيضية». أولاً: لأن القرآن وصف من تنطبق عليهم هذه الآية بالمُفلحين ومن المعلوم أن الدين يريد فلاح جميع المؤمنين لا بعضهم. ومن اللازم أن نعلم بشأن هذه الآية أن كلام الله هنا أتى على منوال قولنا: «ليكن لي منك صديق» ومن ثَمَّ فإن أمر الله هنا أمر عام ويدل على ذلك قوله تعالى: ﴿وَٱلۡعَصۡرِ ١ إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ لَفِي خُسۡرٍ ٢ إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ وَتَوَاصَوۡاْ بِٱلۡحَقِّ وَتَوَاصَوۡاْ بِٱلصَّبۡرِ ٣﴾فالوصيَّة التي ذُكرت في آخر هذه السورة هي واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر ذاته. ويدل على ذلك أيضاً قوله -عزّ وجلّ-: ﴿لُعِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنۢ بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُۥدَ وَعِيسَى ٱبۡنِ مَرۡيَمَۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعۡتَدُونَ ٧٨ كَانُواْ لَا يَتَنَاهَوۡنَ عَن مُّنكَرٖ فَعَلُوهُۚ لَبِئۡسَ مَا كَانُواْ يَفۡعَلُونَ ٧٩﴾[المائدة: 78 ، 79]، فهذه الآية أيضاً شاهد على هذا المعنى لأن الله لم يقصّ علينا شيئاً من أخبار الأُمم الماضية إلا لأجل أن نعتبر بحالهم. وقد أشار [جلال الدين السيوطي] إلى اعتراضٍ على القول بأن واجب الأمر بالمعروف يقع على عاتق جميع المسلمين، ومفاد الاعتراض أن الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر يُشترط فيه معرفة المعروف والمُنكر، في حين أن كثيراً من الناس يعيشون في الجهل ولا يعرفون أحكام الله! لكن هذا الكلام لا ينطبق مع ما فرضه الله على كل مسلم من كسب العلم، والحكم الذي يجب حمل خطاب القرآن عليه هو أنه لا يجوز على المسلم أن يكون جاهلاً بفرائضه وأن المسلم مأمور بكسب العلم والتمييز بين المعروف والمُنكر، خاصةً أنه عندما تكون كلمة «المعروف» مُطلقةً يكون المُراد تلك الأمور التي يعرفها العقل السالم والطبع السليم، و «المُنكر» ضده أي ما يستقبحه العقل والطبع السليمين وليس من الضروري لمعرفة المعروف والمُنكر أن يقرأ المسلم حاشية ابن عابدين على «الدُّر المُختار» أو «فتح القدير» أو «المبسوط»! إن مُرشد المسلم الوحيد نحو معرفة المعروف والمُنكر -بشرط سلامة الفطرة- كتاب الله وسُنَّة رسوله التي نُقلت إلينا بطريق التواتر وبالعمل المُتَّصل منذ صدر الإسلام وحتى اليوم ولا يُمكن لأيّ مسلم أن يجهلها ولا يكون المسلم مسلماً ما لم يعلمها، بناءً على ذلك فالذين يُنكرون عمومية واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر ويمنعونها أجازوا في الحقيقة أن يبقى المسلم جاهلاً بتعاليم دينه إلى درجة لا يُميِّز فيها بين المعروف والمُنكر! مع أن مثل هذا الأمر لا يجوز شرعاً". (نقلاً عن الكتاب الشريف «الشيخ محمد عبده، مصلح بزرگ مصر» [الشيخ محمد عبده مصلح مصر الكبير] تأليف مصطفى الحسيني الطباطبائي، انتشارات قلم، ص 112 - 113). [758] حول موضوع نسبة الباب والبوَّاب لِـلَّهِ عزّ وجلّ يُراجَع كتاب «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول»، ص 285 و 316. [759] مفاتيح الجنان (النسخة المُعَرَّبَة)، ص 662 - 663. (الـمُتَرْجِمُ)