تعارض مفاتيح الجنان مع القرآن

فهرس الكتاب

المَقْصَدُ الثّاني: في زيارات الأمير (عليه السلام) المَخْصُوصَة

المَقْصَدُ الثّاني: في زيارات الأمير (عليه السلام) المَخْصُوصَة

أورد الشيخ عبَّاس تحت هذا العنوان زيارةً خاصةً بيوم عيد الغدير وذكر لها ثوابات عجيبة وغريبة، وناقل هذه الثوابات راوٍ غير موثوق يُدعى «ابن أبي نصر [البزنطي]»[710] وقد تكلَّمنا في كتابنا الحاضر هذا (ص 347 فما بعد) إلى حدٍّ ما على عيد الغدير وما يتعلّق به من مسائل فلا نُكرِّر ذلك هنا، ونُحيل القُرَّاء المحترمين إضافةً إلى ما ذكرناه هناك إلى الكتاب القيم «شاهراه اتِّحاد» [طريق الاتِّحاد] ونأمل أن لا يغفلوا عن مطالعته.

للأسف، إن التأكيد والإصرار على مسألة الغدير بعد مئات السنين من عهد الخلفاء الراشدين ليس فيه أيّ منفعة لمسلمي عصرنا، فما الفائدة التي نجنيها من الإصرار على إثبات خلافة زيد أو عمرو في هذا الزمن الذي وقعت فيه الفُرقة بين المسلمين وأصبح أتباع كل مذهب يُعادون أتباع المذاهب الأخرى وصار المسلمون في غاية الضعف وتأخَّروا عن الشعوب الأخرى؟! ربما كان من الأفضل أن يستلم علي (ع) زمام الخلافة مباشرةً بعد رحيل رسول الله ص، ولكن ما علاقة هذا الأمر بزمننا الحاضر؟ فهذا الأمر خرج الآن عن قدرتنا ولا نستطيع الآن أن نخلع أبا بكر من الخلافة ولا أن نولِّيَها علياً (ع). ولهذا السبب جاء إرشاد القرآن لنا بشأن الأمم السابقة: ﴿تِلۡكَ أُمَّةٞ قَدۡ خَلَتۡۖ لَهَا مَا كَسَبَتۡ وَلَكُم مَّا كَسَبۡتُمۡۖ وَلَا تُسۡ‍َٔلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ ١٣٤[البقرة: 134 وَ141].

ألا ترون أيها الشيعة الذين تهتمُّون ليل نهار وفي السر والعلن بأمر الخليفة أو الإمام المُحِقّ وغير المُحِقّ قبل ألف سنة، أن حُكَّامَكُم اليوم أسوأ بكثير من حُكَّام صدر الإسلام؟ فلماذا لا تهتمُّون بيومكم هذا ولا تسعون إلى تحصيل حقوقكم؟!

نعم، لقد تمَّ خلط الحق بالباطل في زيارات «المقصد الثاني» بهدف خداع عوام الناس وجاء في نصّ الزيارة -بحُجَّة إظهار المحبَّة والولاء لأمير المؤمنين (ع)- عبارات مفادها أنك آمنتَ حين كان الآخرون مشركين، وصدَّقْتَ حين كان الآخرون مكذِّبين، وجاهدتَ ولم يجاهد الآخرون...... الخ.

وينبغي أن نقول: أحد هؤلاء الأفراد الفاقدين للإيمان هو واضع هذه الزيارة ذاته الذي أراد إثارة الفتنة، وإلا فأيّ فائدة تعود علينا من إساءة الكلام بحق الأسلاف ومن ذمِّهم والقدح بهم بعد قرون متمادية من رحيلهم؟! نعم، من المعلوم أن أصحاب رسول الله ص كانوا في البداية مشركين وكافرين ومُكذِّبين ولكنهم آمنوا بالتدريج وَقَبِلَ اللهُ المنَّان منهم إيمانهم بل أثنى على فريق منهم في كتابه. فما علاقتكم الآن بما كانوا عليه في الماضي؟ خاصةً الأشخاص الذين ذكرهم أمير المؤمنين علي ÷ بالخير وأثنى عليهم.

لكن واضع هذه الزيارة أخذ بالتملُّق لأمير المؤمنين للوصول إلى مقصده -الذي لم يكن خيراً قطعاً- وأخذ يقول: "السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا سَيِّدَ الْوَصِيِّينَ وَيَا سَيِّدَ الْمُسْلِمِين وَيَا مَوْلَى المُؤْمِنين، السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا إِمَامَ الْمُتَّقِينَ، وَيَا سَيِّدَ الأَوْصِياء، وَيَا وَارِثَ عَلْمِ النَّبِيِّين (في حين أن العلم لا يورث وراثة)، أشهد أنك كذا وكذا ....الخ".

وينبغي أن نقول: مهما كانت لأمير المؤمنين (ع) من فضيلة فهذا لا علاقة له بِكَ يا واضِعِ هذه الزيارة. إن حضرة الأمير (ع) كان يسعى أكثر من أيّ شخص آخر لأجل الوحدة الإسلامية واتِّحاد المسلمين وكان يبذل التضحيات في هذا السبيل، أما أنت فلا تسعى إلا في إيجاد الفُرقة، فما علاقتك به؟! نعم، لقد اعتبر هذا المُفَرِّق للمسلمين آياتٍ من القرآن مُختصَّةً بعَلِيٍّ (ع) وقال مثلاً: "أَشْهَدُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ الشَّاكَّ فِيكَ مَا آمَنَ بِالرَّسُولِ الْأَمِينِ "!! يُريد أن يُصوِّر أن عَلِيّاً أصل من أصول الدين لأن الإيمان بأصول الدين جميعها واجب. هذا في حين أن عَلِيّاً كان يعتبر نفسه تابعاً للدين ولا يعتبر نفسه لا من أصول الدين ولا من فروعه. ثم قال واضع الزيارة: "الدِّينِ الْقَوِيمِ الَّذِي ارْتَضَاهُ لَنَا رَبُّ الْعَالَمِينَ وَأَكْمَلَهُ بِوَلَايَتِكَ يَوْمَ الْغَدِيرِ"!! وهذا افتراء على اللهِ الذي قال: ﴿فَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّنِ ٱفۡتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبٗا لِّيُضِلَّ ٱلنَّاسَ بِغَيۡرِ عِلۡمٍۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّٰلِمِينَ ١٤٤[الانعام: ١٤٤] لأن الله تعالى بيَّن لنا أصول الدين بشكل واضح في القرآن ولم يذكر فيها موضوع الولاية[711]. (فَتَأَمَّل جداً).

71ثم قال: "أَشْهَدُ أَنَّكَ..... الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيم ‏"!! فنسأل واضع الزيارة: فهل كان عَلِيٌّ (ع) يمزح عندما كان يقول في كل يوم مرَّات عديدة في صلواته: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، إذْ كان هو نفسه الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ؟! أم أن عليّاً كان يقصد اللهم اهدني إلى نفسي؟! إنَّ هذا يُبيِّنُ أن واضع هذه الزيارة لم يكن من أهل العلم بالقرآن الكريم الذي جاء فيه: ﴿قُلۡ إِنَّنِي هَدَىٰنِي رَبِّيٓ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ دِينٗا قِيَمٗا مِّلَّةَ إِبۡرَٰهِيمَ حَنِيفٗاۚ وَمَا كَانَ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ ١٦١[الانعام: ١٦١]. فبناءً على ما بيَّنه القرآن الكريم لم يكن النبيّ ولا عَلِيٌّ «الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيم» بل كانا قد هُديا إلى «الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيم» وكانا يدعوان الناس إلى «الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيم».

ولو كان واضع هذه الزيارة على معرفة بالقرآن الكريم لأدرك أنه ليس من الأصلح في حقِّ عَلِيٍّ (ع) أن يُصَوَّرَ بأنه هو الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيم لأن كتاب الله يقول: ﴿قَالَ فَبِمَآ أَغۡوَيۡتَنِي لَأَقۡعُدَنَّ لَهُمۡ صِرَٰطَكَ ٱلۡمُسۡتَقِيمَ ١٦[الاعراف: ١٦]، فهل يُمكننا القول: إن الشيطان كان يقعد فقط على طريق عَلِيٍّ (ع)؟! لاحظ أيها القارئ المحترم أيّ خيانة للقرآن الكريم قام بها واضع هذه الزيارة وكيف فسَّر آيات الله بِرَأْيِه، وكيف يُكرّر قوله في الزيارة إن كل من لا يؤمن بتلفيقاته هذه فهو ضالٌّ قد عدل عن الحق أو عاند الحق، هذا في حين أن الواقع أن واضع الزيارة ومُلفِّقها هو الذي لم يكن له إيمان حقيقي بالله وكتابه وإلا لم يضع صفحات عديدة من الأمور الدينية وينسبها لأئِمَّة الدين الكرام.

نعم، لقد تمَّ التلاعب في هذه الزيارة بمعاني كثير من آيات القرآن ومن جملتها الآية 153 من سورة الأنعام المكية[712]. ولو رجع القارئ المحترم إلى القرآن الكريم للاحظ أن الله تعالى قال في الآيتين اللتين قبلها: ﴿قُلۡ تَعَالَوۡاْ أَتۡلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمۡ عَلَيۡكُمۡۖ أَلَّا تُشۡرِكُواْ بِهِۦ شَيۡ‍ٔٗاۖ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَٰنٗاۖ وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَوۡلَٰدَكُم مِّنۡ إِمۡلَٰقٖ نَّحۡنُ نَرۡزُقُكُمۡ وَإِيَّاهُمۡۖ وَلَا تَقۡرَبُواْ ٱلۡفَوَٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنۡهَا وَمَا بَطَنَۖ وَلَا تَقۡتُلُواْ ٱلنَّفۡسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۚ ذَٰلِكُمۡ وَصَّىٰكُم بِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ ١٥١ وَلَا تَقۡرَبُواْ مَالَ ٱلۡيَتِيمِ إِلَّا بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُ حَتَّىٰ يَبۡلُغَ أَشُدَّهُۥۚ وَأَوۡفُواْ ٱلۡكَيۡلَ وَٱلۡمِيزَانَ بِٱلۡقِسۡطِۖ لَا نُكَلِّفُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۖ وَإِذَا قُلۡتُمۡ فَٱعۡدِلُواْ وَلَوۡ كَانَ ذَا قُرۡبَىٰۖ وَبِعَهۡدِ ٱللَّهِ أَوۡفُواْۚ ذَٰلِكُمۡ وَصَّىٰكُم بِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ ١٥٢[الانعام: ١٥١، ١٥٢].

ثم بعد ذلك قال: ﴿وَأَنَّ هَٰذَا صِرَٰطِي مُسۡتَقِيمٗا فَٱتَّبِعُوهُۖ وَلَا تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمۡ عَن سَبِيلِهِۦۚ ذَٰلِكُمۡ وَصَّىٰكُم بِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ ١٥٣[الانعام: ١٥٣].

فأولاً: هذه السورة مكية ولم تكن مسألة الولاية وخلافة عَلِيٍّ (ع) مطروحةً أصلاً في الفترة المكية من عهد الرسالة. ثانياً: كما لاحظتم لا علاقة للآيات المذكورة أعلاه بحضرة الأمير (ع) ورغم ذلك فإن واضع الزيارة يقول: "وَأَشْهَدُ أَنَّكَ الْمَعْنِيُّ بِقَوْلِ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ: وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ "!! وَمِنْ ثَمَّ فقد لعب في الواقع بمعنى آيات القرآن. وكل من كان له أدنى معرفة بالقرآن يعلم أن النبيّ والإمام ليسا «الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيم» بل هما سالكا «الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيم» والهاديان إلى «الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيم». كما قال تعالى لنبيِّه [بعد أن تلا عليه ما حرَّمه وما أمره به من وصايا]: ﴿وَإِنَّكَ لَتَهۡدِيٓ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ ٥٢ صِرَٰطِ ٱللَّهِ[الشورى: ٥٢، ٥٣]. ولم يقل: «وَإِنَّكَ لَأَنْتَ الصِّرَاطُ». (فلا تتجاهل).

72ثم يقول: "لَعَنَ اللهُ مَنْ سَاوَاكَ بِمَنْ نَاوَاك ‏"، وفي هذا الكلام مخالفة لأمير المؤمنين نفسه الذي قال في الخطبة 164 من نهج البلاغة مُخاطباً عثمان: "إِنَّ النَّاسَ وَرَائِي وَقَدِ اسْتَسْفَرُونِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ، وَوَاللهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لَكَ؟! مَا أَعْرِفُ شَيْئاً تَجْهَلُهُ وَلا أَدُلُّكَ عَلَى أَمْرٍ لا تَعْرِفُهُ، إِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نَعْلَمُ مَا سَبَقْنَاكَ إِلَى شَيْءٍ فَنُخْبِرَكَ عَنْهُ وَلا خَلَوْنَا بِشَيْءٍ فَنُبَلِّغَكَهُ، وَقَدْ رَأَيْتَ كَمَا رَأَيْنَا وَسَمِعْتَ كَمَا سَمِعْنَا وَصَحِبْتَ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وَآله) كَمَا صَحِبْنَا، وَمَا ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ ولا ابْنُ الْخَطَّابِ بِأَوْلَى بِعَمَلِ الْحَقِّ مِنْكَ، وأَنْتَ أَقْرَبُ إِلَى رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) وَشِيجَةَ رَحِمٍ مِنْهُمَا، وقَدْ نِلْتَ مِنْ صِهْرِهِ مَا لَمْ يَنَالا...... الخ".

وعلى كل حال، فإن الآيات التي أتى بها واضع الزيارة في نصِّ زيارته إما آيات عامة وليست خاصة بعَلِيٍّ (ع) وحده -هذا رغم أن عَلِيّاً (ع) من أفضل مصاديق الآيات المذكورة- (فَتَأَمَّل). أو أنها لا علاقة لها بحضرة الإمام أصلاً. فمثلاً يقول: "وَلَقَدْ أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِيكَ مِنْ قَبْلُ وَهُمْ كَارِهُونَ ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَن يَرۡتَدَّ مِنكُمۡ عَن دِينِهِۦ فَسَوۡفَ يَأۡتِي ٱللَّهُ بِقَوۡمٖ يُحِبُّهُمۡ وَيُحِبُّونَهُۥٓ أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلۡكَٰفِرِينَ يُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوۡمَةَ لَآئِمٖۚ ذَٰلِكَ فَضۡلُ ٱللَّهِ يُؤۡتِيهِ مَن يَشَآءُۚ وَٱللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٌ ٥٤ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَهُمۡ رَٰكِعُونَ ٥٥ وَمَن يَتَوَلَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ فَإِنَّ حِزۡبَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلۡغَٰلِبُونَ ٥٦"[713]. مع أن هذه الآيات لا تتعلّق بعَلِيٍّ (ع).

لننتبه إلى أن واضع الزيارة كان جاهلاً تماماً (أو معانداً جداً) فيما ذكره بشأن الآية 54 من سورة المائدة، إذ لم يكن مُطَّلعاً حتى على تفاسير الشيعة، وإلا لعلم أن هناك 13 طائفة -ثلاثة منهم في السنة الأخيرة من الحياة المباركة لرسول الله ص والبقية في زمن خلافة أبي بكر- ارتدُّوا عن الإسلام ومنهم الأسود العنسي الكاهن في اليمن ومُسيلمة الكذاب في اليمامة وطُليحة بن خويلد من بني أسد وَ...... -المذكورين بالتفصيل في كتب التفسير والتاريخ- وقد حاربهم المسلمون في زمن خلافة أبي بكر فهزموهم جميعاً بفضل الله وبنُصرته وانتصر الإسلام. ويجب أن نلاحظ أن الفعل في الآية 54 جاء في زمن المستقبل (فَسَوۡفَ يَأۡتِي ٱللَّهُ...) ولما كانت سورة المائدة آخر سورة طويلة نزلت وأخبرت الآية عن ارتداد عدد من الناس وقد تحقق ما أخبر به القرآن عندما ارتدّت جماعات من الناس -كما ذكرنا- في السنة الأخيرة من حياة رسول الله ص وارتدَّ آخرون بعد رحيله ص.

بناءً على ذلك فإن أوضح مصداق لقوله تعالى: «يُحِبُّهُمۡ وَيُحِبُّونَهُۥٓ» هم مجاهدو الإسلام زمن أبي بكر الذين حاربوا المُرتدِّين. (فلا تتجاهل). ورغم أن الآية المذكورة غير منحصرة بحضرة عَلِيٍّ (ع) إلا أن هذا لا يتنافى مع كون عَلِيٍّ (ع) في صدر مصاديق الآية بسبب دعمه ومعاونته التامَّة لأبي بكر في الحروب المذكورة.

أما قول ذلك الفريق من علماء الشيعة الذين يقولون: إن مصداق الآية المذكورة عَلِيٌّ (ع) الذي حارب أهل البصرة والشام، فهو قولٌ غيرُ صحيح لأنه رغم أن حضرة الأمير حارب بشدة من خرجوا عليه وحاربوه إلا أنه لم يعتبرهم مُرْتَدّين (فلا تتجاهل)، ولم يستأصلهم بل تعامل معهم كمسلمين ولم يقل عنهم إنهم كانوا كافرين أو مُرْتَدّين[714]، في حين أن الآية التي تمّ الاستشهاد بها تتكلم عن المُرتدِّين ولهذا السبب عُرفت حروب أبي بكر في التاريخ بـ «حروب الرِّدَّة» أما حروب حضرة عَلِيٍّ (ع) ضدَّ الخارجين عليه فعُرِفت بقتال القاسطين والناكثين والمارقين. نعوذ بالله تعالى من العصبيَّة.

في الزيارة الخاصة الثانية أيضاً نجد كثيراً من قرائن الكذب، من ذلك وصْفُ عَلِيٍّ بأوصاف يبرأ منها الإمام (ع)، كقول الزائر مثلاً: «يا عصمة الأولياء، يا خالص الأخلاء » وهي عبارات ينبغي أن يأتي واضع الزيارة ويُوضِّح لنا مُراده منها! أو قوله: "السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا قَسِيمَ الْجَنَّةِ وَلَظَى. السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا مَنْ شَرُفَتْ بِهِ مَكَّةُ وَمِنًى ‏"؟!! في حين أن الإمام لم يصف نفسه أبداً بمثل هذه الأوصاف بل كان يعتبر نفسه مُكلَّفاً بتعظيم مكة ومِنى وزيارتهما ويُؤمن بالثواب على ذلك وكان يحجُّ بقصد نيل الأجر والثواب عند الله. كما قال: "أَنْ تَكْتُبَنِي مِنْ حُجَّاجِ بَيْتِكَ الْحَرَامِ الْمَبْرُورِ حَجُّهُمْ"[715]. فليس في ذكر هذه الجمل المُسجَّعة سوى غُلُوٍّ نهى الإسلام عنه (النساء: 171) والكل يعلم أن حضرة الإمام كان يكره المديح. هل يُمكن أن يُسَرَّ الإمام من وقوف الناس مقابل قبره ليقوموا بكل هذا التملُّق والتزلُّف وكيل المدائح والإطراء؟ كلا والله. بل إنه سيُخاصم يوم القيامة قارئ هذه الزيارة كما قال تعالى: ﴿وَمَنۡ أَضَلُّ مِمَّن يَدۡعُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَن لَّا يَسۡتَجِيبُ لَهُۥٓ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ وَهُمۡ عَن دُعَآئِهِمۡ غَٰفِلُونَ ٥ وَإِذَا حُشِرَ ٱلنَّاسُ كَانُواْ لَهُمۡ أَعۡدَآءٗ وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمۡ كَٰفِرِينَ ٦[الاحقاف: ٥، ٦].

ماذا سيُجيب هؤلاء القوم عَلِيّاً إذا قال لهم يوم القيامة: هل قرأتم في القرآن أنه يجب عليكم أن تدعوني حتى بعد وفاتي أو تأتوا من مناطق بعيدة إلى قبري وتطلبوا مني حوائجكم وتقرؤوا أمام قبري صحائف من المدائح لي وأنواع الثناء؟! لماذا وبأمر من وضعتم لأجلي هذه العبارات المشوبة بالغُلوّ والتملُّق؟! لماذا جعلتموني وسيلةً لكم وكنتم في حياتي تُؤذونني، ثم لم تكفُّوا عن إيذائي بعد وفاتي بل أقمتم كل هذه الفتن واللغط والضجيج بحُجَّة موالاتي ونُصرتي وأصبحتم أعداء بعضكم بعضاً وأرقتم في هذا السبيل هذه الدماء كلَّها؟!

ومن حيث المبدأ، لم يطلب الله منا مدح الماضين ولم يكن رسول الله ص وأئمة الإسلام الكرام يُحبّون هذا التملُّق والمدائح والمراثي. وبدلاً من هذه الأعمال الأَوْلَى أن يُقرأ كتاب الله ويُفهَم ويُعمَل بتعاليمه. لم يطلب الله ورسوله منا مثل تلك الأعمال. ولم يوصِ الأئمة أثناء حياتهم في هذه الدنيا الفانية أحداً بأن يأتي ويحضر عند قبورهم ويتملّقهم ويمدحهم، بل كانوا ينهون عن المديح، أما الآن وقد ذهبوا ورحلوا عن هذه الدنيا وانتقلوا إلى دار البقاء ولم يعد لهم علم بمدائحنا فما فائدة مثل هذه الأعمال؟! إن الذي لم يكن يرضى بالمدائح في حال حياته الدنيوية كيف يُمكننا أن نقول إنه أوصى بفعل ذلك بعد وفاته وأمر أن تُقرأ عشرات الصفحات في مدحه؟! ولكن ما العمل، إننا لا نستطيع أن نُفهم هذه الحقائق للعوام! ما أحسن ما قاله الشاعر:

(أربعة أبيات بالفارسية) وترجمتها كالتالي:

إنني محتار في أمر عُبَّاد الأموات هؤلاء

هذه الطائفة التي تقتل الحيّ وتعبد الميت!

أذلُّوه بالجفاء عندما كان حياً

فإذا مات أعزُّوه ورفعوه بأيديهم!

عندما كنا لم نكن شيئاً

كان يقتلنا غمُّ الوحدة

وعندما ذهبنا أصبح الكل صديقاً لنا

نمنا واستيقظ الجميع!

[710] عرَّفنا به في كتاب «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول»، ص 257. [711] راجعوا الصفحات 306 - 318 من الكتاب الحاضر. [712] نصُّ الآية هو: ﴿وَأَنَّ هَٰذَا صِرَٰطِي مُسۡتَقِيمٗا فَٱتَّبِعُوهُۖ وَلَا تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمۡ عَن سَبِيلِهِۦۚ ذَٰلِكُمۡ وَصَّىٰكُم بِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ ١٥٣[الأنعام: 153]. (الـمُتَرْجِمُ) [713] حول الآية 55 من سورة المائدة من الضروري مراجعة «شَاهْرَاه اتِّحَاد» [طَرِيق الاتِّحاد]، (ص 145 فما بعد)، و «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول» الصفحات 317 و 411 إلى 414 و 622 - 623. [714] لو رجعنا إلى الكتب التي أُلِّفت حول سيرة أمير المؤمنين علي ÷لرأينا أن حضرة الأمير لم يتعامل أبداً مع الذين حاربوه بوصفهم مُرتدّين وكفرة. وليس لديَّ اليوم الكتب اللازمة لبيان هذا الأمر لذا سأنقل كنموذج فقط ما ذكره محمد بن جرير الطبري في وقائع سنة 36 للهجرة حيث قال إنه بعد انتصار عَلِيٍّ في معركة الجمل على مُناوئيه: ".... وأقام عليُّ ابن أبي طالب في عسكره ثلاثة أيام لا يدخل البصرة، وَنَدَبَ الناسَ إلى موتاهم فخرجوا إليهم فدفنوهم فطاف على من معهم في القتلى فلما أُتي بكعب بن سور قال: زعمتم أنما خرج معهم السفهاء وهذا الحبر قد ترون وأتى على عبد الرحمن بن عتاب فقال: هذا يعسوب القوم، يقول الذي كانوا يطيفون به يعني أنهم قد كانوا اجتمعوا عليه ورضوا به لصلاتهم، وجعل عَلِيٍّ كلما مرَّ برجل فيه خير قال: زعم من زعم أنه لم يخرج إلينا إلا الغوغاء هذا العابد المجتهد. وصَلَّى على قتلاهم من أهل البصرة وعلى قتلاهم من أهل الكوفة وصَلَّى على قريش من هؤلاء وهؤلاء فكانوا مدنيين ومكيين ودفن على الأطراف في قبر عظيم، وجمع ما كان في العسكر من شيء ثم بعث به إلى مسجد البصرة أن من عرف شيئاً فليأخذه إلا سلاحاً كان في الخزائن عليه سمة السلطان فإنه مما بقي ما لم يعرف خذوا ما أجلبوا به عليكم من مال الله عز وجل لا يحل لمسلم من مال المسلم المتوفى شيء". (تاريخ الأمم والملوك، دار القاموس الحديث، ج 5، ص 222). فكما نلاحظ لم يعتبر حضرة عَلِيٍّ (ع) من خرجوا لحربه مُرتدّين ولا كافرين بل تعامل معهم بوصفهم بُغاة. ولم يغنم عَلِيٌّ (ع) في جميع حروبه سواءً في الجمل أم النهروان أم صفين شيئاً من أموال مُحاربيه، وصلَّى على قتلاهم. وتعامل الإمام في صفين مع الأسرى المقبوض عليهم بالصورة التالية: أولاً: اقترح عليهم طاعته ومُبايعته فإن قبلوا أطلق سراحهم وإن لم يقبلوا فكان يأخذ سلاحهم ويستحلفهم بالله أن لا يخرجوا إلى مُحاربته من جديد ثم يُطلق سراحهم، أما إن رفضوا الاقتراحَين فكان يحتفظ بهم أَسْرَى مُعتقلين لديه. وقال عليٌّ (ع) عن أهل الشام: "أَنَّ رَبَّنَا وَاحِدٌ ونَبِيَّنَا وَاحِدٌ ودَعْوَتَنَا فِي الإسْلامِ وَاحِدَةٌ ولا نَسْتَزِيدُهُمْ فِي الإيمَانِ بِاللهِ والتَّصْدِيقِ بِرَسُولِهِ ولا يَسْتَزِيدُونَنَا" (نهج البلاغة، الخطبة 58)، إلى درجة أنه لم يكن يرضى أن يقوم أتباعه بسبِّ أهل الشام وقال: "إِنِّي أَكْرَهُ لَكُمْ أَنْ تَكُونُوا سَبَّابِينَ ولَكِنَّكُمْ لَوْ وَصَفْتُمْ أَعْمَالَهُمْ وذَكَرْتُمْ حَالَهُمْ كَانَ أَصْوَبَ فِي الْقَوْلِ وأَبْلَغَ فِي الْعُذْرِ وَقُلْتُمْ مَكَانَ سَبِّكُمْ إِيَّاهُمْ، اللَّهُمَّ احْقِنْ دِمَاءَنَا ودِمَاءَهُمْ وأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا وبَيْنِهِمْ" (نهج البلاغة، الخطبة 206). من البديهي أن هذا السلوك يبيِّن بوضوح أن الإمام لم يكن يعتبرهم مرتدين أو كافرين! (فلا تتجاهل). [715] الصحيفة العلوية، دعاؤه في اليوم الثلاثين من الشهر.