الشبهة الخامسة:
من الآيات الأخرى التي يُسيء الخرافيون الاستفادة منها بهدف خداع العامة: الآية 17 من سورة الأنفال المباركة والتي ينقلونها بشكل ناقص دائماً[279]. فمثلاً هذا الشاب الخرافي ذاته كتب مُتأسِّياً بمشايخه يقول:
"يقول القرآن: ﴿وَمَا رَمَيۡتَ إِذۡ رَمَيۡتَ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ﴾[الانفال: ١٧]. فكما نلاحظ، تُثبت جملة: «إِذْ رَمَيْتَ» الرمي لرسول الله ص، في حين تنفي جملة: «مَا رَمَيْتَ» الرمي عن حضرته. وجملة: ﴿ٱللَّهَ رَمَىٰ﴾ تُثبت ذلك الرمي عينه لِـلَّهِ. أي أنه في الوقت ذاته الذي تُثبت الآية فيه الفعل للإنسان تنفي عنه الاستقلال فيه وتُبيِّن أن الله تعالى هو الفاعل «المستقل وبالذات» لذلك الفعل عينه"!![280].
لقد تكلَّم هذا الشاب كلاماً يدل على عدم خبرته وقلّة حذاقته وذكر الآية مُبتدئةً بواو العطف التي تدلُّ على أن الآيةَ معطوفةٌ على الآية التي قبلها. لذا سنأتي بالآية المقصودة ثم نُوضِّح الأمر بشأنها: ﴿فَلَمۡ تَقۡتُلُوهُمۡ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ قَتَلَهُمۡۚ وَمَا رَمَيۡتَ إِذۡ رَمَيۡتَ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ وَلِيُبۡلِيَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ مِنۡهُ بَلَآءً حَسَنًاۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٞ ١٧ ذَٰلِكُمۡ وَأَنَّ ٱللَّهَ مُوهِنُ كَيۡدِ ٱلۡكَٰفِرِينَ ١٨﴾[الانفال: ١٧، ١٨].
أولاً: لا خلاف بين المسلمين في أن سورة الأنفال، ومن جملتها هاتين الآيتين، نزلت في غزوة بدر، وتتعلَّق تماماً بوقائع تلك الغزوة. كما لا خلاف أنه قد حدثت معجزات في تلك الغزوة ومنها أن النبيّ قبض حفنة من التراب بيده ورمى بها في وجوه القوم وقال: «شاهت الوجوه» فهبّت عاصفة رملية في تلك اللحظة ورمت بالحصى والرمل والتراب في أعين جميع المشركين فاستفاد أصحاب النبيّ ص من هذه الفرصة وحملوا حملةً واحدةً عليهم فقتلوا فريقاً منهم وأسروا فريقاً آخر[281]. لهذا السبب قال تعالى في الآية 18: ﴿ذَٰلِكُمۡ وَأَنَّ ٱللَّهَ مُوهِنُ كَيۡدِ ٱلۡكَٰفِرِينَ ١٨﴾[الانفال: ١٨]أي أن الله هو الذي أضْعَفَ الكافرين ونصركم عليهم.
ثانياً: كانت العاصفة الرملية معجزة إلهية، وقد أثبتنا سابقاً (ص 136 فما بعد) أن المعجزة من صُنع الله وأن الأنبياء لا دخل لهم في ظهورها، وما قلناه حول معجزات الأنبياء، ومن جملتها معجزات حضرة المسيح (ع)، يصدق في هذا المورد وينطبق عليه. أي أنه كما أن صُنع تمثال الطير الطيني كان من عمل عيسى (ع) الذي قام به بالإذن الإلهي العام في حين أن تحوّل التمثال إلى طير حقيقي كان فعل الله المباشر الذي تحقق تأييداً لنبوة المسيح، كذلك كان رمي قبضة التراب في غزوة بدر من عمل رسول الله ص الذي تمَّ بالإذن الإلهي العام، في حين أن هبوب العاصفة الرملية وإدخالها الرمل في أعين جميع المشركين كان فعل الله المُتعال تأييداً للنبيّ وإمداداً له[282].
ثالثاً: إن مفعول فعل «رَمَى» محذوف، فبأيِّ دليل تقول: إن القرآن نسب لِـلَّهِ «الرمي» عينه الذي نفاه عن النبيّ؟! (والبيِّنة على المُدَّعي). إنك لم تُقدِّم لنا سوى الادِّعاء!! ونحن نقول بالنظر إلى كون سورة الأنفال مُبَيِّنة لمسائل غزوة بدر فهي مرتبطة تماماً بحوادث تلك الغزوة، وقد حدَّدت للمؤمنين وأوضحت لهم المسائل التي تمَّت الإشارة إليها في تلك الغزوة بشكل كامل، وكان المؤمنون مُطَّلعون على وقائع غزوة بدر بشكل مباشر (كانوا شهود عيان لها) لذلك لم تكن هناك حاجة لذكر المفعول به لفعل «رَمَى» لشدّة وضوحه، وبالطبع كل من كان مُطَّلعاً على تاريخ غزوة بدر وحوادثها يفهم أن المفعول به لفعل «رَمَيْتَ» هو «التراب الذي نثره النبيّ في وجوه المشركين»، والمفعول به لفعل «مَا رَمَيْتَ» ولفعل «رَمَى» هو «عاصفة الحصى والرمل».
ودليلنا الآخر على أن عاصفة الرمل المذكورة كانت عمل الله المباشر هو أن الله نسب إلى نفسه فقط تأييد المؤمنين ونُصرتهم في غزوة بدر حين قال: ﴿وَلَقَدۡ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ بِبَدۡرٖ وَأَنتُمۡ أَذِلَّةٞۖ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ ١٢٣﴾[ال عمران: ١٢٣]. وقال بشأن غزوة الخندق: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱذۡكُرُواْ نِعۡمَةَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ إِذۡ جَآءَتۡكُمۡ جُنُودٞ فَأَرۡسَلۡنَا عَلَيۡهِمۡ رِيحٗا وَجُنُودٗا لَّمۡ تَرَوۡهَاۚ وَكَانَ ٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرًا ٩﴾[الاحزاب : ٩].
لاحظوا أن الله تعالى قد نسب هبوب الريح وإرسال الجنود غير المرئيين في هذه الآية إلى ذاته، فلا يُمكنكم أن تدَّعوا أن النَّبِيّ الأَكْرَم ص كان له دخل في ذلك ولو على نحو غير مستقل عن الله. فإذا كان الأمر كذلك فلماذا كان إيجاد الريح أو العاصفة في غزوة الخندق عملَ الله المباشر ولكنه لم يكن كذلك في غزوة بدر؟!!
رابعاً: صدر الآية الكريمة [أي قوله تعالى: ﴿فَلَمۡ تَقۡتُلُوهُمۡ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ قَتَلَهُمۡ﴾] أثبت الأمر ذاته لأصحاب النبيّ والمؤمنين، وأنتم تتفقون معنا بأن الصحابة لم يكونوا يتمتَّعون بولاية تكوينية، والجملة التي تستشهدون بها [أي جملة: (وَمَا رَمَيۡتَ إِذۡ رَمَيۡتَ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ]] معطوفةٌ على جملة (فَلَمۡ تَقۡتُلُوهُمۡ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ قَتَلَهُمۡ] أي أن الآية نفت -حسب قولكم- عن أصحاب النبيّ الفعل الذي نسبته في البداية لهم، وحتى أنها ذكرت مفعول الفعل؟ فهل يُمكن القول في هذا المورد أن الآية كانت ترمي إلى نفي الاستقلال عن المؤمنين؟! وهل كان هناك أحد يدَّعي أن أصحاب النبيّ مستقلون بالذات في أفعالهم عن الله حتى نزلت هذه الآية لتنفي مثل هذه العقيدة؟! كل ما تقولونه بشأن هذه الجملة ينطبق أيضاً على الجملة المعطوفة عليها.
ذكر علماء السيرة والتفسير والتاريخ أنه إضافةً إلى أن المسلمين كانوا يوم بدر أقلَّ عُدّةً وعدداً بمقدار كبيرٍ من المشركين، أن المشركين وصلوا إلى بئر بدر قبل المسلمين واستولوا على الماء فاضطر المسلمون إلى النزول في هضبة ذات حصى وكان السير فيها صعباً بسبب رخاوة الرمل وكانت حوافر المواشي تنغرس فيها فَعَسُرَ السير عليهم، كما أنهم عانوا من العطش بسبب قلّة الماء، وكان بعضهم أيضاً بحاجة إلى الغسل والاغتسال، فأثَّرت هذه الظروف غير المتكافئة تأثيراً سيئاً على معنويات المسلمين. في هذه الأوضاع العصيبة غلب على المسلمين النعاس في الليل فكان ذلك سبباً في طمأنينتهم وراحة نفوسهم وفي الوقت ذاته لم يكن نومهم ثقيلاً جداً على نحو يجعلهم غافلين عن العدو الغادر فيُبيّتهم في الليل، كما أنزل الله مطراً فجعل الأرض صلبةً تحت أقدام المسلمين وأزال عنهم العطش وطهَّرهم ورفع من معنوياتهم، كما قذف الله في قلوب عدوِّهم الرعب وأمر الملائكة بأن يُثبِّتوا قلوب المؤمنين. وعندما وقعت المواجهة بعد أن رمى النبيُّ بقبضةٍ من التراب نحو وجوه المشركين، أثار الله عاصفةً في وجوه المشركين ملأت أعينهم وأنوفهم بالرمل[283].
استناداً إلى الأمور التي ذُكرت أعلاه يقول القرآن لا تظنوا أنكم انتصرتم على العدو وقتلتموه بقدرتكم وسعيكم الناشئان من الإذن الإلهي العام -الذي يتمتع به المؤمن والكافر- بل نصركم هذا نتيجة للمدد والإعجاز الإلهيين. بناءً على ذلك فإن القرآن لم ينفِ عن المؤمنين ولا عن النبيّ ذلك القتل أو الرمي اللذان نسبهما إليهم ولم يسلبهما عنهم وينسبهما لِـلَّهِ بل قال: إن هذا النصر قبل أن يكون ناتجاً عن عملكم وسعيكم هو نتيجة للمدد والإعجاز الإلهيين اللذين تحقَّقا لتأييد نهضة النبيّ كي تعلموا أن الله مُؤيّد لنبيّه وناصر له.
ولما كان ذلك الكاتب الشاب مُعجباً بعلماء قم ومفتوناً بهم نقل جملاً من تفسير «الميزان» فقال:
"فإنها [أي الآيات 16 إلى 18 من سورة الأنفال] تَعُدُّ مِنَنَ الله عليهم من إنزال الملائكة وإمدادهم بهم وتغشية النعاس إياهم وإمطار السماء عليهم وما أوحي إلى الملائكة من تأييدهم وتثبيت أقدامهم وإلقاء الرعب في قلوب أعدائهم، فلما بلغ الكلام هذا المبلغ فرع عليه قوله: "فَلَمۡ تَقۡتُلُوهُمۡ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ قَتَلَهُمۡۚ وَمَا رَمَيۡتَ إِذۡ رَمَيۡتَ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ"[284].
بناءً على ذلك يتضح أن إسناد الفعل إلى المؤمنين أو إلى النَّبِيّ الأَكْرَم ص كان باعتبار ظاهر الأمور، ونفي الفعل وسلبه عنهم وإسناده إلى الله تعالى باعتبار الأمر الواقعي وحقيقة ما جرى، ولا علاقة لذلك باستقلال أشخاص سوى الله عن الله أو عدم استقلالهم عن الله.
[279] وهذا العمل يدل على أنهم لا يبحثون عن الحقيقة وأنهم اتَّخذوا قرارهم من قبل وأصدروا حكمهم قبل دراسة الآية. [280] «نقد و تحليلى پيرامون وهّابيگرى» (نقد وتحليل حول الوهَّابيَّة)، مركز الطباعة والنشر التابع لمنظمة التبليغ الإسلامية، ص 163. [281] نقل هذه الواقعة علماء السيرة مثل ابن هشام، ونقلها المُفسِّرون كما نقلتها أيضاً كتب أسباب النزول. [282] بالنسبة إلى موضوع السبب في نسبة القرآن بعضَ المعجزات أحياناً إلى غير الله، كقوله مثلاً على لسان عيسى (ع): ﴿وَأُبۡرِئُ ٱلۡأَكۡمَهَ وَٱلۡأَبۡرَصَ وَأُحۡيِ ٱلۡمَوۡتَىٰ ...﴾[ال عمران: ٤٩] راجعوا كتابنا «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول»، ص 146-147، والكتاب الحالي ص 144 فما بعد. [283] لم تتفق آراء العلماء حول مشاركة الملائكة المباشرة في غزوة بدر، فقد ذهب بعضهم إلى أن مشاركة الملائكة لم تكن أكثر من تثبيت قلوب المؤمنين! وإذْ لم أرغب في التكلم وحدي دون الإتيان بكلام الخصم، لم أتكلم عن مشاركة الملائكة المباشرة، لكن رأيي الشخصي يتفق مع رأي ذلك الفريق من العلماء الذي يرى أن الملائكة تدخلوا بشكل مباشر في المعركة، وذلك استناداً إلى أخبار عديدة وردت في هذا الشأن في الكتب الموثوقة (راجعوا كتاب خيانت در گزارش تاريخ [أي الخيانة في رواية التاريخ]، انتشارات چاپخش، الطبعة الأولى، الجزء الأول، ص 200 إلى 203). ولو تأملنا القرآن للاحظنا أن الآية 12 من سورة الأنفال جاءت متابعةً للآيات التي كانت تُعدِّد أنواع المدد الإلهي الذي منَّ الله به على المجاهدين يوم بدر، وأهمُّ نقطة هنا هي أن الأمرين الإلـهيين الصادرين في نهاية الآية 12 [أي قوله تعالى: ﴿ فَٱضۡرِبُواْ فَوۡقَ ٱلۡأَعۡنَاقِ وَٱضۡرِبُواْ مِنۡهُمۡ كُلَّ بَنَانٖ﴾] كانا ذا خصوصية خاصة لا تتناسب مع المؤمنين لأن إنجاز الأمر الثاني لم يكن في وُسع المؤمنين أبداً وقد قال الله تعالى: ﴿ لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَا﴾[البقرة: 286]، إذْ من الواضح تماماً أن المطلوب من المؤمنين كان مواجهة العدو المهاجم وقتاله وقتل أفراده على أكثر تقدير، لا فرق في ذلك بين أن يضرب المجاهد صدر العدو بسيفه أو كتف العدو أو بطنه أو يرميه بسهم بقوسه، فهذا يُحقِّق المطلوب، ومن ناحية المبدأ فإن ظروف المعركة سريعة التغيُّر إلى حدّ لا يُمكن أن يتم من قبل تحديد عضو العدو الذي على المجاهدين أن يستهدفوه بسيوفهم، ومن ناحية المبدأ أيضاً نادراً ما يحصل أن يقطع الإنسان بنان (أي رؤوس أصابع) عدوِّه الذي يستخدمه العدو عادةً للإمساك بسلاحه ويُحرِّكه في كل اتِّجاه بشكل دائم، إلا إذا كان المُخاطَب بمثل هذا الطلب يتمتع بقدرة فوق بشرية. (فَتَأَمَّل) علاوةً على ذلك فإن الآية رقم 14 تُخاطب الكفار والآية رقم 15 تُخاطب المؤمنين مبتدئة بعبارة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، وليس ثمَّة أيُّ قرينة قبل ذلك تدلُّ على أن المُخاطَبين هم المؤمنون. بناءً على ذلك لا يُمكننا أن نقول دون دليل قوي وصحيح أن الآية 12 التي أولها خطابٌ للملائكة بلا أيّ شُبهة، ذيلُها خطابٌ للمؤمنين! ولذلك فالذين يعتبرون أن الأمرين الصادرين في الجزء الأخير من الآية 12 مُوجَّهان للمؤمنين يقولون كلاماً مخالفاً لظاهر الآية. أضف إلى ذلك أنه لو انحصر عمل الملائكة بتثبيت المؤمنين لما كان هناك من ضرورة لذكر عدد الملائكة (سورة آل عمران: 124، والأنفال: 9) ولا لذكر صفتهم بأنهم «مُسَوِّمِينَ» [آل عمران: 125]. (فَتَأَمَّل). فهذا دليل آخر أيضاً يثبت مشاركة الملائكة المباشرة في المعركة، في حين أنه في معركة الأحزاب لم يُذكر عدد الملائكة لأنهم لم يُشاركوا بشكل مباشر في تلك المعركة. بناءً على ذلك فإن معنى الآية 17 من سورة الأنفال واضح جداً ولا حاجة إلى تلفيقات العُرفاء والصوفية لأن الآية الكريمة تقول: لا تعتبروا هذا النصر ناتجاً عن جهادكم وسعيكم وحسب بل هذا النصر غير العادي كان نتيجةً للمدد الإلهي المباشر وتدخل القوى الغيبية التي أرسلها الله لمساعدتكم. [284] يُمكنكم أيضاً أن تُراجعوا في هذا الصدد سائر كتب التفسير مثل تفسير «مجمع البيان» أو «تفسير نمونه».