تعارض مفاتيح الجنان مع القرآن

فهرس الكتاب

الشبهة السادسة:

الشبهة السادسة:

40يسأل هذا الكاتب الشاب قائلاً:

"أليس الاستمداد من الأرواح في حال حياتها، كالاستمداد من النبيّ أثناء حياته الدنيوية أو الإمام أثناء حياته شركاً؟! أليس الاستمداد من العالم والطبيب والمُتخصِّص والمزارع والصانع شركاً؟ إن كان شركاً فلماذا تطلبون المدد والعون منهم؟ كفُّوا عن طلب المدد والعون في عالَم الطبيعة وفي الحياة الدنيا من أيّ شخص، وبالنتيجة موتوا بعد لحظات جميعاً وعودوا إلى ديار العَدم وموطنكم الأصلي!

وإن لم يكن ذلك الاستمداد شركاً فما الفرق بين الاستمداد من النبيّ أثناء حياته والاستمداد من روحه بعد وفاته؟! ما الفرق بين الاستمداد من الطبيب الجرّاح وطلب العون منه لإجراء عمليّة الزائدة الدوديّة والاستمداد من جبريل؟![285]

يقولون: هذه الأمور ليست شركاً وتلك شرك لأن أرواحهم غير مرئية ولا تظهر لنا، والخلاصة الاستمداد من الأسباب الطبيعية والمادية ليس شركاً ولكن الاستمداد من الأمور المعنوية والروحانية شرك، الاستمداد من المادة الكثيفة ليس شركاً، ولكن الاستمداد من النفوس العلية المُجرَّدة القدسية شركٌ!"[286].

41من الواضح تماماً من الجمل المذكورة أن هذا الكاتب الشاب لم يُدرك عقيدة المُوحِّدين أو أنه تجاهلها كي يستطيع أن يُخمد نار عصبيَّته وغضبه، وإلا فإن كلام المُوحِّدين وقولهم واضح جداً. إنهم -خلافاً لادِّعاء هذا الشاب- لا يقولون إن الاستمداد من الحيّ ليس شركاً والاستمداد من الميّت شركٌ، بل يقولون: إن الأصل في الموضوع الذي نحن فيه هو «طريقة الدعاء والاستمداد» وليس حياة المدعوِّ أو موته، بناءً على ذلك لو أننا دعونا شخصاً حيّاً على نحو غير مشروط وغير مُقيّد ويستلزم فرض صفات إلهية له نكون قد ارتكبنا الشرك قطعاً ويقيناً[287]. (فاسمع دون العصبية).

إضافةً إلى ذلك يقول المُوحِّدون: إن دعاء الميت ليس معقولاً وليس هناك ما يُبرِّر دعاء روح لا نملك القدرة على الاتِّصال بها لأننا بذلك نكون قد تركنا الله القريب المُجيب الرحيم والسميع البصير ودعونا روحاً لا نملك وسيلة الوصول إليها، ولهذا السبب يقول المُوحِّدون: إنه لا يجوز دعاء الأموات -ولو كانوا من الأنبياء والأولياء- والاستمداد منهم وذلك لأنهم في زمن حياتهم لم يكونوا أشخاصاً غير مُتحيِّزين في مكان ولا كانوا عالمين بما يجري في كل مكان ولا سميعين لكل الأصوات. وهم خلافاً للذات الإلهية الحاضرة الناظرة في كل مكان والبصيرة والسميعة بدون آلة والتي تختصُّ وحدها بهذه الصفة[288]، يُبصرون بأعينهم ويسمعون بآذانهم ويفقدون حواسَّهم وأعينهم وآذانهم بالموت، والأهمُّ من ذلك أنهم ينتقلون إلى عالَم آخر ولا تبقى لهم صلة بعالَمنا. في هذه الحالة لو دعوناهم -كما قلنا في هذا الكتاب ص 103و 106- فإننا نكون قد افترضنا -شئنا أم أبينا- صفات إلهية لهم.

من المفيد هنا أن أنقل بعض المطالب من الكتاب القيّم «أرمغان يزد» [أي هدية مدينة يزد] تأليف أخينا الفاضل جناب السيد «جلال جلالي قوچاني»[289]:

"لقد خلق الله تعالى وسائل وأسباباً طبيعية لتسيير حياة المجتمعات البشرية، وأمر الناس إما من خلال الإلهام والفطرة أو من خلال ما أنزله من شرائع، أن يستفيدوا من تلك الأسباب والوسائل عندما يحتاجون إليها وكلَّفهم أن يسعوا إلى تلبية طلباتهم وقضاء حاجاتهم من خلال طريقة مُعيَّنة ووسيلة محدّدة خاصَّةٍ بكل حاجة (أي بصورة مُقيّدة ومشروطة). كما قال تعالى: ﴿وَأۡتُواْ ٱلۡبُيُوتَ مِنۡ أَبۡوَٰبِهَا[البقرة: ١٨٩]. كناية عن أنه يجب الدخول في كل عمل من بابه. وقال رسول الله ص: «أبى الله أن تجري الأمور إلا بأسبابها».

بناءً على ذلك إذا مرض شخص فعليه أن يستفيد من تعليمات الطبيب ويأخذ ما يصفه له من دواء، كي تتحسَّن صحته بالإذن الإلهي العام. والذي يعطش عليه أن يشرب الماء والذي يجوع عليه أن يتناول الطعام والذي يريد الحصول على الحصاد عليه أن يبذر البذور في الأرض والذي يريد العزَّة عليه أن يكون قنوعاً والذي يطلب العلم الحقيقي عليه أن يُروِّض نفسه ويدرس ويتعلَّم وأن يحصل على رزقه من الطريق الحلال ومئات من أمثال هذه الأمور.

ويجب على المسلمين أن يُساعدوا بعضهم بعضاً في المصائب والمُلمَّات وأن يُعين بعضهم بعضاً عند الضرورة. في مثل هذه الموارد لا مانع من الاستفادة من الأسباب الطبيعية ومن الاستعانة بالأشخاص العاديين وهذا الاستمداد وهذه الاستعانة ليست شركاً وليس هذا فحسب بل هي واجب وفريضة دينية، فمثلاً إذا هجم حيوان مفترس على إنسان أو وقع سقف منزل فوق رأس إنسان أو وقع إنسان في وسط حفرة أو بئر وكان هناك على مسافة قريبة منه أشخاصاً غافلين عما حلّ به من مُصاب فيجب على الإنسان المُبتلى بحكم الشرع والعقل أن يستغيث بمن حوله ويطلب العون والمدد منهم كما يجب عليهم أن يغيثوه ويهبّوا إلى نجدته ويُعينوه على الخلاص مما فيه.

أحياناً لا تكون الاستعانة والاستغاثة ضرورية جداً فعندئذ لا تكون واجبةً وإن لم يكن في الاستعانة والاستغاثة في مثل هذه الحالة أيضاً أيُّ مذمَّة أو حرج. قال أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (ع): "مَنْ شَكَا الْحَاجَةَ إِلَى مُؤْمِنٍ فَكَأَنَّمَا شَكَاهَا إِلَى اللهِ وَمَنْ شَكَاهَا إِلَى كَافِرٍ فَكَأَنَّمَا شَكَا الله". (نهج البلاغة، قسم الكلمات القصار، رقم 467).

لا تُعتبر الاستعانة وطلب المدد من الأشخاص والتوسُّل بالأشياء لتحقيق المطلوب في الحالات التي يستعين فيها الإنسان بعوامل ظاهرية وطبيعية وعادية يُمكنه الوصول إليها، حراماً ولا شركاً، ولا علاقة لذلك بمضمون قوله تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَسۡتَعِينُ. بناءً على ذلك فما يقوله بعض الأشخاص الجاهلين أو المُتجاهلين في نقدهم لنا بأنه لو استعنَّا بالطبيب أو توقَّعنا من الدواء شفاء المريض أو نادينا ابننا أو أخينا أو جارنا المؤمن وطلبنا منه العون نكون قد أشركنا لأننا استعنَّا بغير الله، أو ما قاله المؤلف المحترم لكتاب «تفسير آية الكرسي»[290] مُنتقداً لنا بأنه لو وقع رجل في بئر أو سقط سقف المنزل على رأسه فمن الواجب عليه أن يستغيث بالناس ويطلب العون منهم، ولو بقي ساكتاً تحت الأنقاض أو في وسط البئر لكان مسؤولاً عن هلاك نفسه وآثماً لذلك؟ ليس له أيّ علاقة بموضوع نقاشنا، لأننا نحن أيضاً نقول: إنه يجب على الإنسان في كل تلك الحالات التي ذكروها أن يستعين بمن حوله وأن يطلب من الطبيب والدواء الشفاء وهذه الأعمال ليست شركاً بل هي واجبة على المسلم ولا تتنافى مع مضمون قوله تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَسۡتَعِينُ، وذلك لأننا لا نستعين بأولئك الأشخاص على نحو غير مُقيّد بشروط عالَم الطبيعة التي قرَّرها الله، بل لا نحتمل أصلاً أن يكون أولئك الذين نستعين بهم قادرين على فعل أمور فوق طبيعية وغير محدودة بحدود عالَم الطبيعة، والاستعانة بغير الله والاستغاثة به إنما تكون شركاً عندما تنقطع الأسباب ولا يكون في مقدور الإنسان الاستفادة من العوامل الظاهرية والأسباب الطبيعية التي جعلها الله تحت تصرُّف جميع البشر، أي عندما يُصبح الإنسان مضطرا[291]، كالذي يعطش وهو في بادية قفر أو في صحراء لوط، أو يمرض ولا تغْنِي عنه مراجعة الأطبَّاء، وكالذي انقطعت به السبُل ولم يُسعفه أيّ شيء من العوامل الطبيعية فلجأ إلى عالَم ما فوق الطبيعة أو عالَم الغيب، هنا يجب عليه أن يدعو الله وحده فقط وأن يستعين به وحده فقط، لا عندما يسقط في بئر ويكون حوله مئة شخص من معارفه وجيرانه يُمكنهم أن يهبّوا لإنقاذه، فكل إنسان يعلم أنه في الحالة الأخيرة يجب على الإنسان أن يصرخ ويستغيث كي يُخبر جميع من حوله ليأتوا لإنقاذه لأنه عندما تكون الأسباب الطبيعية الموهوبة من الله مُتاحة فإن الاستعانة بها أو توقع عونها لا يستلزم إضفاء أيّ صفات مطلقة على تلك الوسائط والأسباب المذكورة -والمقصود بالصفات المطلقة الصفات الخاصة بالحق تعالى-. أما لو فُقدت الأسباب الطبيعية أو كانت خارج متناول اليد ومع ذلك طلبنا المدد منها أو توقعنا عونها لنا نكون بذلك -علمنا أو لم نعلم وشئنا أم أبينا- قد أضفينا على تلك الوسائط واعتقدنا فيها امتلاك صفات مختصة بالله تعالى ومنحصرة به، أيّ أننا في الحقيقة نكون قد اعتبرنا تلك الوسائط معيناً بلا شرط ولا قيد تماماً كما نعتبر إعانة الحق تعالى لنا غير مشروطة ولا مُقيّدة بأيّ قيد من قيود قوانين الطبيعة. فمثلاً لو سقط سقف بيت على رأس صاحبه في مدينة مشهد فصرخ أهل البيت مُستنجدين بمن حولهم ممن يسكن على مسافة يُمكن لصوت الإنسان عادة أن يصلها فليس في عملهم هذا أيُّ علاقة بالشرك بل عملهم عمل مشروع تماماً لأن استمدادهم عمل عادي طبيعي وبعبارة أخرى هو استمداد محدود بقوانين عالَم الطبيعة ومُقيَّد بها، أما لو استعان أولئك الأشخاص ذاتهم بأبناء عماتهم وأحفاد أعمامهم الساكنين في «نيشابور»، كان ذلك شركاً قطعاً، أو لو استعانوا بالأفراد الموجودين حول منزلهم أنفسهم بمُناداتهم بصوت خافت لا يُمكن في الحالة الطبيعية أن يسمعه الموجودون في جوار ذلك البيت، أو لو توقع المصابون أن يتمكن الموجودون خارج المنزل المنهار من مساعدتهم دون أن يستفيدوا من أيِّ وسيلة كالمجارف والرافعات وغيرها ويُنقذوهم، يكونوا قد أشركوا قطعاً لأن هذا الأمر بحدِّ ذاته -أرادوا أو لم يُريدوا- اعترافٌ عمليٌّ بأن ما يقومون به ليس لغواً ولا باطلاً وأن أولئك الناس عندهم قدرةٌ على سماع صوتهم ولو كان خافتاً والقدرة على إمدادهم على نحو خارج عن قوانين الطبيعة أي أنهم يتوقعون أن يكون سمعهم غير مُقيَّد بفاصلة مكانية معيَّنة أو حدٍّ خاصٍّ من حدود قوة السمع، وأن مساعدتهم لا تستلزم الاستفادة من الوسائل الطبيعية! أو لو استعان مريض بطبيب يقف إلى جواره وطلب منه المداواة والشفاء لم يكن عمله هذه متعارضاً مع كونه إنساناً مُوحِّداً. أما لو استعان مريض في «طهران» بطبيب مقيم في «كرج» دون أن يتصل به هاتفياً أو لاسلكياً وتوقع أن يستطيع ذلك الشخص شفاءه دون معاينة ولا استخدام للطرق الطبية المعروفة يكون قد انحرف قطعاً عن صراط التوحيد المستقيم لأن إمداد جميع الموجودات -غير الله- في عالَم الطبيعة أو عالَم الشهادة، أو نفعهم أو ضرّهم، محدود ومُقيَّد بشروط عديدة.

والخلاصة أن الاستعانة بحدِّ ذاتها وتأمّل العون أو خوف الضرر من كائن ما ليس ملاكاً للشرك والتوحيد. بل الاستعانة والتأمّل من غير الله على نحو فوق طبيعي -وهو ما نُعبِّر عنه بعالَم الغيب- والاستعانة والأمل غير المُقيَّدين بأيّ شرط من شروط العالَم المادي (أي كيفية الدعاء والنداء والاستعانة والاستغاثة) هي ملاك الشرك والتوحيد، حتى لو تمَّت تلك الاستعانة والاستغاثة من غير الله أي من الملائكة أو الأنبياء العظام أو الأئمة وأولياء الله، لأن المعين غير المُقيَّد وغير المشروط هو صفة مختصة بالحق تبارك وتعالى وحده لا غير[292].

كتب هذا الأخ الكريم يقول: إن تأمّل آية ﴿إِيَّاكَ نَسۡتَعِينُ يُعطينا ثلاثة مفاهيم:

الأول: هو مفهوم «المُستعين» أي الأشخاص الذين يطلبون العون، وهم عباد الله الذين يستعينون به.

الثاني: مفهوم «المستعان به» أي الشخص الذي يتمُّ طلب العون منه وهو الله المُخاطَب بكلمة «إِيَّاكَ».

الثالث: مفهوم «وسيلة الاستعانة» أي العمل الذي يتمُّ القيام به ومن خلاله يُطلب العون من الله وذلك كالصلاة والصيام والجهاد والدعاء والصبر. فمثلاً في هذه الآية ذاتها من سورة الفاتحة «وسيلة الاستعانة» هي الصلاة ذاتها ودعاؤنا فيها وقولنا: ﴿ٱهۡدِنَا ٱلصِّرَٰطَ ٱلۡمُسۡتَقِيمَ ٦[الفاتحة: ٥، ٦]. و «المُستعان بهِ» هناالذي هو الله المُخاطَب بكلمة «إِيَّاكَ». ولما كان «المُستعان بهِ» هنا في موقع «المفعول به» وقُدِّم على الفعل والفاعل أي كلمة «نَسْتَعِينُ»، أفاد ذلك من الناحية اللغوية البيانية معنى الحصر والقصر، وانطلاقاً من تقدّم المفعول به على الفعل والفاعل الذي يُفيد الحصر، واستناداً إلى أن الاستعانة جاءت بعد إعلان انحصار العبادة بعبادة الله تعالى وحده «إِيَّاكَ نَعْبُدُ »، وكان ذكر الاستعانة هنا -كما قلنا- من باب ذكر الخاص بعد العام لذلك نستنتج أن الاستعانة التي يُعلِّمنا إيَّاها القرآن تُعتبر من أعلى مصاديق العبادة وأكثرها أهمّية، والاستعانة التي تُعتبر عبادة هي الاستعانة بلا قيد ولا شرط[293]. وخلاصة الكلام، أن معنى الآية هو أننا نعتبر الله وحده فقط «مُستعاناً به» بنحو غير مشروط وغير مُقيّد ونستعين به وحده على هذا النحو.

أما الوسيلة التي نستعين بواسطتها أي العمل أو الطريقة التي نطلب بواسطتها العون من الله فهو ما نُطلق عليه «وسيلة الاستعانة». ولـ«وسيلة الاستعانة» مصاديق عديدة في عالَم الخارج، فعندما يتوجّه العباد إلى الله ويستعينون به وحده ولا يستعينون بغيره، من الأفضل لهم أن لا يتوجّهوا إلى ساحته القُدسيّة بيد خالية بل ليكن بيدهم وسيلة وهي القيام بعمل صالح قبل أن يطلبوا حاجتهم من الله كأن يتصدقوا بمال أو يُصلّوا ركعتين[294] أو يدعوا بدعاء ما، أو يجعلوا الله ذاته «وسيلتهم المُستعان بها». وعندئذ يطلبون العون من حضرة «المُستعان بهِ» أي الله سبحانه وتعالى..... الخ.

ويُضيف هذا الفاضل المحترم قائلاً: "أحد علماء الشيعة الكبار لم يقبل بقصر «المُستعان بهِ» على الله وحده فقط في جميع الأمور، وقال: في العبادة فقط تكون الاستعانة مقصورة على الله ومحدودة به، وهذا عندما نقول: ﴿إِيَّاكَ نَعۡبُدُ

ومن الممكن أن يقول أهل التفويض: نحن مستقلون في العبادة ودليل هذا المُدَّعى آية ﴿إِيَّاكَ نَعۡبُدُ، فلرفع هذه الشبهة قال القرآن مباشرة: ﴿إِيَّاكَ نَسۡتَعِينُأي إننا نستعين بك ونطلب القوة منك على العبادة. والحاصل أن ذلك العالِم يُقرُّ بأن «المُستعان بهِ» هو الله وحده فقط ولكن ليس في جميع الحالات بل في رأيه إن قصر الاستعانة على الاستعانة بالله وحده هو في موضوع عبادته، أما في الأعمال الأخرى غير العبادة فيُمكن طلب العون من غير الله (من المخلوقات أو من الأفعال). وقد استدلَّ على ادِّعائه هذا بثلاثة آيات:

الأولى: ﴿وَٱسۡتَعِينُواْ بِٱلصَّبۡرِ وَٱلصَّلَوٰةِ[البقرة: ٤٥].

الثانية: ﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡبِرِّ وَٱلتَّقۡوَىٰ[المائ‍دة: ٢].

الثالثة: ﴿فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ[الكهف: ٩٥]وهو قول ذي القرنين الذي طلب العون من الناس. (نقلاً عن البيان في تفسير القرآن).

ينبغي أن ننتبه إلى أن هذا العالم المحترم لم يُفَرِّق بين عالَم الشهادة (أي عالَم الطبيعة) وعالَم الغيب (أي عالَم ما فوق الطبيعة) وخلط بين الاثنين، كما أنه غفل عن التفاوت والفرق بين الاستعانة المُقيَّدة والاستعانة غير المُقيَّدة وغير المشروطة التي هي من مصاديق العبادة، لأنه استند إلى آيات واستشهد بها رغم أن الآية الأولى لا تُفيده فيما يرمي إليه، والآيتان الثانية والثالثة أيضاً لا علاقة لهما ببحثنا ونقاشنا حول الاستعانة غير المُقيَّدة وغير المشروطة. لأن «الصبر والصلاة» في الآية الأولى من سنخ الأفعال وكل واحد منها «وسيلة استعانة» لا «مُستعانٌ بهِ» و «المفعول به» لفعل «اسْتَعينوا» هو الله[295]، ففي هذه الآية المستعان به هو الله والآية الكريمة تُؤيّد قولنا بأن المستعان به غير المُقيّد وغير المشروط هو الله وحده. وكما قلنا يُمكن أن تكون «وسيلة الاستعانة» أي وسيلة الذهاب نحو باب الله: إما أسماء الله وصفاته أو فعلٌ صالحٌ، وقد ذكرنا أن وسيلة الاستعانة في الاستعانة العبادية لا تنحصر بالله ولكنها وسيلة مشروطة وأحد شروطها إذن الله بها وسماحه لنا بها. لقد سمح الله تعالى ذاته لنا أن ندعوه مباشرة ونتضرَّع إليه ونستعين به مباشرة ومن دون واسطة فقال: ﴿أَنَّمَآ إِلَٰهُكُمۡ إِلَٰهٞ وَٰحِدٞ فَٱسۡتَقِيمُوٓاْ إِلَيۡهِ وَٱسۡتَغۡفِرُوهُۗ وَوَيۡلٞ لِّلۡمُشۡرِكِينَ ٦[فصلت: ٦]، وقال: ﴿ٱدۡعُونِيٓ أَسۡتَجِبۡ لَكُمۡ[غافر: ٦٠]، وقال﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌۖ أُجِيبُ دَعۡوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِ[البقرة: ١٨٦]والآن نقول: لو لم يأذن الله تعالى لنا بدعائه بصورة مباشرة وقال مثلاً لا تأتوا إليَّ مباشرة بل ارجعوا إلى الوسطاء والشفعاء الذين عيَّنتُهم لكم، في هذه الحالة لا يجوز لنا أن نُقبل على الله ونتوجّه إليه مباشرةً. أما موضوع أننا لا نستطيع أن نجعل أحداً غير الله «مُستعاناً بهِ» على نحو غير مشروط وغير مُقيّد ولو جعلنا أحداً غير الله «مُستعاناً بهِ» على نحو غير مشروط نكون قد اعتبرناه مثل الله، فمثلاً لو استغثنا بالجنِّ أو وطلبنا العون والمدد من الملائكة أو من الأنبياء العظام أو الأئمة ذوي المقام الرفيع أو..... على نحو غير مشروط، واعتقدنا أنه حتى استعانة الآخرين المُتزامنة مع استعانتنا من «المُستعان بهِ» ذاته، لا تمنع من استعانتنا به، فإن هذا العمل يدلُّ بنحو تلقائي -شعرنا أم لم نشعر- على أننا نعتبر إعانة «المُستعان بهِ» المذكور مثل إعانة الحق تبارك وتعالى أي مدداً وإعانةً مطلقة من كل قيد، أي أننا -نعوذ بالله- نكون قد جعلنا لِـلَّهِ شريكاً!!

ومن شروط الاستعانة الأخرى أن يكون «المُستعان بهِ» حيّاً مُدركاً زمن استعانتنا به. ومن الواضح تماماً أن الله وحده هو المُدرك والعليم والسميع والبصير والخبير في كل لحظة وآن ودون أيّ قيد أو شرط زماني أو مكاني، أما غير الله فلا يمتلك هذه الصفة على نحو مطلق غير محدود. وبالطبع لو كان النبيُّ أو الإمام حيّاً ودعاهما الداعي مُراعياً كل القيود والشروط كأن يكون بينه وبين النبيّ مسافة مُعيَّنة يُمكن من خلالها أن يسمع صوت الداعي، وأن يكون النبيُّ مُستيقظاً ولا يوجد آخرون يدعونه في الوقت ذاته وأن يسمح للداعي بأن يعرض عليه حاجته و..... في هذه الحالة لو طلبنا من النبيّ (أو الإمام) أن يجعل اللهَ بالنيابة عنا «مُستعاناً به» ويطلب حاجتنا منه ففي هذه الحالة نكون قد جعلنا النبيّ (أو الإمام) «مُستعاناً به» على نحو مُقيَّد ومشروط كي يجعل اللهَ تعالى لأجلنا «مُستعاناً به» على نحو مطلق ويطلب منه قضاء حاجتنا؛ لا يكون في مثل هذه الاستعانة أيُّ إشكال أو مانع شرعيّ. أما الآن وقد صار النبيُّ (أو الإمام) خارج متناول أيدينا -لأنه لم يعد في هذا العالَم الدنيوي ولم يعد يعيش حياة دنيوية بل انتقل إلى عالَم آخر وحياة أخروية- فلو دعونا النبيّ (أو الإمام) فانطلاقاً من أننا في هذه الحالة نكون مُعتقدين ضمنياً بأن من ندعوه مُجرَّد من أيّ حدود زمانية ومكانية لأننا نستطيع أن ندعوه متى شئنا في كل لحظة وفي أيّ مكان وزمان -في حين أنه في زمن الحياة الدنيوية لأولئك الأجلاء كنا لا ندعوهم إلا عندما نكون بقُربهم وعندما يكونون مُستيقظين ومُنتبهين لنا- نكون قد جعلنا النبيّ (أو الإمام) «مُستعاناً به» بدون أيّ قيد أو شرط[296]، في حين أننا نعلم أن «المُستعان به» المُجرَّد من كل قيد وشرط وكل حدٍّ من الحدود هو الله وحده فقط وهو وحده الذي يُمكن أن يكون «وسيلة الاستعانة» و «المُستعان به» في الوقت ذاته.

ينبغي أن ننتبه إلى أننا عندما ندعو الملائكة أو الأنبياء أو الأولياء للتقرُّب إلى الله أو لطلب المغفرة أو لنيل حاجة خاصة من حاجاتنا، لا يكون أولئك المدعوّون «وسيلة الاستعانة» بل «وسيلة الاستعانة» في هذه الحالة تكون دعاؤنا ونداؤنا ومُخاطبتنا لهم ويكونون هم «المُستعان به» بالنسبة إلينا! هذا في حين أن «وسائل الاستعانة» التي عرَّفنا القرآن عليها لم يكن أيُّ فرد من أفرادها شخصاً عاقلاً مُدركاً بل كانت تلك الوسائل من سنخ الأفعال والأعمال أي من سنخ المعاني، فمثلاً الذي يجعل وسيلة طلبه العون من الله أسماءَ الله وصفاتِه الحسنى فيذكرها في دعائه [سورة الأعراف: 180] أو يتصدَّق بماله أو يصوم أو يحُجّ ليستجلب رضا الحق تعالى ويتقرّب بذلك إليه، تكون أعماله هذه كلها «وسائل الاستعانة» وليست «المُستعان به».

أما الآية الثانية والثالثة فكلاهما يتعلّق بعالَم الشهادة (= عالَم الطبيعة) والمُخاطَب في الآية الثانية هم عامّة المؤمنين الذين يجب أن يُعينوا بعضهم بعضاً في أعمال البرِّ والتقوى (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى). من البديهي أن هذه الإعانة والتعاون مُقيّدة ومشروطة بعالَم الشهادة (= عالَم الطبيعة) ولا أحد من المؤمنين يتوقع من إخوانه إعانة فوق طبيعية وخارقة للعادة. وَمِنْ ثَمَّ فالآية الثانية لا علاقة لها بموضوع نقاشنا.

في الآية الثالثة التي طلب «ذو القَرْنَيْن» فيها المساعدة من الناس أي أن الناس كانوا هم «المُستعان به»، قد يتبادر إلى الذهن أن «المُستعان به» لا ينحصر بالله وحده؟ ولكن يجب أن ننتبه إلى أن الإعانة التي طُلبت في الآية تدخل ضمن مجال عالَم الشهادة (= عالَم الطبيعة) والمُخاطَبون بطلب العون هم المؤمنون، والآية لا علاقة لها بعالَم الغيب (فوق الطبيعة)، و «ذو القَرْنَيْن» طلب من الناس الحاضرين أمامه بصورة طبيعية أن يضعوا تحت تصرّفه قواهم طبقاً لإرشاده لهم ويتعاونوا معه ويخدموه، ولم يطلب منهم أيَّ شيء فوق طبيعي أو غير مُقيّد بقيود عالَم الطبيعة، فهذا لا يتنافى مع انحصار «المُستعان به» بالله وحده، لأننا كما قلنا عندما نطلب معونةً فوق طبيعية وغير مُقيَّدة ولا مشروطة ونكون مُضطرين وفاقدين لجميع الوسائل والأسباب ولهذا السبب نلجأ إلى عالَم الغيب، (وفي الواقع نتَّجِه إلى العبادة) يجب أن نستعين بالله وحده، وهنا يكون «المُستعان به» هو الله وحده لا غيره. ودليلنا على ما نقول -إضافة إلى آية ﴿إِيَّاكَ نَسۡتَعِينُ، آيات أخرى مثل: ﴿وَٱللَّهُ ٱلۡمُسۡتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ[يوسف: ١٨]، ففي هذه الآية كما نُلاحظ لما لم أُسقط بيد يعقوب (ع) ولم يعد له من وسيلة أمام أبنائه لمعرفة مصير ابنه يوسف جعل الله تعالى وحده «المُستعان به» في حين أنه لو كان يعلم أن ابنَه مرميٌّ في البئر لكان واجباً عليه عقلاً وشرعاً أن يُهرع كفرد مُتديِّن إلى إنقاذ ابنه من غياهب الجب.

وكذلك قوله تعالى: ﴿وَرَبُّنَا ٱلرَّحۡمَٰنُ ٱلۡمُسۡتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ ١١٢[الانبياء: ١١٢]، ففي هذه الآية لما شعر الأنبياء بعجزهم عن فعل أيِّ شيءٍ بصورة عادية وطبيعية لمُواجهة مُحاربيهم جعلوا اللهَ وحده «المُستعان به» لهم.

في الآيات المذكورة أعلاه كان «المُستعان به» خبراً، وعندما يأتي الخبر مُحلّى بالألف واللام يدل على معنى الحصر والعهد، ففي تلك الآيات الثلاث كلها لا بُدَّ من طلب كلِّ معونة غير مُقيَّدة وغير مشروط بشروط عالَم الطبيعة ومُرتبطة بعالَم الغيب (= عالَم فوق الطبيعة) من الله وحده فقط وبشكل مباشر لأنه هو فقط يكون «المُستعان به» في هذه الحالة[297].

أما «وسيلة الاستعانة» أو بعبارة أخرى وسيلة الذهاب إلى باب الله لطلب العون فينبغي أن تكون من سنخ الأفعال أو أسماء الله وصفاته. كما قال موسى (ع) لقومه: ﴿ٱسۡتَعِينُواْ بِٱللَّهِ[298][الاعراف: ١٢٨]. أو بالصوم والصدقة ومئات العبادات والأعمال الصالحة الأخرى، ولا يُمكن لأيِّ إنسان في هذه الحالة أن يكون «وسيلة الاستعانة»[299]. أما عندما نتوسَّل ونستعين بالأسباب المحدودة الظاهريَّة -أي بما هو داخل ضمن مجال عالَم الطبيعة الذي هو عالَم الحدود- فإننا مُجازون بالاستعانة بالناس كما قال القرآن الكريم: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ حَسۡبُكَ ٱللَّهُ وَمَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٦٤[الانفال: ٦٤]، فهنا الله «مُستعانٌ به» غير مُقيَّد وغير مشروط وإعانته مدد غيبيّ، والمؤمنون «مُستعانٌ به» مُقيَّد ومشروط ومدد ظاهريّ حصل على استطاعته من الله في حدود الإذن الإلهيّ العام. ". (إلى هنا انتهى كلام الجلالي).

النقطة المهمّة الأخرى التي ينبغي أن نُنبِّه إليها فيما يتعلّق بمُغالطة الخرافيين وخداعهم بشأن موضوع دعاء غير الله في الأمور العُرفية هي أن كل إنسان طالب للحق ومُنصف يُدرك الفرق بين الدعاء العُرفي والدعاء العبادي. كل إنسان يفهم بوضوح أنه عندما يُنادي طبيباً ويقول له: عالجني من ألمي هذا أو يقول للخبَّاز: أعطني خبزاً أو للصانع: أصلح سيارتي، لا يُقبِّل الباب والجدران عند وروده إلى عيادة الطبيب أو ورشة الصانع ولا يضع جبينه عليها ولا يقرأ صفحةً تتضمن نصّ زيارة خاصة ولا يطوف حول الطبيب أو الخبَّاز أو الصانع ولا يرجع إلى الوراء ووجهه مُتَّجه إلى الأمام لحظة الخروج من عندهم ولا يأخذ من غبار منضدة الطبيب أو ورشة الإصلاح حفنةً ليتبرَّك بها ولا يمسح بها رأسه ووجهه ولا يقول لشخص آخر يذهب إلى ذلك الطبيب أو الصانع: زر نيابةً عني، ولا يعتقد أنه إذا كان جُنُباً (أو كانت المرأة حائضاً) فلا يجوز له الذهاب إلى زيارتهم، ولا يعتبر أنهم يعلمون كل لغات العالَم ويفهمون أي لغةٍ يكلمهم بها الناس ولا أنهم يسمعون في آنٍ واحد أصوات ورغبات جميع من يرجع إليهم ويفهمونها. بل الكل يعلم أن الطبيب والخبّاز والصانع بشر محدودون وناقصون مثلهم مثل من يلجأ إليهم، ولو قصَّر الطبيب أو الخبَّاز أو الصانع في إجابة طلبهم غضبوا عليه أو تركوه وذهبوا إلى طبيب أو خبَّاز أو صانع آخر، كما أنهم يدعونهم من مسافة مُحدّدة ولو كانوا نائمين أو مرضى أو مشغولين مع شخص آخر لما دعوهم كما أنهم لا يعتبرونهم عالمين بما في ضميرهم كما لا يطلبون من الطبيب إصلاح السيارة ولا من الصانع علاج المرض لأنهم يعلمون أن الصانع لا يقدر على علاج المرض ولا الطبيب يستطيع على إصلاح السيارة، بل يعلمون أن الداعي وطالب العون نفسه لو درس الطبَّ لأصبح كالطبيب المدعوّ أو لو تعلَّم الصنعة لأصبح كالصانع المدعوّ. وفي الحقيقة لا يعتبرون أنهم يتمتعون بحالة خاصة وقدرة خاصة وهبهم الله إياها بل يعتبرون أن استطاعتهم محدودة بحدود الإذن الإلهي العام الذي يتمتع به جميع العباد ويؤمنون أن هناك تفاوت وفرق بين حالتهم أثناء حياتهم وحالتهم بعد موتهم. أما عندما يدعو الإنسان النبيّ أو الإمام أو حضرة مريم أو حضرة عيسى (ع) أو الملائكة و...... فلا يظنُّ فيهم مثل تلك الأمور ولا يُراعي في دعائهم أيَّاً من تلك الحالات المذكورة أعلاه[300]. (فَتَأَمَّل).

ولا ينحصر هذا الموضوع بالطبع بكون الله أو غير الله مُعيناً والفرق العظيم بينهما، بل يصدُق أيضاً في موارد أخرى، ولكن في الموارد الأخرى تفاوت المسألة واضح لجميع الناس وضوحاً تاماً، ولكن الخرافيين يُصوِّرون المسألة خداعاً للعوام وكأنهم لا يُدركون الفرق بين كون الله مُعيناً وكون غيره مُعيناً، في حين أن هذه المسألة أيضاً مثلها مثل سائر المسائل ومحكومة بالحكم ذاته، فمثلاً غير الله أيضاً سميع وبصير، أو بتصريح القرآن الكريم غير الله أيضاً مُحي ورؤوف ورحيم وخبير [سورة المائدة: 32، التوبة: 128، الفرقان: 59]، ولكن أين سمع الله وكونه خبيراً من سمع غير الله وكونه خبيراً؟!! غير الله سميع وخبير بشكل محدود وناقص، أما الله تعالى فهو سميع وخبير وبصير و...... بشكل كامل ومطلق وغير محدود. ولا يخفى على أيِّ عاقل هذا التفاوت بين الأمرين.

أحد المُدافعين عن الخرافات المُضلِّلين للعوام، رغم أنه لم يكن جاهلاً بأحوال المشركين في عصر الجاهلية وعقائدهم، بل بيَّنها في كتابه الموسوم بـ «راز بزرگ رسالت»[301] [أي سر الرسالة العظيم]، كتب في كتاب آخر له إضلالاً للناس يقول:

"كان الوثنيُّون طبقاً لصريح الآية الثالثة من سورة الزمر يعبدون الوسطاء إلى حدّ أنهم تركوا عبادة الله وأصبحوا لا يعبدون سوى الواسطة؛ في حين أن المُتوسِّلين بالمُقرَّبين من ساحة الله وذوي الجاه والمنزلة لديه يعبدون اللهَ وحدَه فقط ولا يعبدون غيره، ويعتبرون أولئك المُقَرَّبين عباداً صالحين لِـلَّهِ نالوا قُرباً ومنزلةً عظيمةً لديه نتيجة عبوديَّتهم الخالصة لِـلَّهِ لا أكثر من ذلك. في هذه الحالة فإن الآية تهدف إلى تحريم التقرُّب إلى الله من خلال «عبادة» أشخاص ومخلوقات خلقها الله لا التقرُّب إلى الله من خلال «تَوَسُّط» أولئك الصالحين أو مقامهم ومنزلتهم"!![302]

أولاً: استناداً إلى ما ذكره هذا المؤلِّف في كتابه «راز بزرگ رسالت» [سرّ الرسالة العظيم]، يتبيَّن أن قوله هنا: "كان الوثنيُّون يعبدون الوسطاء إلى حدّ أنهم تركوا عبادة الله وأصبحوا لا يعبدون سوى الواسطة" كَذِبٌ. كما أن القرآن -كما رأينا في الصفحات الماضية[303]- لا يدعم هذا الكلام. لقد ذمَّ القرآن الكريم المُشركين بسبب إخلاصهم الدين ودعائهم اللهَ وحدَه في حالة اليأس والاضطرار فقط، فإذا نجوا من تلك الحالة عادوا إلى الشرك بالله [سورة الأنعام: 40 و41 و 63 و64، الأعراف: 89 حتى 194، النحل: 53 و54، الإسراء: 67، العنكبوت: 65، الزمر: 8]. في الواقع كان الإشكال في عمل المشركين هو أدائهم الأعمال العبادية لغير الله أيضاً لا أنهم كانوا لا يعبدون الله. ولهذا السبب أُطلق عليهم «المشركون» أي أنهم يعتبرون غير الله مشاركاً أو شريكاً لِـلَّهِ في الأعمال العبادية وفي اتِّصافه بصفات الله.

ثانياً: يجب على المُتوسِّلين -حسب قولكم- وهم في رأينا مسلمون جاهلون بالقرآن، أن يعلموا أن للشرك والتوحيد من وجهة نظر القرآن -كما أوضحنا سابقاً[304]-معنى أوسع بكثير مما يقوله الخرافيون، ومن أبرز نماذج الإشراك بالله الاعتقاد بصفات إلهية ولا محدودة لكائن غير الله أو القيام بعمل يستلزم حُكْماً مثل هذا الاعتقاد بحق كائن غير الله.

بناءً على ذلك لو أن العوام خُدعوا بأقوال أمثال هذا الكاتب المُخادع واقتنعوا بقوله: "المُتوسِّلون.... يعبدون الله وحده فقط ولا يعبدون غيره، ويعتبرون غير الله عباداً صالحين لِـلَّهِ نالوا قُرباً ومنزلةً عظيمةً لديه لا أكثر..."، فإن هذا لن يكون كافياً لنجاتهم من الشرك بل عليهم أن يُراقبوا أنفسهم فلا يقوموا بأعمال تجاه أولئك العباد الصالحين الكرام تستلزم -شعروا أم لم يشعروا- فرض صفات غير مُقيَّدة ولا محدودة لهم، ولا يعتقدوا في قلوبهم بمثل هذه الصفات في حق أولئك الصالحين الأعزَّاء. (فَتَأَمَّل جداً)

إضافةً إلى ذلك، فإن عبارة «مِنْ دُونِ الله» شاملة وعامة وتشمل الأصنام وغير الأصنام -بما في ذلك عباد الله الصالحين- ولا دليل لدينا على أن القرآن منع اعتبار الأصنام فقط مُقرِّبةً إلى الله وسمح لنا أن نجعل عباد الله الصالحين «مُقَرِّبين» أو «مُستعاناً بهم» دون أيَّ قيد أو شرط، خاصةً أننا نعلم أن المشركين لم يكونوا يعتبرون الأخشاب والأحجار بحدِّ ذاتها مُقرِّبةً إلى الله بل الأشخاص الذين تُمثِّلهم تلك التماثيل هي التي كانوا يعتبرونها تُقرِّبهم إلى الله وشفيعةً لهم عند الله[305]. ولكن للأسف كَتَمَ الكاتب المُتعصِّبُ هذه الحقائق هنا!! رغم أنه قرأ كتاب «الأصنام» للكلبي وعرف أن المشركين كانوا يطوفون حول أصنامهم وشُفعائهم وينذرون لهم النذور ويذبحون باسمهم ولأجلهم الأضاحي ويحلفون بأسمائهم، ومسلمو زماننا أيضاً ينذرون لعباد الله الصالحين وكما يُقال يبسطون الموائد باسمهم ولأجلهم، ويحلفون بأسمائهم، ويطوفون حول قبورهم كي يتوسطوا لهم عند الله ويشفعوا لهم عنده!! بناءً على ذلك فإن موضوع بحثنا مع الذين يتَّخذون الوسائط يدور حول طريقة «التوسُّط» لأن كثيراً من اتِّخاذ الوسائط -كما لاحظنا في الصفحات السابقة- من مصاديق الشرك. (فَتَأَمَّل)

ويقول ذلك الكاتب نفسه [أي الشيخ جعفر السُّبْحاني]:

"في موضوع «التقرُّب» لا بُدَّ من ثلاثة أمور: 1- المُتَقَرِّبُ. 2- المُتَقَرَّبُ إليه. 3- المُقَرِّبُ أو وسيلةُ التقرُّب. فالمُتَقَرِّبُ: هو عابد الصنم. والمُتَقَرَّبُ إليه: هو الله. و وسيلةُ التقرُّبِ: هي القيام بعبادة عباد الله. مثل هذا التوسيط والتوسُّل الذي تكون وسيلة التقرُّب فيه هي عبادة غير الله: حَرَامٌ.

في هذه الحالة ما علاقة مفاد الآية الثالثة من سورة الزمر بموضوع بحثنا الذي هو التوسُّل بالصالحين، حيث لا يعبد المُتوسِّلون أحداً سوى الله[306]، وبدلاً من التقرُّب إلى الله من خلال عبادة غير الله، يتقرَّبون إليه من خلال توسيط الصالحين، وتوسيط مقامهم ومنزلتهم"؟!!! [307]

أولاً: كما لاحظتم في الصفحات الماضية لم يكن المشركون يفعلون شيئاً سوى ذلك، وطبقاً لتصريح القرآن كان هدفهم من الأعمال التي يقومون بها تجاه معبوداتهم هو «التقرُّب إلى اللهِ زُلْفَى» من خلال وساطة تلك المعبودات لهم عند الله وشفاعتها لهم عنده. ولم يكن المشركون -كما بيَّنا مراراً وتكراراً- يعبدون الأخشاب والأحجار والمعادن بحدِّ ذاتها بل كانوا يعتبرون أوثانهم تماثيل ومُذكِّرةً بعباد الله الصالحين أو بالملائكة وَمَظْهَرَاً لها.

ثانياً: ينبغي أن ننتبه إلى أن نقاش الموحدين معكم هو أيضاً حول أنه لا بد أن تكون «وسيلة الاستعانة» أو «وسيلة التقرُّب» أو ما أطلقتم عليه «المُقَرِّب» قد عيَّنه الله تعالى ذاته لنا وسمح لنا باتِّخاذه وسيلةً وعرَّفَنَا في كتابه بأنه وسيلةٌ تُقَرِّبُنا إليه. ولهذا السبب رَفَضَ اللهُ تعالى في القرآن الكريم وجود الوسائط والشفعاء الذين يسعى الناس إلى الحصول على شفاعتهم من خلال القيام بأعمال تستلزم افتراض صفات غير مقيَّدة ولا محدودة لهم[308]، واعتبر ذلك شركاً. سورة يونس: 18][309].

ثالثاً: خصوصية «مَا لَا يَضُرُّهُمۡ وَلَا يَنفَعُهُمۡ» التي أثبتها القرآن للشفعاء والمعبودات التي كان يعبدها المشركون، أثبت مثلها تماماً للرسول الأكرم ص حين أمره تعالى أن يقول: ﴿قُل لَّآ أَمۡلِكُ لِنَفۡسِي نَفۡعٗا وَلَا ضَرًّا[الاعراف:١٨٨، یونس 49]، كما قال للنصارى عن عيسى بن مريم (ع) أنه: ﴿لَا يَمۡلِكُ لَكُمۡ ضَرّٗا وَلَا نَفۡعٗا[المائ‍دة: ٧٦].

والكذب الآخر الذي ارتكبه الكاتب قولُه:

"إن المشركين كانوا يعتبرون أوثانهم مؤثرة في الكون على نحو مُستقل عن الله وذات تصرُّف مُستقل بشكل كامل في تدبير العالَم ومالكة لمقام الشفاعة..... في حين أن الإنسان المُوحِّد لا يعتقد أبداً بمثل هذه العقيدة في حق الصالحين"[310].

ونقول:

أولاً: لم يكن المشركون -كما أوضحنا من قبل (ص 124)- يعتبرون معبوداتهم مؤثرة مستقلة عن الله ولا مُتصرِّفة مستقلة بشكل مطلق في العالَم ولا كانوا يعتبرونها مالكةً لمقام الشفاعة المستقلة، ولا مالكةً للشفاعة، بل كانوا يُؤدُّون لمعبوداتهم ولتماثيل تلك المعبودات أعمالاً عبادية (كالطواف والنذر و.....) على أمل أن تشفع لهم تلك المعبودات عند الله، وفي الحقيقة كان الباعثُ والدافعُ لهم لأداء الأعمال العبادية لغير الله أملَهم بأن تشفع لهم تلك الشخصيات (الملائكة أو غيرها) عند الله.

ثانياً: إن كل عاقل ومُنصف يُدرك بوضوح أن الشفاعة في جوهرها عمل ارتباطيّ يحتاج إلى التعلّق بذات هي المشفوع عنده، أي أن أحد طرفي الشفاعة هو الله دائماً، والشفيع يطلب من الله الغفران للمشفوع له. ولذلك فليست الشفاعة مثل صفة الخلق والرزق و...... التي يُمكن لشخص أن يقول بشأنها: إن فلان يخلق كما يخلقُ الله أو فلانا يرزق كما يرزق الله وهكذا......، ولكن لا يمكن القول بشأن الشفاعة: إن المشركين كانوا يعتقدون أن أوثانهم تملك الشفاعة مثلما يملكها الله! (فَتَأَمَّل).

أضف إلى ذلك أن المشركين -كما مرَّ معنا في الصفحات الماضية (ص 96، 128، 146)- لم يكونوا يدَّعون بأيِّ وجه من الوجوه أن معبوداتهم لا تحتاج للحصول على الإذن بالشفاعة من الله بل تقدر على الشفاعة بشكل مستقل!! بل كان الإشكال في عملهم أنهم يُؤَدُّون الأعمال العبادية لها دون دليل شرعي صحيح ويدَّعون أن الله إذِنَ لهم بذلك! وإلا فإنهم كانوا يعتبرون الله خالق العالَم ومُدبِّره ومُحيي المخلوقات ومُميتها و.....، كل ما في الأمر أنهم كانوا يعتقدون أن معبوداتهم تتوسط لهم عند الله وتشفع لهم عنده [سورة يونس: 18] كي يعفوَ اللهُ عنهم أو يُنعمَ عليهم بما يطلبونه، وكان المشركون أنفسهم يعترفون أن الأعمال العبادية التي يُؤدُّونها للأصنام إنما يُؤدُّونها لكي تُقرِّبهم من الله وتجلب لهم رضا الله عنهم وإنعام الله عليهم. [سورة الزمر: 3].

وكانت اعتراض رسول الله ص على المشركين يتلخَّص بقوله لهم إن الشفاعة هي لِـلَّهِ وحده، وإن الله هو الذي ينبغي أن يأذن لشخص بالشفاعة ويُعلمه بذلك ويأمره أن يشفع للعبد الفلاني. فخطؤكم أيها المشركون أنكم اعتقدتم بشفعاء لم يأذن الله لهم بالشفاعة لكم، ولم يعلمهم بأمره بالشفاعة لمن يستشفع بهم. وكذلك يظن مسلمو زماننا في بعض الأشخاص أنهم شفعاء لهم دون أن يمتلكوا أيَّ دليل شرعي صحيح ومُتقن على كونهم شفعاء لهم، هذا إضافةً إلى إضفائهم صفات غير محدودة علي أولئك الشفعاء وأدائهم الأعمال العبادية لهم كطوافهم مثلاً حول قبورهم، ونذرهم الشموع لقبورهم والحلف بأسمائهم وطلب الحاجات منهم على نحو غير مُقيَّد بقوانين الطبيعة وطلب الشفاعة منهم......الخ، ورغم أن الكاتب المُتعصّب لا يُنكر أن أقلية من أهل الجزيرة العربية على الأقل كانت في الجاهلية تعبد الملائكة أو المسيح (أي تؤدي لهم أعمالاً عباديةً) إلا أنه تحجَّج قائلاً:

"لم يثبت أن عبادة المسيحيين للمسيح هي لأجل أن يتقرَّبوا بواسطته إلى الله ، لأنه يعتبرون المسيحَ: اللهَ أو جزءاً من الله، ولا يعتبرونه كائناً منفصلاً عن الله حتى تُطرح قضية التقرّب بواسطته إلى الله"!![311]

هذا في حين أنه يعلم أن القرآن الكريم قال إن الله تعالى سيقول لعيسى (ع) يوم القيامة: ﴿وَإِذۡ قَالَ ٱللَّهُ يَٰعِيسَى ٱبۡنَ مَرۡيَمَ ءَأَنتَ قُلۡتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيۡنِ [= معبودَين اثنين] مِن دُونِ ٱللَّهِ[المائ‍دة: ١١٦]وأن المسيح سيُجيب بأنه: ﴿مَا قُلۡتُ لَهُمۡ إِلَّا مَآ أَمَرۡتَنِي بِهِۦٓ أَنِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمۡ[المائ‍دة: ١١٧]. فَعُلِـمَ أن المسحيين الذين لم يكونوا يعتبرون حضرة مريم (ع) جزءاً من الله كانوا يُؤدُّون أعمالاً تجاهها اعتبرها الله عبادةً منهم لها واعتبر أنهم اتَّخذوها إلهاً أيضاً.

ولقد سبق أن قلتُ قبل سنوات عديدة من تأليف هذا الكاتب اللجوج لكتابه «التوسل والاستمداد من الأرواح المقدسة» في تفسيري «تابشى از قرآن» [شعاع من القرآن]، ذيل الآية 116 من سورة المائدة أن بعض الكُتَّاب اعترضوا بأنه لم يعتبر أحد حضرة عيسى وأمَّه إلهين حتى يقول الله يوم القيامة مُعاتباً: ءَأَنتَ قُلۡتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيۡنِ [= معبودَين اثنين] مِن دُونِ ٱللَّهِ[المائ‍دة: ١١٦](وقوله: إلهين، أي مرجعين في حوائجكم).

وقلت: إن هذا الإشكال ناشئ من تصوّر أن كلمة «إلهين» تعني: «اللهين» أي من تصوّر أن «إله» تعني «الله»! وغَفَلَ صاحب هذا الإشكال أو تغافل عن أن «إله» لا تعني «الله»، بل هي أعمُّ من ذلك وهي مشتقة من مادة «أَلِهَ يَأْلَهُ » التي تعني: «مَنْ يُقْصَدْ إِلَيْهِ فِي الْحَوَائِج » وتأتي بمعنى مُطلق «المعبود». فالإله معناه «المألوه» (اسم مفعول) وهي كلمة قابلة للجمع وجمعها «آلهة»، في حين أن «الله» لا جمع لها. ولا شك في أن النصارى كانوا يتوجَّهون في قضاء حوائجهم وفي الشدائد والمُلمَّات نحو عيسى ومريم المُتخيَّلين في ذهنهم ويدعونهما بصورة غير مشروطة ولا مُقيَّدة. ألا ترى أن النصارى في جميع الكنائس والمستشفيات في أمريكا وأوربا يطلبون من هاتين الشخصيتين الجليلتين شفاء المرضى دون أيّ حدود أو قيود؟ (وهذا يُشْبِه ما يفعله مسلمو زماننا تجاه حضرة الزهراء أو حضرة الإمام الرضا (ع)) ويخضعون ويتذلَّلون أمام تمثاليهما وصورهما؟!

42ويتشبَّث كثير من الكُتَّاب الخرافيين لخداع العوام بقضيَّة هي التالية:

«إِنَّ عُمَرَ بن الْخطابِ كَانَ إِذا قحطوا استسقى بِالْعَبَّاسِ بن عبد الْمطلب، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّا كُنَّا نتوسَّل إِلَيْك بِنَبِيِّنَا فَتُسْقِينَا، وَإِنَّا نتوسل إِلَيْك بعمِّ نَبِيِّنَا فاسقنا، فَيُسْقَوْن». (صحيح البخاري، ج 2، باب صلاة الاستسقاء). وهذا الحديث أحد الدلائل على التوسُّل بالأفراد المُقرَّبين من الله"[312].

ونحن أيضاً نُذكِّر بأن الشيخ الصدوق روى هذا الخبر الذي يُفيد أن عمر كان يخرج مع العباس لأجل الاستسقاء[313]. ورُويت هذه الواقعة أيضاً في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، ج 2، ص 256.

اللهم إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنَ العَصَبِيَّة. حقاً إنه مما يُثير العجب الأعمال التي يقوم بها العلماء المُتعصّبون أو المسترزقون بالدين لخداع العامة! فتراهم مُستعدُّون لجعل الليل نهاراً كي يصلوا إلى مرادهم!! رغم أن الحديث المذكور أعلاه ليس في صالح ما يدَّعونه إطلاقاً رغم ذلك لا يتورَّعون عن الاستناد إليه وتصوير دلالته بشكل مقلوب رأساً على عقب:

أولاً: لا يوجد في القرآن الكريم أدنى دليل على التوسُّل بروح نبيّ بعد وفاته، أو أن الأنبياء بعد وفاتهم يبقون على اتصال بهذه الدنيا وارتباط بأهلها.

ثانياً: من هذا الخبر يتضح تماماً أن المسلمين في صدر الإسلام كانوا يفرِّقون بين الحيّ والميِّت -حتى لو كان نبيَّ الله- ولذلك لم يتوسَّلوا بروح رسول الله ص بعد وفاته ورحيله عن الدنيا ولم يُخاطبوه[314]، ورغم أن عُمَر وأصحابه كانوا في المدينة إلا أنهم -كما يدل على ذلك نصُّ الحديث بوضوح- دعوا الله تعالى مباشرةً بدلاً من أن يذهبوا إلى قبر النبيّ الكريم ويُخاطبوه. (فَتَأَمَّل جداً).

ثالثاً: لم يدعُ عمر جناب العباس من مسافة عدّة كيلومترات بل دعاه من مسافة متعارف عليها وأتى به معه إلى المُصلّى. (فَتَأَمَّل)

رابعاً: عمل عمر في هذه الحادثة بالطريقة ذاتها التي ذكرها فقهاء الإسلام -على حدِّ قول الشيخ سبحاني- الذين قالوا: يُستحبُّ في صلاة الاستسقاء: الصوم والسير بتواضع وخشوع، واصطحاب الأطفال والشيوخ الهرمين والعجائز إلى صلاة الاستسقاء لاستجلاب رحمة الله بأكبر قدر ممكن[315].

بناءً على ذلك فقد قام عمر وأصحابه بعد اصطحابهم عمّ النبيّ لأداء صلاة الاستسقاء بدعاء الله وكان قصدهم أن يقولوا: اللهم لما كان نبيُّنا بيننا كنا نطلب منك الغيث ببركة حضوره بيننا، أما الآن وقد حُرمنا من حضور النبيّ بيننا، فإن عمّ النبيّ -وكان حينها شيخاً مُسنّاً- بيننا فارحمنا لأجله وأنزل علينا الغيث. ومن البديهي أنه لا مانع من ذكر الصالحين المُسنِّين أو الأطفال الأبرياء المعصومين عند التوجّه إلى الله بالدعاء والضراعة استجلاباً لرحمته، وأن نسأل الله أن يرحمنا لأجلهم أو أن نطلب من الصالحين أن يدعوا الله لنا. وهذا الأمر خارج عن موضوع بحثنا تماماً[316].إن موضوع بحثنا يتعلّق بأنه هل يجوز شرعاً أن نتوسّل بالأرواح الطيبة للأنبياء والأولياء ونعتبرهم قادرين على سماع أدعيتنا وأن نطلب منهم أن يتوسطوا بيننا وبين الله ويشفعوا لنا عنده؟![317].

43خامساً: يا مُدَّعي اتِّباع أهل البيت، لو تمسَّكتم هنا بعمل عُمَر -الذي لا يُؤيّد ادِّعاءكم بأيّ وجه من الوجوه- فلماذا لا تذكرون كلام الإمام الباقر (ع) الذي روى عن جدّه عَلِيٍّ (ع) أنه قال: "كَانَ فِي الْأَرْضِ أَمَانَانِ مِنْ عَذَابِ اللهِ، وَقَدْ رُفِعَ أَحَدُهُمَا فَدُونَكُمُ الْآخَرَ فَتَمَسَّكُوا بِهِ: أَمَّا الْأَمَانُ الَّذِي رُفِعَ فَهُوَ رَسُولُ اللهِ ص وَأَمَّا الْأَمَانُ الْبَاقِي فَالِاسْتِغْفَارُ. قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمۡ وَأَنتَ فِيهِمۡۚ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ مُعَذِّبَهُمۡ وَهُمۡ يَسۡتَغۡفِرُونَ ٣٣[الانفال: ٣٣]". (نهج البلاغة، الحكمة رقم 88).

كما نلاحظ يُصرَّح عَلِيٌّ (ع) أن الرسول الأكرم ص -وجميع الأنبياء- لم يعد بيننا بعد رحيله عن الدنيا. فبأيّ دليل تقولون: إننا نستطيع الوصول إلى الأنبياء والأئمة والتحدث إليهم بعد انتقالهم عن الدنيا؟ لو كان التوسّل بالنبيّ بعد وفاته جائزاً وسبباً لدفع العذاب وجلب الخير لقال أمير المؤمنين (ع): توسلوا بروح نبيّكم فهو بينكم وهو أمان من عذاب الله.

يتشبَّثون المُسترزقون بالدين بالطبع، لخشيتهم من خُلوِّ المزارات وكساد دُكَّانهم، بأنواع الحيل. ومن جملتها أنهم عندما يعجزون عن إثبات الولاية التكوينية للأنبياء والأئمة يقولون: حتى لو لم يُعطَ الأنبياء والأولياء القدرة على صُنع المعجزات والخوارق ورفع مشكلات الناس وشفاء المرضى ودفع الشرّ عنهم، فإنهم ببركة مقامهم الرفيع والعالي عند الله، مُطَّلعون على أدعية الناس وطلباتهم أو يقولون: إن الملائكة توصل إليهم أدعية الناس وطلباتهم، وَمِنْ ثَمَّ فإن زيارة قبورهم والطواف حولها تهدف إلى التقرُّب من الله وطلب الشفاعة منهم فليس دعاؤهم من الأماكن البعيدة والقريبة والنذر لأولئك الأجلاء الكرام والتبرّك بأضرحتهم عملاً عبثياً!!

لكن ادِّعاءهم هذا لا دليل عليه ولا يُؤيّده القرآن. فالملائكة لا تنزل وتعرج بناءً على رغباتنا [مريم: 64، الأنبياء: 27 و28][318] حتى يكون من الواجب عليهم أن يوصلوا رسالتنا وكلامنا إلى النبيّ أو الإمام كلما دعونا النبيَّ أو أحدَ الأئمَّة في جوار قبورهم أو من مكان بعيد!! وليت شعري! أين ذَكَرَ اللهُ في القرآن أنه بعد وفاة الأنبياء والأولياء، خصَّصَ اللهُ ملائكةً وظيفتها إيصال أخبار الناس وأدعيتهم ونداءاتهم إلى أولئك الكرام؟!

ولحسن الحظ لا خلاف بين المسلمين في عدم جواز دعاء الملائكة، فلم نُشاهد لدى أيّ فرقة من فرق المسلمين أحداً يقول: يا جبريل اشفع لي عند الله أو أوصل رغبتي إلى الإمام الفلاني أو حفيد الإمام الفلاني!! لأن الجميع يعلم أن الملائكة في حال دائمة من العروج والنزول ولا يُمكنهم أن يكونوا في أكثر من مكان في وقتٍ واحدٍ، والله وحده فقط المُحيط بكل مكان وبكل شيء على نحو التساوي والتزامن. بناءً على ذلك إذا دعا أحدهم أولئك الملائكة دون قيد أو شرط يكون قد نسب إليهم بلسان حاله صفةً إلهية ووقع في حبائل الشرك. (فَتَأَمَّل).

44أضف إلى ذلك أن الله أوضح لنا في القرآن أن الأنبياء أثناء حياتهم الدنيوية لم يكونوا مُطَّلعين على الأعمال الخفيّة لمُعاصريهم ولا عالمين بما في صدور معاصريهم، فما بالك بأن يعلموا ذلك بعد رحيلهم عن الدنيا وانتقالهم من دار الفناء إلى عالَم البقاء. وكان قدماء الشيعة يعتبرون مثل هذه العقيدة باطلة ويعدُّونها من عقائد الحشوية[319].

وقال القرآن الكريم للنبيّ الأكرم ص: إن بعض الناس الذين يُعجبك قولهم في الحياة الدنيا، باطنهم مخالف لظاهرهم [البقرة: 204 و205] أو قال: ﴿وَمِمَّنۡ حَوۡلَكُم مِّنَ ٱلۡأَعۡرَابِ مُنَٰفِقُونَۖ وَمِنۡ أَهۡلِ ٱلۡمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى ٱلنِّفَاقِ لَا تَعۡلَمُهُمۡۖ نَحۡنُ نَعۡلَمُهُمۡ[التوبة: ١٠١]. أو بيَّن لنا أنه عندما أخبر الهدهد سليمانَ (ع) الخبرَ لم يكن سليمان يعلم صدق الهدهد من كذبه لذلك قال له: ﴿قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقۡتَ أَمۡ كُنتَ مِنَ ٱلۡكَٰذِبِينَ ٢٧؟ [النمل : ٢٧]. ولما نزلت آيات اللعان وقام الرجل والمرأة باللعان طبقاً لآيات القرآن، قال لهما النَّبِيّ الأَكْرَم ص: أما أنتما فقد عرفتما أني لا أعلم الغيب. حسابكما على الله، أحدكما كاذب. وقال مرَّةً للرجل ومرَّةً للمرأة: إن كذبت (أو كذبتِ) فتب إلى الله‏[320].

45وطبقاً لما رواه المَجْلِسِيّ قال النبيّ ص: "لَيَخْتَلِجَنَّ قَوْمٌ مِنْ أَصْحَابِي دُونِي وَأَنَا عَلَى الْحَوْضِ فَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ فَأُنَادِي يَا رَبِّ أُصَيْحَابِي أُصَيْحَابِي (أَصْحَابِي أَصْحَابِي‏) فَيُقَالُ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَك" [321]. بناءً على ذلك لم يكن النبيّ يدري بعد رحيله عن الدنيا ما أحدثه قومه من بعده. فالنبيّ الذي لا يعلم ما صنيع العبد الفلاني كيف يُمكن أن يشفع له في المحكمة الإلهية ويُدافع عنه؟! إن الله وحده العليم بظاهر العباد وباطنهم وبسرّهم وعلانيّتهم وهو القائل: ﴿مَن ذَا ٱلَّذِي يَشۡفَعُ عِندَهُۥٓ إِلَّا بِإِذۡنِهِۦۚ يَعۡلَمُ مَا بَيۡنَ أَيۡدِيهِمۡ وَمَا خَلۡفَهُمۡ[البقرة: ٢٥٥]، ولا أحد سوى الله يمتلك مثل هذا العلم. بناءً على ذلك ما مِن نبيٍّ ولا ملاكٍ يعلَمُ مَنْ مِنَ العباد ستتعلّق به إرادة الله، ولأجل مَنْ سيأذن الله بالشفاعة؟ فتعيين الشفيع لِمُقِصِّرٍ مُعيَّنٍ مُستَحِقٍّ للشفاعة، يعود إلى الله وحده وبيده سبحانه وتعالى وحده لا بيد العباد، لأن الشفعاء أيضاً خائفون من هيبة الله وجلاله ولا يلتفتون إلى توجّهنا إليهم: ﴿وَلَا يَشۡفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ٱرۡتَضَىٰ[الانبياء: ٢٨]. لأنهم يعلمون ونعلم أنه ليس كل ما يريده الإنسان يتحقق له بل: ﴿فَلِلَّهِ ٱلۡأٓخِرَةُ وَٱلۡأُولَىٰ ٢٥ ۞وَكَم مِّن مَّلَكٖ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ لَا تُغۡنِي شَفَٰعَتُهُمۡ شَيۡ‍ًٔا إِلَّا مِنۢ بَعۡدِ أَن يَأۡذَنَ ٱللَّهُ لِمَن يَشَآءُ وَيَرۡضَىٰٓ ٢٦[النجم : ٢٥، ٢٦] (فَتَأَمَّل).

وكان حضرة عَلِيٍّ (ع) يعتبر الاطِّلاع على الأعمال الخفيّة للعباد وعلى ما في صدورهم خاصاً بالله تعالى وحده الذي "لَا شَهِيدَ (شاهد) غَيْرُهُ وَلَا وَكِيلَ دُونَه ‏"[322]. وقال عن الاطِّلاع على المستقبل أيضاً: "قَدْ أَقْلَقَنِي‏ مَا أُبْهِمَ عَلَيَّ مِنْ مَصِيرِ عَاقِبَتِي‏"[323] وَمِنْ ثَمَّ فلم يكن يعلم الغيب.

والأنبياء بعد رحيلهم عن الدنيا لا تبقى لهم صلةٌ بهذا العالم الفاني. ولذلك فالنبيّ الذي أماته الله مئة عام ثم بعثه لم يكن يعلم المدّة التي بقي ميتاً خلالها [البقرة: 259]، وعيسى (ع) يقول: ﴿وَكُنتُ عَلَيۡهِمۡ شَهِيدٗا مَّا دُمۡتُ فِيهِمۡۖ فَلَمَّا تَوَفَّيۡتَنِي كُنتَ أَنتَ ٱلرَّقِيبَ عَلَيۡهِمۡ[المائ‍دة: ١١٧]. وعندما بعث الله أصحاب الكهف من نومهم العميق لم يعرفوا المدّة التي قضوها نائمين ولا كانوا يعلمون أن دقيانوس الملك قد مات وأن أوضاع المنطقة قد تبدلت [الكهف: 19]. ولم يكن نوح (ع) يعلم أن ابنه لن ينجو من الطوفان، لكنه عرف بعد غرقه أن جملة: «سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ » شملت ابنه أيضاً لذلك اتّجه إلى ربّه قائلاً: ﴿رَبِّ إِنَّ ٱبۡنِي مِنۡ أَهۡلِي وَإِنَّ وَعۡدَكَ ٱلۡحَقُّ وَأَنتَ أَحۡكَمُ ٱلۡحَٰكِمِينَ ٤٥[هود: ٤٥]فجاءه الجواب: ﴿قَالَ يَٰنُوحُ إِنَّهُۥ لَيۡسَ مِنۡ أَهۡلِكَۖ إِنَّهُۥ عَمَلٌ غَيۡرُ صَٰلِحٖ[هود: ٤٦]أي أنه غرق بسبب أعماله السيئة فَعُلِمَ أن نوح (ع) لم يكن يعلم الغيب.

ولم يكن حضرة إبراهيم (ع) يعلم أنه سيكون له ولد باسم إسحاق (ع) وحفيد باسم يعقوب (ع) لذا لما دخلت عليه الملائكة ولم يعرفهم وذبح لهم عجلاً وقدَّمه لهم (ولو كان يعلم الغيب لَعَلِمَ منذ البداية أنهم من الملائكة وأنهم لا يأكلون الطعام وَلَمَا أَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً وَلَمَا طبخ لهم العجل وقدّمه لهم من الأساس)، فلما بشَّرته الملائكة بمجيء ابن له تعجب قائلاً: ﴿قَالَ أَبَشَّرۡتُمُونِي عَلَىٰٓ أَن مَّسَّنِيَ ٱلۡكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ ٥٤؟!فأجابوه قائلين: ﴿قَالُواْ بَشَّرۡنَٰكَ بِٱلۡحَقِّ فَلَا تَكُن مِّنَ ٱلۡقَٰنِطِينَ ٥٥[الحجر: ٥٤، ٥٥]. ولم يكن يعلم حقيقة المهمة التي أُرسل بها أولئك الملائكة لذلك سألهم قائلاً: ﴿قَالَ فَمَا خَطۡبُكُمۡ أَيُّهَا ٱلۡمُرۡسَلُونَ ٥٧ ؟؟فقالوا: ﴿إِنَّآ أُرۡسِلۡنَآ إِلَىٰ قَوۡمٖ مُّجۡرِمِينَ ٥٨ [الحجر: ٥٧، ٥٨] فسألهم إبراهيم مُتعجباً: ﴿قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطٗاأي كيف سينزل العذاب على أهل القرية وفيهم لوط؟! فأجابته الملائكة: ﴿قَالُواْ نَحۡنُ أَعۡلَمُ بِمَن فِيهَاۖ لَنُنَجِّيَنَّهُۥ وَأَهۡلَهُۥٓ إِلَّا ٱمۡرَأَتَهُۥ كَانَتۡ مِنَ ٱلۡغَٰبِرِينَ ٣٢ [العنكبوت: ٣٢]. ولو كان إبراهيم يعلم أن الملائكة ستُنجِّي لوطاً قبل إنزال العذاب الإلهي بأهل قرية سدوم لما سألهم كيف سينزل العذاب على أهل القرية وفيهم لوط؟!

ولم يكن زكريا (ع) يعلم أنه سيُصبح أباً لولد لذا لما بُشِّر بغلام اسمه يحيى قال مُتعجِّباً: ﴿قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَٰمٞ وَكَانَتِ ٱمۡرَأَتِي عَاقِرٗا وَقَدۡ بَلَغۡتُ مِنَ ٱلۡكِبَرِ عِتِيّٗا ٨؟![مريم: ٨].

ولم يكن لوط (ع) يعلم الغيب فلم يعرف الملائكة الذين جاؤوا لعذاب قومه وكان يتصوّر أنهم بشر فخاف أن يتعرّض لهم قومه بسوء، وحتى بعد أن علم أن قومه لن ينصرفوا عن الرغبة بالتعرّض لضيوفه قال: ﴿لَوۡ أَنَّ لِي بِكُمۡ قُوَّةً أَوۡ ءَاوِيٓ إِلَىٰ رُكۡنٖ شَدِيدٖ ٨٠[هود: ٨٠] في تلك اللحظة كشف الملائكة عن حقيقة أنفسهم وقالوا له: ﴿يَٰلُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُوٓاْ إِلَيۡكَۖ فَأَسۡرِ بِأَهۡلِكَ بِقِطۡعٖ مِّنَ ٱلَّيۡلِ وَلَا يَلۡتَفِتۡ مِنكُمۡ أَحَدٌ إِلَّا ٱمۡرَأَتَكَۖ إِنَّهُۥ مُصِيبُهَا مَآ أَصَابَهُمۡۚ إِنَّ مَوۡعِدَهُمُ ٱلصُّبۡحُۚ أَلَيۡسَ ٱلصُّبۡحُ بِقَرِيبٖ ٨١[هود: ٨٠، ٨١] وقالوا له: ﴿لَا تَخَفۡ وَلَا تَحۡزَنۡ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهۡلَكَ إِلَّا ٱمۡرَأَتَكَ كَانَتۡ مِنَ ٱلۡغَٰبِرِينَ ٣٣[العنكبوت: ٣٣].

كما لم يكن لموسى (ع) -الذي كان من أولي العزم من الرسل- علم بذلك المَلِك الظالم الذي يأخذ كل سفينة لا عيب فيها غَصْباً، ولا كان له علم بالوالدين الصالحين لذلك الغلام الذي قُتل أمامه، ولا بالكنز الذي كان تحت الجدار [الكهف: 67 حتى 82]. ولو كان موسى (ع) يعلم الغيب لما اعترض على رفيقه في السفر في تلك الموارد.

ونبيّ الإسلام ص أيضاً رأى في السنة السادسة للهجرة رؤيا في منامه بأنه يدخل المسجد الحرام وأنه يُؤدّي مناسك الحج، فانطلق برفقة عدد من أصحابه -زاد عددهم عن الألف- ومن جملتهم عَلِيٌّ (ع) إلى مكة المكرمة ظانّاً أن حُلُمَهُ سيتحقق هذا العام، ولم يَدْرِ أن حُلُمَهُ لن يتحقق هذه السنةَ بل سيتحقق في السنة التالية أي السنة السابعة للهجرة. وقُرْبَ مكَّة واجه صدَّ المشركين له عن البيت الحرام في مكان يُدعى «الحُديبية»، فأرسل عثمان للتفاوض مع أهل مكة ليسمحوا له بدخولها، فحال المشركون بين عثمان وبين عودته إلى النبيّ ولما طال غياب عثمان وأُشيع أنه قُتل، استعدّ رسول الله ص وأصحابه للدفاع وقال ص: لن أبرح المكان حتى أُنهي هذا الأمر، وأخذ البيعة من المسلمين تحت الشجرة فبايعوه جميعاً على القتال والثبات، وأقسموا أن يُدافعوا عن الإسلام حتى آخر قطرة من دمائهم فيما عُرف بـ «بيعة الرِّضوان» [سورة الفتح: 18] إلى أن عاد عثمان وانتهت تلك الأحداث بعقد الهدنة التي عُرفت بصلح الحُديبية. فهذه القصة -المُتفق عليها- تُبيِّن أن النَّبِيّ الأَكْرَم ص وعليّاً (ع): أولاً: لم يكونا يعلمان أن الرؤية التي رآها رسول الله ص لن تتحقَّق في تلك السنة بل في السنة التي تليها. ثانياً: لم يكن النَّبِيّ الأَكْرَمص يعلم، قبل عودة عثمان السبب في تأخر غيابه والسبب في احتفاظ المشركين به[324].

وعندما دنا الشهيد الجليل جناب «مسلم بن عقيل» الذي كان نائب حضرة سيد الشهداء (ع) ومُمثّله الخاص، من الشهادة قال: وصيّتي أن تكتبوا للإمام الحسين (ع) أن لا يأتي إلى الكوفة لأنني قد كتبت له رسالةً من قبل قلت له فيها: إن أهل الكوفة معه ومُستعدّون لنُصرته فرأى الحسين أن الحُجّة تمّت عليه وانطلق نحو الكوفة، في حين أنه قد تبيّن لي الآن أن الواقع ليس كذلك ولم أجد الفرصة كي أُخبره عن تغيّر الأوضاع وعن ادِّعاء أهل الكوفة الكاذب[325].

لاحظوا كيف أن نائب الإمام الحسين وابن عمّه كان يعتقد أن الإمام لا اطِّلاع له على وضع الكوفة المُستجدّ وحال أهلها، وأنه لا يسمع صوته. ولو كان يسمع صوت نائبه ومبعوثه لما كان هناك من ضرورة لكتابة رسالة له! فكيف تدَّعون أن الإمام بعد رحيله عن الدنيا مُطَّلع على أحوال أهلها وأقوالهم؟!! ولقد ذكرنا أموراً مهمة حول العلم بالغيب في الباب الثاني من الفصل الثالث من هذا الكتاب فَلْتُرَاجَعْ ثَمَّةَ.

***

ومن الأقوال الأخرى المضللة التي كثيراً ما يستندون إليها على نحو خاطئ ويذكرونها غالباً في كتبهم أو يقولونها من على منابرهم، قولهم إنه قد ورد في كتب السيرة والحديث أنه بعد أن رمى النبي ص جثامين قتلى المشركين يوم بدر في القليب (بِئْرٍ لم تُطْوَ) خاطبهم ص قائلاً: "قَدۡ وَجَدۡنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّٗا فَهَلۡ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمۡ حَقّٗاۖ؟!". ويقولون لو لم يكن الأموات يسمعون أصوات الأحياء لَمَا خاطب النبيُّ ص أولئك الأموات.

وللأسف فإنهم ينقلون الحَدَث السابق ناقصاً ومبتوراً دائماً ولم أر أحداً من الخرافيين حتى الآن ينقل تلك الحادثة بصورتها الكاملة. وسننقل هنا - إيقاظاً للقراء الكرام - ذلك الحَدَث بصورته الكاملة استناداً إلى كتب السيرة والحديث الموثوقة كي نبطل خداع تجار الخرافات وتضليلهم.

المعروف أن كتاب «السيرة النبوية» لابن هشام أوثق كُتب السيرة و أشهرها. كَتَبَ ابن هشام في سيرته، وكتب ابن كثير أيضاً - وكتابه «السيرة النبوية» مشهور جداً كذلك - في فصل «غزوة بدر العُظمى» يقولان:

"عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: لَمَّا أَمَرَ رَسُولُ اللهِ ص بِالْقَتْلَى أَنْ يُطْرَحُوا فِي الْقَلِيبِ، طُرِحُوا فِيهِ.......... وَقَفَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللهِ ص فَقَالَ: يَا أَهْلَ الْقَلِيبِ، هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَكُمْ رَبُّكُمْ حَقًّا؟ فَإِنِّي قَدْ وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي رَبِّي حَقًّا. قَالَتْ: فَقَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَتُكَلِّمُ قَوْمًا مَوْتَى؟ فَقَالَ لَهُمْ: لَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ مَا وَعَدَهُمْ رَبُّهُمْ حَقًّا. قَالَتْ عَائِشَةُ: وَالنَّاسُ يَقُولُونَ: لَقَدْ سَمِعُوا مَا قُلْتُ لَهُمْ، وَإِنَّمَا قَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ ص لَقَدْ عَلِمُوا[326].

وجاء في «السيرة الحلبيَّة»:

"عن عائشة أنها أنكرت قوله ص: لقد سمعوا ما قلتُ، وقالَتْ: إنما قال: لقد عَلِمُوا أن الذي كنت أقول حق، وقالت: إنما أراد النبي ص -أي بقوله في حقِّ أهل القليب ما أنتم بأسمع منهم-: الْآنَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّ الذي أَقُولُ لَهُمْ هُوَ الحَقُّ[327]. أي لا أنهم يسمعون ما أقول بحاسة سمعهم التي كانت موجودة في الدنيا، ثم قَرَأَتْ -أي محتجةً على ذلك- قوله تعالى: ﴿إِنَّكَ لَا تُسۡمِعُ ٱلۡمَوۡتَىٰ [النمل: 80]، وقوله تعالى: ﴿وَمَآ أَنتَ بِمُسۡمِعٖ مَّن فِي ٱلۡقُبُورِ ٢٢[فاطر: ٢٢]"[328]

وقد نقل ابن كثير في سيرته النبوية في فصل «غزوة بدر العُظمى» والبخاري[329] ومُسْلِم[330] والنَّسَائي[331] وابن أبي الحديد الشارح الشهير لكتاب «نهج البلاغة» هذا الخبر.

قال ابن أبي الحديد في شرحه لنهج البلاغة:

"فلما توافَوْا في القليب وقد كان رسول الله ص يطوف عليهم وهم مصرعون، جعل أبو بكر يخبره بهم رجلاً رجلاً ورسول الله ص يحمد الله ويشكره ويقول الحمد لِـلَّهِ الذي أنجز لي ما وعدني، فقد وعدني‏ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ‏. ثم وقف على أهل القليب فناداهم رجلاً رجلاً يا عتبة بن ربيعة! ويا شيبة بن ربيعة! ويا أمية بن خلف! ويا أبا جهل بن هشام: هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَكُمْ رَبُّكُمْ حَقًّا؟ فَإِنِّي قَدْ وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي رَبِّي حَقًّا. بِئْسَ القَوْمُ كُنْتُمْ لِنَبِيِّكُمْ، كَذَّبْتُمُونِي وَصَدَّقَنِي النَّاسُ، وَأَخْرَجْتُمُونِي وَآوَانِي النَّاسُ، وَقَاتَلْتُمُونِي وَنَصَرَنِي النَّاسُ، فقالوا: يا رسول الله، أتنادي قوماً قد ماتوا؟! فَقَالَ: لَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ مَا وَعَدَهُمْ رَبُّهُمْ حَقٌّ. وقال ابن إسحاق في كتاب المغازي أَنَّ عَائشَة كانت تَروي هَذا الخَبر وتقول: فالناس يقولون إن رسول الله ص قال: لقد سمعوا ما قلت لهم وليس كذلك، إنما قال: لَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ مَا وَعَدَهُمْ رَبُّهُمْ حَقٌّ"[332].

تلاحظون أن هذا الحديث يبيِّنُ كل الأحاديث الأخرى ويوضِّحُها، فينبغي أن نفهم سائر الأحاديث على ضوء هذا الحديث؛ إذ إنه لما نُقِل إلينا هذا الحديث عبر الأفواه من شخص إلى آخر ومن حافظة إلى أخرى تعرض إلى بعض التبديل والتغيير، لذلك بينت عائشة حقيقة الحادثة كي تمنع الخطأ الذي قد يعتري الآخرين في نقلهم للخبر، وكانت عائشة تعيش في بيت النبي وكان أبوها أحد الشهود العيان للواقعة، لذا كانت أقدر على معرفة ما جرى كمَّاً وكيفاً. وفي هذه الواقعة بالذات لم يكن بقية الرواة يتمتَّعون بما تمتَّعت به عائشة من معرفة دقيقة لوقائع الحادثة لأنها سمعت ذلك مباشرةً من أبيها أو من زوجها النبي ص أو من كليهما. أضِفْ إلى ذلك أنها استدلت على صحة نقلها لما جرى بعموم آيتين من القرآن الكريم وهو أمر لا ينبغي الغفلة عنه.

وكتب ابن كثير في وقائع السنة الثانية للهجرة في فصل «غزوة بدر العُظمى» أيضاً يقول:

"ذُكر عند عائشة أن ابن عمر رفع إلى النبيّ ص أَنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ، فقالت: إنما قال رسول الله ص: إنه لَيُعَذَّبُ بخطيئته وذنبه وإن أهله لَيَبْكُون عليه الآن. قالت: وذلك مثل قوله إن رسول الله ص قام على القَليب وفيه قتلى بدر من المشركين فقال لهم ما قال، قال إنهم ليَسمعون ما أقول، وإنما قال: إنَّهم الآن ليعلمون إنما كُنت أَقول لهم حَقٌّ. ثُمَّ قرأت: ﴿إِنَّكَ لَا تُسۡمِعُ ٱلۡمَوۡتَىٰ [النمل: 80]، ﴿وَمَآ أَنتَ بِمُسۡمِعٖ مَّن فِي ٱلۡقُبُورِ ٢٢[فاطر: ٢٢]".

بناءً على ما أوردناه من أقوال أرباب السِّيَر والحديث والتاريخ، تتَّضِحُ تماماً حقيقة ما جرى، فالاستناد إلى الأحاديث المخالفة لما أوردناه ليس مقبولاً، أما الذين يُصِرُّون على التشبُّث بأحاديث غير موجَّهة، كتمسُّكهم بالحديث رقم(3976) في البخاري، فينبغي أن نعلم ما يلي:

أولاً: هؤلاء يتجاهلون الأحاديث التي أتينا بها أعلاه، ويقرؤون كما يقول المثل: «لا إله» ولا يكملون الجملة فلا يقرؤون «إلا الله»!!

ثانياً: حتى لو فرضنا أن النبيّ خاطب المقتولين، فمن الواضح -كما يقول علماء البلاغة أيضاً- أن الخطاب لا يستلزم بالضرورة إسماع المُخاطَب الكلام بل في كثير من الحالات يكون خطاب المتكلِّم من باب «لسان الحال» أو «حديث النفس»؛ كما نجد أن الله ذكر لنا أنَّ كُلَّاً من نَبِيِّ الله صالح ونَبِيِّ الله شُعيب عليهما السلام بعد أن أهلك اللهُ قومه بالرجفة: ﴿فَتَوَلَّىٰ عَنۡهُمۡ وَقَالَ يَٰقَوۡمِ لَقَدۡ أَبۡلَغۡتُكُمۡ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحۡتُ لَكُمۡ وَلَٰكِن لَّا تُحِبُّونَ ٱلنَّٰصِحِينَ ٧٩[الاعراف: ٧٩ و 93].

ولو كان المراد هنا إسماع الهالكين الميتين لما كان هناك من داعٍ إلى أن يبدأ الله الجملة بقوله: «فَتَوَلَّىٰ عَنۡهُمۡ وَقَالَ». وعلى قول أخينا الفاضل جناب السيد مصطفى الطباطبائي -حفظه الله- حتى المُلحدون الماديُّون الذين لا يعتقدون ببقاء الروح يستفيدون في كلامهم من هذا الفن البلاغي ويُخاطبون به الأموات الراحلين. فعلى سبيل المثال يخاطبون «لينين» في قبره قائلين: "يا لينين ليهنأ بالك فنحن على الدرب سنُواصل كفاحك في سبيل تحكيم المحرومين في الأرض"!! ولا شك أنهم لا يعتقدون أن لينين يسمع صوتهم، ولا يُمكن حمل مثل هذه الجملة على اعتقادهم بأن لينين يسمع الأصوات بعد موته! (فَتَأَمَّل).

وروى الترمذي وابن ماجه والدارمي عن النَّبِيّ الأَكْرَم ص أنه وقف على منطقة في مكة تُدعى «الـحَزْوَرَة»، ونظر إلى مكة فقال "واللهِ إِنَّكِ خَيْرُ أَرْضِ اللهِ وَأَحَبُّ الْأَرْضِ إِلَى اللهِ، وَلَوْلَا أَنَّ أَهْلَكِ أَخْرَجُونِي مِنْكِ مَا خَرَجْتُ". ومن البديهي أنه لا يُمكن الاستدلال بهذا الخطاب على أن النبيّ كان يعتبر مكة أو البيت الحرام سامعاً لكلامه بل كل مُنصف يفهم أن كلام النبيّ هذا هو من باب حديث النفس. كما رُوي أن عمر بن الخطاب خاطب الحجر الأسود قائلاً: "وَاللهِ إنِّي أَعْلَمُ أَنَّك حَجَرٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْت رَسُولَ اللهِ ص يُقَبِّلُك مَا قَبَّلْتُك". ومن الواضح أن هذا الكلام لا يعني أن عمر كان يعتقد أن الحجر الأسود كان يسمع كلامه. يا تُرى هل كان الإمام السجاد الذي خاطب القمر (الصحيفة السجادىة، الدعاء 43) يعتقد أن القمر يسمع كلامه؟!

نحن المسلمون نقول في ختام صلاتنا -حتى عندما نُصلّي فُرادى-: السَّلاَمُ عليْكُمْ ورَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه. ولا شك أن المسلمين لا يعلمون أنني الآن في زاوية غرفتي أُنهي صلاتي بهذا السلام وأدعو لهم بالرحمة والبركات. كما أننا أنا وأنتم لا نعتقد أن المسلمين يسمعون صوتنا، ولهذا السبب لا نتوقع أن نتلقى ردّاً على سلامنا، بل هذا التسليم هو نوع من الكلام الذي يدخل تحت فنون الخطاب والبلاغة العربية ويُستفاد منه لهدف آخر، فالمقصود أن يشعر المسلم في جميع الأحوال أنه جزء من جماعة المسلمين فيذكرهم حتى لو كان وحده، ولا يغفل عن صلته وارتباطه بهم فيدعو لهم وكأنهم إلى جانبه. وهذا الموضوع ينطبق أيضاً على صيغ الجمع في قراءة سورة الحمد في صلواتنا الفردية. ودليلنا على أن خطاب كلاً من حضرة صالح وحضرة شُعيب عليهما السلام لقومه إنما كان من باب «لسان الحال وحديث النفس»؛ إضافةً إلى وجود حرف العطف «الفاء» قبل فعل «تولّى» -والذي يدل على أن ذلك الخطاب صدر بعد هلاك قوم كل منهما- أن صالح وشُعيب لو أرادا إسماع الموتى كلامهما لقالا مثل ما قال نوح وهود عليهما السلام لقومهما زمن حياتهما: ﴿أُبَلِّغُكُمۡ رِسَٰلَٰتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمۡو﴿أُبَلِّغُكُمۡ رِسَٰلَٰتِ رَبِّي وَأَنَا۠ لَكُمۡ نَاصِحٌ أَمِينٌ ٦٨[الأعراف: 62 و 68، وقارنوا ذلك بالآيتين 79 و 93 من سورة الأعراف] وَلَمَا كانت هناك ضرورة لتوجيه ذلك الخطاب لهم بعد موتهم وهلاكهم لأنه لم تعد لهم أيّ فائدة في ذلك، وَلَمَا كانت هناك من ضرورة لمُخاطَبة شُعيب (ع) الموتى بأن هلاككم لا يستدعي الأسف، وبناءً على ذلك فكان خطابه: ﴿فَكَيۡفَ ءَاسَىٰ عَلَىٰ قَوۡمٖ كَٰفِرِينَ ٩٣[الاعراف: ٩٣]من باب «حديث النفس».

ثالثاً: في الغالب لا يذكر هؤلاء المُستدلّون قول قتادة الذي جاء في آخر الحديث الذي يستشهدون به، إذ قال: "أحْيَاهُمُ اللهُ، حَتَّى أَسْمَعَهُمْ قَوْلَهُ، تَوْبِيخاً وَتَصْغِيراً، وَنَقِيمَةً، وَحَسْرَةً، وَنَدَماً ". في حين أنه على حدِّ قول علماء الحديث حتى لو قبلنا بذلك الحديث دون التفات إلى توضيح عائشة وتصحيحها له فإن أكثر ما يُفيده ذلك الحديث هو أنهم لما كانوا رؤوس الكفر وكانوا قد سعوا كثيراً في مُعاداة النبيّ وإيذائه، فإن الله تعالى أوصل كلام النبيّ إليهم بعد مقتلهم، بشكل استثنائي، في ذلك الوقت الخاص والمُحدّد، كمعجزة خارقة للعادة، لأجل تبكيتهم وزيادة عذابهم، لاسيما أنه في تلك المجموعة من الأحاديث استخدم النَّبِيُّ الأَكْرَم ص لفظ «الآن» الذي يدل على أنهم يسمعون الآن فقط -أي في هذا الزمن المُحدّد- لا أنهم يسمعون دائماً وبشكل عام.

46ويدل ما جاء في هذه المجموعة من الأحاديث[333] من كلام النبيّ الذي قال عن أولئك القتلى المرميين في القليب (البئر): "ولكنهم لا يستطيعون جواباً" على أن هذا الموضوع كان أمراً خاصاً واستثنائياً، وإلا فلو كان أولئك القتلى المذكورون يسمعون رغم فقدانهم لحاسة السمع بعد موتهم لما كانوا بحاجة أيضاً إلى قوة التكلم كي يُجيبوا عن ذلك السؤال، ولو قلنا: إنهم فقدوا قوة التكلم بعد موتهم ولذا ما كانوا قادرين على الإجابة، قلنا: بناءً على هذا الأصل لما فقدوا قوة السمع لم يكونوا قادرين على السماع أيضاً.

وعلى فرض أن أولئك القتلى سمعوا كلام النبي ص فيُمكن القول: إن الله تعالى بقُدرته اللامتناهية أسمع في تلك اللحظة الخاصة أولئك الأفراد الخاصين، وهم كانوا حسب الأصل غير قادرين على السمع بعد موتهم وكذلك سيبقون على هذا الأصل من عدم القدرة على السماع بعد تلك اللحظة الخاصة التي أسمعهم الله فيها. ولا يُمكن تعميم هذه الواقعة إلى حالات أخرى فلا تقوى هذه الأحاديث على نقض عموم أصل انقطاع صلة الأموات بهذا العالَم الفاني، فلا يُفيد هذا الحديث هدف تجَّار الخرافات! (فَتَأَمَّل).

رابعاً: في هذه المجموعة من الأحاديث لم يردّ النبيّ على تعجّب بعض أصحابه وإنكارهم وسؤالهم: كيف تُكلم أمواتاً لا يسمعون؟ أو قولهم: ماذا تقول لأجساد لا روح فيها؟ وهذا يدل على أن عدم قدرة الأموات على السماع كان أمراً عاماً ومُسلَّماً به لدى المسلمين وقد أيَّده سكوت النبيّ، ولو قبلنا الحديث على ظاهره فإنه يدل على حادثة فردية واستثنائية لا غير.

خامساً: إن العلماء يدَّعون أنهم مُلتزمون بقاعدة «عرض الأحاديث على القرآن الكريم»، لكنهم هنا لا يعرضون هذه المجموعة من الروايات التي يُعجبهم مضمونها على القرآن كما أنهم يتجاهلون استدلال عائشة بالقرآن في ردّها لتلك الروايات!! في حين أنه يُفهم من القرآن الكريم أن الأنبياء لا علم لهم بأوضاع الدنيا الفانية [سورة المائدة: 117] فما بالك بغير الأنبياء!

[285] راجعوا ما سنذكره لاحقاً في هذا الكتاب الحالي حول الاتصال بالملائكة. [286] نقد وتحليلى پيرامون وهّابيگرى، همايون همتى، ص 185 -186. [287] كما أن الإمام الصادق (ع) الذي كان مقيماً بالمدينة لما سمع أن بعض أهالي الكوفة نادوه معتقدين أنه يسمعهم وقالوا: «لبَّيك يا جعفر» خرَّ ساجداً..... وفيما يلي نصّ الرواية كما رواها الكِشِّيّ في رجاله حيث قال: "لَمَّا لَبَّى الْقَوْمُ الَّذِينَ لَبَّوْا بِالْكُوفَةِ دَخَلْتُ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللهِ (ع) فَأَخْبَرْتُهُ بِذَلِكَ فَخَرَّ سَاجِداً وَدَقَّ جُؤْجُؤَهُ بِالْأَرْضِ وَبَكَى وَأَقْبَلَ يَلُوذُ بِإِصْبَعِهِ وَيَقُولُ: بَلْ عَبْدٌ لِـلَّهِ قِنٌّ دَاخِرٌ مِرَاراً كَثِيرَةً ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَدُمُوعُهُ تَسِيلُ عَلَى لِحْيَتِهِ فَنَدِمْتُ عَلَى إِخْبَارِي إِيَّاهُ، فَقُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ وَمَا عَلَيْكَ أَنْتَ مِنْ ذَا. فَقَالَ: يَا مُصَادِفُ إِنَّ عِيسَى لَوْ سَكَتَ عَمَّا قَالَتِ النَّصَارَى فِيهِ لَكَانَ حَقّاً عَلَى اللهِ أَنْ يُصِمَّ سَمْعَهُ وَيُعْمِيَ بَصَرَهُ وَلَوْ سَكَتُّ عَمَّا قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ لَكَانَ حَقّاً عَلَى اللهِ أَنْ يُصِمَّ سَمْعِي وَيُعْمِيَ بَصَرِي" (رجال الكشي، طبع كربلاء، ص 253). [288] كما قال حضرة أمير المؤمنين علي÷عن الله: "سميع لا بآلة، بصير لا بأداة". ولمزيد من التفصيل حول هذه النقطة راجعوا كتاب «زيارت و زيارتنامه» ص 198. [289] لقد ألَّف كتابه هذا منذ سنوات بعيدة في فترة نفيه في مدينة يزد ولذلك سمّى كتابه «أرمغان يزد». [290] وهو السيد زين العابدين الكاظمي الخلخالي. [291] إن تأمّل الآية 62 من سورة النمل يكشف لنا أن الاستعانة التي نبحث فيها هي «الاستعانة العبادية» يعني الاستعانة غير المُقيّدة وغير المشروطة، التي تتم في حالة الاضطرار التي يفقد فيها الإنسان إمكانية الوصول إلى الوسائل العادية أو الاستفادة من الأسباب الطبيعية، وإلا فمن الواضح تماماً أنه في غير موارد الاضطرار هذه -التي نُلبِّي فيها استغاثة الملهوف أو نستعين فيها بالآخرين- فإن كل نَفَس يتنفسه الإنسان إنما يتمُّ بإذن الله وبفيض من الله وكذلك كل زفير يتمُّ بإذن الله وفيضه وكذلك كل خطوة نخطوها وهكذا ...... ولكن هذا الإذن هو الإذن الإلهي العام الذي تتمتع به جميع المخلوقات. أما الآية الكريمة فقد صرفت النظر عن هذه الحالة واهتمّت بحالة الاضطرار الذي يدخل في مجال الإذن الإلهي الخاص ويُعتبر ساحة ظهور المدد الإلهي غير المُقيّد وغير المشروط بقوانين الطبيعة ولذلك تسأل الآية سؤالاً استنكارياً «أإله مع الله» يعني هل ثمّة معبود آخر أيضاً مع المعبود الحق الله جلّ وعلا؟! وفي النتيجة فإذا استعنَّا بعباد الله القادرين على إعانتنا بنحو محدود بحدود الإذن الإلهي العام الذي مُنح لهم ولجميع الخلق فليس علينا حرج ولا ملامة، أما الاستعانة غير المُقيّدة وغير المشروطة فلا يُمكننا أن نطلبها من أيّ أحد سوى الله لأن هذا المجال مجال خاص بالله وحده لا شريك له ولم يُعطِ الله تعالى أحداً غيره مثل هذه القدرة غير المحدودة وإلا للزم أن يلوم القرآن ويُوبِّخ بذلك الأسلوب أي أسلوب السؤال الاستنكاري، الذين يتوقعون مثل هذه القدرة في غير الله على نحو الاستقلال فقط؟ (فَتَأَمَّل). ويجب أن ننتبه إلى أن الآية الكريمة لم تقل «أمُعين مع الله» أو «أمُجيب مع الله» بل قالت: «أمعبود مع الله»؟! في الحقيقة لقد اعتبر الله مثل هذه الاستعانة في هذه الحالة عبادة، ومع ذلك فإن فئات كثيرة من شعبنا تدعوا في مثل هذه الحالة حضرة أبو الفضل (ع) وحضرة الرضا (ع) ..... ومع ذلك لا ينهاهم أحد عن هذا العمل!! [292] لقد اختصرت قليلاً كلام المؤلف حول هذه القضية لأنه أعاد توضيحها وكرر الأمثلة عليها رغم وضوح الفكرة تماماً فحذفت التكرار. (الـمُتَرْجِمُ) [293] أما الاستعانة المُقيّدة والمشروطة فهي خارجة عن بحثنا بالطبع. [294] أي أنهم يُضيفون بأعمالهم الصالحة التي تؤدي إلى تكاملهم الروحي مزيداً من الاستعداد والأهلية التي تجعلهم أهلاً لاستجلاب رحمة الحق تعالى، كما قال القرآن الكريم: ﴿إِلَيۡهِ يَصۡعَدُ ٱلۡكَلِمُ ٱلطَّيِّبُ وَٱلۡعَمَلُ ٱلصَّٰلِحُ يَرۡفَعُهُۥ[فاطر: ١٠]. [295] مقصود الكاتب المحترم أنه لو انتبه السيد «الخوئي» إلى هذه المسألة إلى أن «المفعول به» لفعل «استعينوا» الذي لم يُذكر في الآية لشدة وضوحه هو كلمة «الله» ومعنى الآية في الحقيقة هو «استعينوا [الله] بالصبر والصلاة» عندئذ كان سيُدرك بوضوح أن «المستعان» في هذه الآية هو الله لا غيره وأن الصبر والصلاة وسيلتان وبتعبيرنا شيئان «مستعان بهما» لأنه من الواضح أن الصبر والصلاة ليسا مُدركين كي يُدركا استعانتنا بهما. [296] إن دعاءنا إياهم الآن في هذه الدنيا يدل على أننا لا نعتقد بأنهم مُقيَّدون بقيد «الحياة الدنيوية»، ورغم أننا نعلم أن الموت الدنيوي قد نزل بهم لا نزال نُناديهم وندعوهم فبعملنا هذا نقول بلسان الحال: نستطيع أن نُسمع الموتى نداءنا في حين أن النَّبِيّ الأَكْرَم صذاته لم يكن قادراً على مثل ذلك [سورة فاطر: 22- 23]، ثم إننا نكون قد اعتبرنا أن سماعه لنا سماع مطلق لا يتقيّد ولا يُشترط به وجود آلة السمع مع أن الله وحده هو الذي لا يحتاج إلى آلة للإبصار ولا للسمع. [297] كما جاء في الفقرة 38 من دعاء «الجوشن الكبير» المذكور في كتاب «المفاتيح» في مناجاة الله: "يا من لا يُستعان إلا به". [298] يُمكننا أن نفهم من مُقارنة الآية 128 من سورة الأعراف بالآية 45 من سورة البقرة وكلاهما خطاب لبني إسرائيل، أنه لما كانت الصلاة أعلى مصاديق الدعاء لذا لو استعنَّا بالله بواسطة الصلاة يكون اللهُ هو «المُستعان به» و «وسيلة الاستعانة» في الوقت ذاته. في كلا الآيتين ذُكر كلا النوعين من الاستعانة: الأولهما الله وصفاته وأسمائه الحسنى، والثاني: «المُستعان به» هو الله و«وسيلة الاستعانة» هي غير الله أي الأعمال الصالحة (كالصبر والصوم والجهاد و .... الخ). وبالطبع هذان النوعان من الاستعانة يُمكن أن يجتمعا مع بعضهما ولا تناقض بينهما. [299] لأن غير الله -حتى الأنبياء والأولياء- يخافون عذاب الله وهم أنفسهم محتاجون ويبتغون إلى الله الوسيلة كي ينالوا رحمته كما قال الله تعالى: ﴿أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ يَدۡعُونَ يَبۡتَغُونَ إِلَىٰ رَبِّهِمُ ٱلۡوَسِيلَةَ أَيُّهُمۡ أَقۡرَبُ وَيَرۡجُونَ رَحۡمَتَهُۥ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُۥٓۚ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحۡذُورٗا ٥٧[الإسراء: 57]. [300] لو أن ذلك الكاتب الشاب ترك جانباً تعصبه لاعتقادات آبائه وأجداده لأدرك بكل بساطة هذا الفرق ولما كتب في كتابه (ص 186): "أيُّ فرق بين الاستمداد من الطبيب الجرّاح والاستعانة به لعمل عملية الزائدة وبين الاستمداد بجبريل والاستعانة به.....". [301] راجعوا الكتاب الحاضر، ص 107 فما بعد وقارنوا كلامه هناك مع ما ذكره هنا. [302] الأستاذ الشيخ جعفر السبحاني، «توسل يا استمداد از ارواح مقدسه» [التوسل أو الاستمداد من الأرواح المقدسة]، نشر قدر، صيف 1362 هجرية شمسية (يوافق 1983م)، ص 94. [303] راجعوا الصفحة 124 من الكتاب الحالي. [304] راجعوا الصفحة 128 من الكتاب الحالي. [305] راجعوا الصفحات 96 إلى 115 من الكتاب الحالي. [306] في الحقيقة هؤلاء المتوسِّلون لا يعبدون أحداً سوى الله في مقام القول والادِّعاء فقط [ولكن عملياً يعبدون غير الله دون أن يشعروا عندما يؤدون صنوف العبادة تجاه من يتوسلون بهم]. [307] الأستاذ الشيخ جعفر السبحاني، «توسل يا استمداد از ارواح مقدسه» [أي التوسل أو الاستمداد من الأرواح المقدسة]، ص 94- 95. [308] راجعوا ما ذكرناه في الصفحات 96 إلى 103، والصفحات 113 إلى 120 في الكتاب الحالي. [309] ونص الآية: ﴿وَيَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمۡ وَلَا يَنفَعُهُمۡ وَيَقُولُونَ هَٰٓؤُلَآءِ شُفَعَٰٓؤُنَا عِندَ ٱللَّهِۚ قُلۡ أَتُنَبِّ‍ُٔونَ ٱللَّهَ بِمَا لَا يَعۡلَمُ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَلَا فِي ٱلۡأَرۡضِۚ سُبۡحَٰنَهُۥ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يُشۡرِكُونَ ١٨. [310] الأستاذ الشيخ جعفر السبحاني، «توسل يا استمداد از ارواح مقدسه» [أي التوسل أو الاستمداد من الأرواح المقدسة]، ص 97- 98. [311] الأستاذ الشيخ جعفر السبحاني، «توسل يا استمداد از ارواح مقدسه» [أي التوسل أو الاستمداد من الأرواح المقدسة]، ص 98. [312] الشيخ جعفر السبحاني، «توسل يا استمداد از ارواح مقدسه» [التوسل أو الاستمداد من الأرواح المقدسة]، ص 105- 106. [313] الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، كتاب الصلاة، باب 51 (باب صلاة الاستسقاء). الحديث 21. وجاء في الرواية المذكورة أن العباس كان يقول: «اللَّهُمَّ إِنَّا لَا نَدْعُو إِلَّا إِيَّاك». [314] حول سلوك مسلمي صدر الإسلام تجاه أسلافهم راجعوا كتاب «زيارت و زيارتنامه» لاسيما الصفحات من 3 إلى 29. [315] راجعوا كتاب الأستاذ الشيخ جعفر السبحاني، «توسل يا استمداد از ارواح مقدسه» [التوسل أو الاستمداد من الأرواح المقدسة]، ص 104، نقلاً عن الجزء الأول من كتاب «الفقه على المذاهب الأربعة». [316] والحكم ذاته ينطبق على الحديث الآخر الذي أتى به الأستاذ الشيخ «جعفر السبحاني» في الصفحة 142 من كتابه نقلاً عن عثمان بن حنيف إذ تكلم شخص ضرير في الحديث المذكور مع النبيّ الحيّ من مسافة متعارف عليها (أي أن عمله يدخل تحت عنوان الاستعانة المُقيَّدة) وجعل النبيّ شفيعه، فهذا أيضاً خارج عن موضوع بحثنا. [317] بناءً على ذلك فما يذكره الشيوخ خداعاً للعامة من قولهم: إنه قد جاء في كتب الحديث -ومن جملتها السنن الكبرى للبيهقي أو المستدرك للحاكم النيسابوري أو المصنف لعبد الرزاق الصنعاني أو ....- من أن حضرة الزهراء -عليها السلام- كانت تزور قبر حضرة حمزة سيد الشهداء وقبور شهداء أُحد كل جمعة وتبكي هنالك وتدعوا للشهداء، أو أن النبيّ كان يذهب أول كل سنة إلى البقيع ويدعو لأهل البقيع، أو أن عائشة كانت تزور قبر أخيها عبد الرحمن، أو أن عائشة لما سألت النبيّ: كيف أزور أهل البقيع؟ قال لها: "قولي: السَّلاَمُ عَلَى أَهْلِ الدِّيَارِ مِنَ المُؤْمِنينَ وَالمُسْلِمِينَ، وَيَرْحَمُ الله المُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَالمُسْتَأْخِرِينَ، وإِنَّا إِنْ شَاءَ الله بِكُمْ لاَحِقُونَ" (صحيح مسلم، كتاب الجنائز، ج 2، ص 671) خارج عن موضوع بحثنا تماماً ويدخل تحت حديث رسول اللهصالذي قال فيه: "إِنِّي نَهَيْتُكُمْ عَن زِيَارَة الْقُبُور". ثم لما ضعفت آداب الجاهلية وعاداتها بين الناس قال لهم: "أَلَا فَزُورُوهَا فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمُ الآخِرَةَ (الموت)". (زيارت و زيارتنامه، ص 4 و5). من البديهي أنه لأجل تذكُّر زوال الدنيا وتذكُّر الموت والآخرة، لا فرق بين زيارة قبور المؤمنين وقبور غير المؤمنين ومثل هذا الهدف يحصل لدى زيارة مقبرة المدينة التي يعيش فيها الإنسان، -مثل زيارة مقبرة بهشت زهرا (أي جنة الزهراء) في طهران- وليس من الضروري أن يشدَّ فرد من أهالي مدينة ماكو (في أقصى الشمال الغربي لإيران) أو مدينة خرمشهر (في الجنوب الغربي لإيران) رحاله ويسافر إلى خراسان (في أقصى شرق إيران) ليزور الضريح الفخم والمليء بالذهب والمرايا للإمام الرضا (ع) ليتذكر الآخرة!! أضف إلى ذلك وكما نعلم جيداً لا يذهب الناس من كل حدب وصوب ومن كل فجٍّ عميق إلى زيارة الأئمة أو ذراريهم كي يدعوا لأولئك الأجلاء الكرام ويطلبوا لهم الغفران والرحمة بل هم يتحملون عناء السفر لنيل رضا أولئك الأجلاء الكرام واستجلاب وساطتهم وشفاعتهم لهم عند الله! (فَتَأَمَّل). من الواضح تماماً أن حضور شخص عند قبر أبويه أو أحد أقربائه أو أعزائه وتأثره وبكائه أو دعائه الله لصاحب القبر وطلبه من الله له الرحمة والغفران موضوع خارج عن بحثنا تماماً ولا خلاف فيه بين المسلمين و لِـلَّهِ الحمد. فإذا حضر النبيّ صفي «الأبواء» عند قبر أمه وبكى أو كانت الزهراء (ع) تذهب إلى قبر عمّ أبيها وكانت تبكي لتذكّر تضحياته أو لتذكّر شهداء أُحد وكانت تدعوا لهم، فإنها لم تكن تطوف حول قبورهم ولم تكن تجعل منهم وسطاء وشفعاء بينها وبين الله، وكذلك كانت عائشة تذهب إلى قبر أخيها لقراءة الفاتحة له والدعاء له وطلب الرحمة من الله له، لا لجعله شفيعاً لها عند الله. (فَتَأَمَّل) [318] نص الشاهد في الآيات: ﴿ وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمۡرِ رَبِّكَ[مريم: 64]. ﴿ ...بَلۡ عِبَادٞ مُّكۡرَمُونَ ٢٦ لَا يَسۡبِقُونَهُۥ بِٱلۡقَوۡلِ وَهُم بِأَمۡرِهِۦ يَعۡمَلُونَ ٢٧[الأنبياء: 26 - 27] (الـمُتَرْجِمُ) [319] راجعوا كتاب «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول»، ص 134. [320] مصنف عبد الرزاق، الأحاديث: 12444، 12449 و 12455. [321] المَجْلِسِيّ، بحار الأنوار، ج 8، ص 27. والحديث صحيح معروف في مصادر أهل السنة رواه البخاري ومسلم في صحيحهما، والترمذي والنسائي في سننهما، وأحمد في مسنده، وغيرهم، عن عدد من الصحابة منهم حذيفة وابن مسعود وابن عباس وأنس وأبي هريرة. (الـمُتَرْجِمُ) [322] نهج البلاغة، الخطبة 26. [323] الصحيفة العلوية، دعاؤه في الثناء والمُناجاة، ص 134. [324] من الضروري في هذا الموضوع مراجعة كتاب «راه نجات از شر غلاة» [أي طريق النجاة من شر الغلاة] للمرحوم الأستاذ قلمداران، ص 97 إلى 186، والجزء الثاني منه المُسمّى بـ «زيارت و زيارتنامه» [زيارة المزارات وأدعية الزيارات]، ص 192 إلى 196. [325] أورد الشيخ عبَّاس القُمِّيّ هذا الأمر أيضاً في كتابه «منتهى الآمال»، ج 1، ص 315. [326] السيرة النبوية، ابن هشام، تصحيح محمد محيي الدين عبد الحميد، مكتبة محمد علي صبيح، ج 2، ص 266. [327] رواية عائشة هذه متفق عليها رواها الشيخان البخاري ومسلم في صحيحيهما ولفظهما: "إِنَّهُمْ الْآنَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّ مَا كُنْتُ أَقُولُ لَهُمْ حَقٌّ". صحيح البخاري (3759)، وصحيح مسلم، كتاب الجنائز، باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه، الحديثان (931 و932). (الـمُتَرْجِمُ) [328] السيرة الحلبية، المكتبة الإسلامية للحاج رياض الشيخ، بيروت، ج 2، ص 182. [329] صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب 8، الحديث 3978 حتى 3981. [330] صحيح مسلم، كتاب الجنائز، باب 9، الحديث 26. [331] سنن النسائي، ج 4، ص 110 و111. [332] شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، دار المعرفة والكاتب العربي وإحياء التراث العربي، بيروت، ج 3، ص 345 و 355. [333] إن الأحاديث التي تدل على اطِّلاع الأموات على ما يجري في هذا العالَم الفاني كلها -بناءً على التحقيق فيها - أحاديث معلولة أو ضعيفة السند أو لا تفي بمقصود الخرافيين من حيث الدلالة. ومن جملتها الحديث الذي افتُري على عائشة بأنها قالت: قال رسول اللهص:"مَا مِنْ رَجُلٍ يَزُورُ قَبْرَ أَخيهِ وَيَجْلِسُ عِنْدَهُ إِلَّا اسْتَأْنَسَ بِهِ وَرَدَّ عَلَيْهِ حَتَّى يَقُوم"!! لأن أحد رواته ويُدعى «يحيى بن اليمان» شخص غير موثوق، وراويه الآخر «عبد الله بن سمعان» ضعيف عند علماء الرجال. ومن جملتها أيضاً حديث رواه الدارمي في سننه ادُّعِي فيه أن عائشة قالت لمن شكى إليها القحط: "انْظُروا قَبْرَ النَّبِيِّ ص فَاجْعَلُوا مِنْهُ كُوَّةً إِلى السَّمَاءِ حَتَّى لَا يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّمَاءِ سَقْفٌ"، أو الحديث المنقول في «سنن ابن ماجه» الذي يقول إن عُمَرَ ذهب يوماً إلى مسجد النبيّ فرأى معاذ بن جبل واقفاً يبكي إلى جوار قبر النبيّ .....، أو الخبر الذي أورده السمهوديّ في كتابه «وفاء الوفاء»، (ص 1374) ومفاده أن بلالاً جاء إلى قبر النبيّ وقال: يا رسول الله! اسأل لأمتك المطر .....الخ، ونظائر هذه الأخبار كلها كذبٌ صُراحٌ ومخالفةٌ لحقائق التاريخ، إذ يعلم جيداً كل المُطَّلعين على التاريخ أن قبر النَّبِيّ الأَكْرَم صكان حتى سنوات عديدة في غرفة عائشة حيث كانت تعيش هي في المكان نفسه، ولم يُصبح هذا القبر حتى بعد مُدّة طويلة من وفاة النبيّ مكاناً يتردّد الناس إليه ويزورنه (من الضروري في هذا الصدد مراجعة كتاب «زيارت و زيارتنامه» الصفحة 16 فما بعد). وطبقاً لتحقيق «ابن تيمية» لم يثبت أن أحداً من أصحاب النبيّ شدّ رحاله وسافر لأجل زيارة قبره ص الذي كان في حجرة عائشة، بل كان إذا حضر أحدهم في المدينة صلَّى في مسجد النبيّ فإذا دخل المسجد أو خرج منه صلَّى على رسول اللهصوسلَّم عليه ولم يدخل إلى حجرته ولم يقف خارج الحجرة خلف بابها. ولما جهَّز عمر جيشاً من اليمن وأتى به إلى المدينة ليُرسله مدداً للمسلمين الذين كانوا مشغولين بفتح العراق والشام وعلى الرغم من أن خاتم النبيين صأثنى كثيراً على إيمان أهل اليمن، لم يُروَ أن أحداً منهم ممن كان يأتي ليُصلّي في مسجد النبيّ كان يذهب إلى قبره أو يُكلّمه، بل كانوا يُصلّون على النبيّ ويُسلّمون من مكانهم في المسجد. إلى أن قام عمر بن عبد العزيز سنة 91 للهجرة بإدخال بعض البيوت المجاورة للمسجد النبوي ضمن المسجد بقصد توسعته وتمّ ضمّ حجرات زوجات النبيّ إلى المسجد بما في ذلك حجرة عائشة التي كان قبر النبيّ صالمُطهّر فيها، فهُدمت الحجرات وجُعلت جزءاً من المسجد وجُدِّد بناؤه لهذه التوسعة. وَمِنْ ثَمَّفإن مرقد النَّبِيّ الأَكْرَم صقبل ذلك التاريخ لم يكن في متناول أيدي الناس، وقد غفل عن هذا الموضوع الذين وضعوا تلك الأحاديث والأخبار التي ذكرناها.