حديث صحفي[من مجلة الفجر القطرية في 19 رمضان 1396هـ (13/9/1976م)] تفسير القرآن على ضوء النظريات العلمية الحديثة
قلت لفضيلة الشيخ:
من أبرز المشاكل على ساحة الفكر الديني الآن.. قضية القرآن.. فريق يتشيع لتفسير القرآن على ضوء أحدث النظريات العلمية، حتى لو اضطروا إلى تأويل النص وتحميله فوق ما يتحمل.. وبعضهم يلح على ضرورة إبعاد القرآن عن ذلك كله، وعدم إقحامه في نظريات التاريخ والجغرافيا والطب والفلك... إلخ. ما رأي فضيلتكم؟
الجواب [رقم: 307]:
اعتدل الشيخ في جلسته... وصمت قليلاً ثم قال:
القرآن أنزله الله سبحانه وتعالى عظة وعبرة، وهداية للخلق... يهديهم للتي هي أقوم، ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرًا كبيرًا، وينذر الذين لا يؤمنون بالعذاب الأليم.
القرآن هداية لأنه سفر السعادة، ودستور الهداية، وقانون الفضيلة، الواقي من الرذيلة، وهو أيضًا كفيل بحل مشاكل العالم، ما وقع في هذا الزمان، وما سيقع مستقبلاً. يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا ٣٣﴾[سورة الفرقان، الآية: 33].
غير أن الله سبحانه وتعالى أخبر أنه أنزل آيات محكمات، والآيات المحكمات لا نسخ فيها ولا تغيير، آيات محكمات هن أم الكتاب؛ وهي التي يعتمد عليها في التحليل والتحريم والأمر والنهي؛ وأخر متشابهات؛ فأما الذين في قلوبهم مرض فيتبعون المتشابه ويجادلون به. وفي الحديث: «إذا رأيت الذين يتبعون المتشابه من القرآن فأولئك هم الذين قال الله بشأنهم، فاحذروهم» [رواه البخاري (4547)، ومسلم (2665) عن عائشة رضي الله عنها بنحوه].
أجل؛ إن القرآن لم ينزل لإدلال الناس وهدايتهم إلى اختراع الصنائع، أو الإخبار بما يحدث من تطورات الأحوال والأعمال والفنون. لأن هذا ليس من شأنه.. وهذا كله موكول إلى حذقهم وتجاربهم ومدى علمهم، من يوم خلق الله آدم إلى يومنا.
يصمت الشيخ قليلاً ثم يقول:
ولكنك تسأل عما يعمد البعض إليه الآن من مطابقة بعض النظريات العلمية بما جاء في كتاب الله من آيات كريمة.
أقول: إن العلم الصحيح لا يرده القرآن.. ولا يختلف معه... المهم أن تكون النظرية العلمية التي يراد مطابقتها بما ورد في كتاب الله في حكم الحقيقة العلمية التي انتهى أوان بحثها أو مراجعتها أو تعديلها.. أي أنها أصبحت حقيقة علمية مستقرة لا اختلاف عليها.. هنا لن تجد تعارضًا بينها وبين آية في كتاب الله.. بل يبقى أن القرآن سبق جهود كل هؤلاء العلماء وأخبرنا بها قبلهم.. أي أن الله سبقهم بهذا الشيء.. مثلاً انتهوا الآن إلى أن الأرض والسماء كانت كلها كتلة واحدة، وهي ما يطلقون عليها (السديم).. كتلة من الدخان.. ثم فصلها الله.. أصبحت الأرض فلكًا واحدًا... والسماء والنجوم... إلخ. هذا ما انتهى إليه العلم، وهو نفسه ما سبق أن أخبرنا به القرآن.
قلت لفضيلة الشيخ:
ولكن الخوف أن يدفع ذلك بالبعض إلى الجنوح، تحت وطأة الرغبة العارمة في قياس كل ظواهر العلم.. والنظريات العلمية قد تتغير وقد تتناقض ببعض آيات كتاب الله.. وفي هذا ما فيه من الخطر والخطأ أيضًا؟
فأجاب:
نعم.. معك الحق.. الخوف من المغالاة والتطرف.. العلماء يخترعون صناعات عجيبة يطيرون بها عقول الناس.. وأنا أرى أنه لا يحق لنا أن نطبق القرآن على كل شيء.. القرآن إنما هو لإصلاح الدنيا والدين.. وسؤالك يذكرني بأحد التفسيرات التي أثارت من حولها الكثير من الجدل.. وهو تفسير الطنطاوي.. هكذا اسمه.. وقد قام بالتكلف والاجتهاد المبالغ فيه حتى يثبت أن كل الصنائع والمخترعات قد أخبرنا بها الله قبل أن يصل العلم إلى اختراعها.. وبالغ في مطابقة الآيات على المخترعات.. وفي النهاية سئل العالم الجليل الشيخ محمد رشيد رضا عن رأيه في ذلك، فقال قولته المشهورة: (في كل شيء إلا في التفسير).. نعم في كل شيء إلا في التفسير، وذلك حتى لا نفتح بابًا لا نعرف إلى أين يؤدي بنا.. وأنا أرى حسمًا لكل نقاش أن القرآن يحوي بالفعل الأخبار عن كل شيء وقع أو سيقع في هذا الكون.. وكل ما سيجدّ يدخل تحت قوله تعالى: ﴿ وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُون ﴾[سورة النحل، الآية: 8].
***