فتاوى بن محمود

فهرس الكتاب

الربا في الأوراق النقدية

الربا في الأوراق النقدية

السؤال: هل تقوم الأوراق المالية مقام الذهب والفضة في المنع من استدانة بعضها ببعض نسيئة؟ [7/216]

الجواب [رقم: 234]:

حرم الإسلام بيع الذهب بالفضة إلى أجل فقال: «لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ، إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَلَا تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلَا تَبِيعُوا الْفِضَّةَ بِالْفِضَّةِ، إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَلَا تَبِيعُوا مِنْهَا غَائِبًا بِنَاجِزٍ» [سبق تخريجه]. متفق عليه من حديث أبي سعيد.

فخص الذهب والفضة بالذكر لكونهما المتعامل بهما زمن النبي ﷺ، وقد قامت الأوراق المالية على اختلاف أجناسها مقام نقود الذهب والفضة في المنع من استدانة بعضها ببعض نسيئة، وكونه ينطبق عليها ما ينطبق على استدانة الذهب بالفضة نسيئة. في قوله: «وَلَا تَبِيعُوا غَائِبًا بِنَاجِزٍ» [جزء من الحديث السابق] وكما روى البخاري ومسلم عن عمر، أن النبي ﷺ قال: «الذَّهَبُ بِالْوَرِقِ - أي: الفضة - رِبًا إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ» [صحيح البخاري (2134)، وصحيح مسلم (1586) واللفظ له]، يعني يدًا بيد، فلا يجوز استدانة أحدهما بالآخر نَسَاءة.

وليس الحكم مخصوصًا بهما، ولا مقصورًا عليهما دون ما يقوم مقامهما، ويعمل عملهما في القيمة والثمنية؛ فإن القواعد الشرعية تعطي النظير حكم نظيره، وتسوي بينهما في الحكم، وتمنع التفريق بينهما؛ لكون الاعتبار في أحكام الشرع هو بعموم لفظها لا بخصوص سببها.

فالشريعة منزهة عن أن تنهى عن شيء لمفسدة راجحة أو متأكدة فيه، ثم تبيح ما هو مشتمل على تلك المفسدة أو أزيد منها.

فإن الله سبحانه على لسان نبيه أوجب الحلول والتقابض في بيع الذهب بالفضة، ونهى عن بيع بعضها ببعض نسيئة، رحمة منه بأمته؛ ولهذا نرى بعض الناس يتحيل إلى التوصل إلى هذا الأمر المحرم، وإباحة تعاطيه، بجعل هذه النقود بمثابة العروض التي يسوغ بيع بعضها ببعض نسيئة، وخفي عليهم بأن حكم النظير يعطى حكم نظيره إيجابًا ومنعًا.

فمتى كان الأمر بهذه الصفة، فإن بيع أوراق العملات بعضها ببعض هي نفس ما نهى عنه رسول الله ﷺ من بيع الذهب بالفضة نسيئة.

وهذا النهي إنما صدر من الشارع الحكيم الذي وصف بقوله تعالى: ﴿لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيم ١٢٨[سورة التوبة، الآية: 128] ولم ينه عن مثل هذا الشيء إلا ومضرته واضحة، ومفسدته راجحة، وإن لم تظهر مضرته في الحال، فإنها ستظهر على كل حال كما قيل:

نبي يرى ما لا يرى الناس حوله
ويتلو كتاب الله في كل مشهد
وإن قال في يوم مقالة غائب
فتصديقها في اليوم أو في ضحى الغد

إن صاحب الدراهم - كصاحب البنك وغيره - متى انفتح له باب الطمع في بيعها إلى أجل، ثم يجري المراباة بها، فإنه يتحصل على الزيادات بطريق الربا بدون تعب ولا مشقة ولا رضى من المدين، فيفضي إلى انقطاع الإرفاق الذي شرعه الله بقوله: ﴿وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُون ٢٨٠[سورة البقرة، الآية: 280].

لأن الناس متى انفتح لهم باب استدانة النقود بالنقود؛ فإنه يسهل عليهم استدانتها عند أدنى سبب، فتتراكم الديون على الشخص من حيث لا يحتسب، فيقع أولاً في ربا الفضل، ثم يقوده إلى ربا النسيئة، والعاقبة: إلزامه بالمأثم والمغرم الذي استعاذ منه النبي ﷺ[انظر: صحيح البخاري (832)، وصحيح مسلم (589) من حديث عائشة رضي الله عنها].

وإن المشاهدة في الحاضرين، هي أكبر شاهد لتصديق نصوص الدين. فقد رأينا الذين انتهكوا حرمة هذا النهي، فاستباحوا استدانة النقود من البنوك نسيئة بلا مبالاة؛ لقصد التوسع في التجارات، أو شراء الأراضي، أو الدخول في الشركات، رأيناهم يجرون الويلات على إثر الويلات من جراء أضرار المراباة، وقد يعرض لهم ما يفاجئهم من كساد التجارات، وعدم نفاقها في سائر الأوقات.

أضف إليه ما قد يعرض لهم من حوادث الزمان، كقيام الحروب، أو الكوارث والحريق، وغيرهما مما يؤذن بالكساد والركود، فتضاعف عليهم البنوك الأرباح بطريق المراباة على سبيل التدريج، حتى يعجزوا عن وفاء ما عليهم من الديون، فتستأصل البنوك حواصل ما بأيديهم من الأموال أو العقارات. وصدق الله العظيم: ﴿يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ[سورة البقرة، الآية: 276] فترابي البنوك عليهم وهم نائمون على فرشهم.

لأن البنوك الآن تعامل الناس بربا النسيئة، الذي هو ربا الجاهلية، الذي حرمه الإسلام، ونزل في الزجر عنه كثير من آيات القرآن. وحقيقته: أنه متى حل الدين، وعجز عن الوفاء زادوا في الربح، ومدوا في الأجل، فترابي البنوك بالدين وبربحه، حتى يصير القليل كثيرًا؛ ولهذا يكفر مستحل هذا الربا عند جمهور العلماء.

وقد حَمَى النبي ﷺ هذا الحمى، وسد الطرق التي تفضي إليه، فحذّر أشد التحذير عن مقاربته رحمة منه بأمته، ولا يجني جان إلا على نفسه، وكل امرئ بما كسب رهين.

ولقد ورد في الكتاب والسنة من النهي والزجر، والتحذير والوعيد الشديد عن جريمة الربا، ما لا يرد في غيره من كبائر المنكرات، فمنها قوله سبحانه: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون ١٣٠وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِين ١٣١ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُون ١٣٢[سورة آل عمران، الآيات: 130 - 132]. ففي هذه الآية من الزجر والتقريع ما لا يخفى، وأكل الربا أضعافًا مضاعفة، هو أن يعامل به كل أحد، فيرابي بأصل الدين وبالربح.

فأمر الله المؤمنين بتقواه، وأن ينتهوا عما حرم الله، ويطيعوا الله ورسوله في امتثال الأمر، واجتناب النهي.

ثم ذكر سبحانه صفة أعمال المرابين فقال: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُون ٢٧٥[سورة البقرة، الآية: 275]. ففي هذه الآية بيان لفساد سيرة المرابين، وسوء سريرتهم، وأنهم كالمجانين في كسبهم الربا، وعدم تورعهم منه، لكون الحلال هو ما حل بأيديهم، والحرام هو ما حرموه. ثم هم يتحيلون على إباحته بدعوى إنما البيع مثل الربا؛ فيرتكبون ما ارتكبت اليهود، فيستحلون محارم الله بأدنى الحيل.

ثم عرض سبحانه على هذا المرابي عرض صلح وإصلاح، ورأي رشد وسداد، وأنه متى جاءته دعوة هدى، تردعه عن هذا الردى، فقبلها وتاب إلى الله من سوء عمله ومعاملته، فإننا لا نقول له اخرج من مالك كله، وإنما يقول الله: ﴿فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ [سورة البقرة، الآية: 275].

فمتى أسلم شخص مرابٍ، وجب عليه أن يستأنف أمره بتحسين عمله، فإن كان له ديون عند شخص أو أشخاص، وجب أن يتخلى عن الربا منها، أي الزيادة على رأس المال بإسقاطها، لاعتبار أنه ملك الغير.

ومثله ما لو قبض نقودًا معلومة من شخص أو أشخاص يعرفهم، فإنه يجب عليه أن يرد الزيادة التي قبضها، التي هي الربا الزائد على رأس المال؛ لقول الله تعالى: ﴿وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُون[سورة البقرة، الآية: 279]. وهذا معنى قول النبي ﷺ: «إِنَّ أَوَّلَ رِبًا أَضَعُ رِبَا عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ» [رواه مسلم (1218) من حديث جابر رضي الله عنه في حجة الوداع]، يعني بذلك إسقاط الزيادة الحاصلة بالمراباة.

ومثله صاحب البنك: متى كان يعامل الناس بالربا، وبالبيع المباح، ثم تاب عن تعاطي الربا، فإنه يجب عليه التخلي عن الزيادات الربوية بإسقاطها ورد ما أخذه منها إلى صاحبه، وما جهله أو نسيه مما طال عليه الزمان، فإنه يتوب إلى الله ويكثر من الصدقة، وله ما سلف، وأمره إلى الله، لقوله سبحانه: ﴿فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ - من معاملته - ﴿وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ [سورة البقرة، الآية: 275]، إن شاء عاقبه، وإن شاء عفا عنه. وأما من عاد إلى معاملته بالربا، وأصر على معصيته ﴿فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُون[سورة البقرة، الآية: 275].

***