فتاوى بن محمود

فهرس الكتاب

حكم السفر في رمضان لركاب البحر للغوص بغرض الكسب

حكم السفر في رمضان لركاب البحر للغوص بغرض الكسب

السؤال: ما حكم السفر في رمضان للذين يعملون في الغوص وهل الانغماس في الماء يفسد الصوم؟ وما أحكام قصر الصلاة في السفر؟

الجواب [رقم: 73]:

بسم الله الرحمن الرحيم

أيها السائل قد بلغني ما نشرت من طلب الإفتاء في جواز السفر في رمضان لركاب البحر الذين يغوصون فيه للاكتساب منه.

والثانية: عن الانغماس في الماء وهل يبطل به الصيام أم لا؟ ولم أزل أترقب كلام الأكابر فيها ولم أظفر من ذلك بشيء، فقلت على قدر قليل علمي، فإن يكن صوابًا فمن الله وإن يكن خطأ فمني:

الحمد لله وكفى والصلاة والسلام على نبيه المصطفى، لا يخفى على كل مسلم عاقل أن الله أرسل رسوله محمدًا بالبيان وأنزل عليه القرآن فيه آيات للناس وبيِّنات من الهدى والفرقان، وقد أوجب فيه على عباده المؤمنين الصيام وجعله أحد أركان الإسلام فقال: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ إلى قوله: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ[سورة البقرة، الآيات: 183 – 185]، وهذا أمر حتمي وإيجاب على من شهد استهلال رمضان وهو مقيم بالبلد معافىً في الجسد أن يصوم حتمًا، ثم ذكر الرخصة في الإفطار لمن كان أهلاً لها من مسافر ومريض ونحوهما بشرط نية القضاء فقال: ﴿وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ[سورة البقرة، الآية: 185] وقد اتفق العلماء بحمد الله على جواز الفطر في السفر بالكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، ولم يختلف في ذلك أحد إذا كان السفر مباحًا سواء كان برًّا أو بحرًا شتاءً أو صيفًا على رواحل أو بواخر، وإنما وقع الاختلاف في التفضيل بين الفطر والصيام، وفي قدر مسافة السفر، وفي مدة الإقامة التي ينقطع بها حكم السفر.

فذهب الإمام أبو حنيفة ومالك والشافعي إلى أن الصيام أفضل لقول الله تعالى: ﴿وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ[سورة البقرة، الآية: 184] وذهب الإمام أحمد إلى أن الفطر أفضل لحديث: «لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ» [رواه البخاري (1946)، ومسلم (1115) من حديث جابر رضي الله عنه] ولأحاديث أخر، والكل جائز بالاتفاق لما في الصحيحين عن أنس قال: خرجنا مع رسول الله ﷺ في بعض أسفاره فمنا الصائم ومنا المفطر فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم[رواه البخاري (1947)، ومسلم (1118) بنحوه]، وقد قال حمزة بن عمرو الأسلمي: يا رسول الله إني أجد بي قوة على الصيام في السفر فهل علي جناح؟ فقال النبي ﷺ: «هِيَ رُخْصَةٌ مِنَ اللَّهِ، فَمَنْ أَخَذَ بِهَا فَحَسَنٌ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَصُومَ فَلَا جُنَاحٌ عَلَيْهِ» [رواه مسلم (1121)] وقد صام النبي ﷺ في السفر وأفطر. وأما قدر مسافة السفر فبعضهم قال: إذا كان قاصدًا لمكان بُعده عن بلده أربعة برد جاز له القصر وهي ستة عشر فرسخًا أو يومان قاصدان لمسير الأقدام ودبيب الأجمال بالأحمال قصر وأفطر، حتى ولو قطع هذه المسافة في ساعة في نحو سيارات أو طيارة أو سفينة، وهذا مذهب الإمام مالك والشافعي وأحمد، والبحر في ذلك كالبر، والاعتبار بالمسافة لا بجري السفينة فإنها مع مساعدة الهواء لها تقطع في الساعة الواحدة ما لا يقطعه البعير من البر يومًا، والمعتبر عندنا هو نية المسافر لا وجود حقيقتها فمن نواها قَصَر وأفطر حتى ولو رجع قبل استكمالها، لكنه يصوم ويتم في رجوعه فقط.

وقد خالفهم جملة من العلماء في عدم التحديد بذلك، منهم الموفق ابن قدامة صاحب المغني وأحد شيخي مذهب الحنابلة، قال في كتابه المغني: ولا أرى لما صار إليه الأئمة من التحديد بذلك حجة، وقد أباح الله القصر لكل من ضرب في الأرض، وقد سمى النبي ﷺ اليوم سفرًا في قوله: «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ يَوْمًا إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ» [رواه البخاري (1088)، ومسلم (1339) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه] والتقدير بابه التوقيف فلا يجوز المصير إليه برأي مجرد سيما وليس له أصل يرد إليه ولا نظير يقاس عليه، والحجة مع من أباح الفطر والقصر لكل مسافر. ثم ذكر أدلة جلية من الأحاديث النبوية والآثار السلفية اكتفيت بالعزو إلى كتابه عن كتابتها حتى قال: وقد روي عن ابن عمر وابن عباس خلاف ما احتج به الأئمة، فقد قال ابن المنذر: ثبت أن ابن عمر كان يقصر إلى أرض له وهي عشرة فراسخ وكذا روي عن ابن عباس أنه قال: يقصر في اليوم ولا يقصر فيما دونه. انتهى[المغني لابن قدامة (2/188 – 190)].

وفي صحيح مسلم عن أنس: أن النبي ﷺ كان إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ صلى ركعتين[صحيح مسلم (691)]، قال ابن حجر في فتح الباري: وهذا أصح حديث ورد في بيان ذلك، وأصرحه، ثم رد على من خالفه أو تأوله[فتح الباري (2/567)]، وبهذا أخذ شيخ الإسلام ابن تيمية وقال: يجوز الفطر والقصر في كل ما يسمى سفرًا ولا يتقدر بمدة[انظر: مختصر الفتاوى المصرية (1/267)]، وقال ابن القيم في كتاب (الهدي النبوي): فصل: ولم يكن من هدي رسول الله ﷺ تقدير المسافة التي يفطر فيها الصائم بحد ولا صح عنه في ذلك شيء، وقال: وقد صلى أهل مكة مع رسول الله بعرفة ومزدلفة قصرًا وجمعًا ولم يأمرهم بالإتمام مع قربهم من بلدهم، وهذا أوضح دليل في أن مسافة الفطر والقصر لا يتحدد بمسافة محدودة ولا بأيام معدودة[زاد المعاد (2/53، 216 – 217)].

وقد قال الشيخ سليمان بن سحمان في معنى هذا الكلام:

فما حدد المعصوم قدر مسافة
لفطر ولا قصر فهل أنت مقتد؟

ومن لم يتخذ علماء المذاهب أربابًا بل قدم السنة والكتاب تبين له الراجح والصواب ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ[سورة الأحزاب، الآية: 36]، ﴿إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا[سورة النور، الآية: 51].

وبهذا يتبين جواز فطر هؤلاء الذين يغوصون في رمضان إذا قصدوا مكانًا نائيًا عن البلد مسافة السفر بحيث يسمى قصدهم سفرًا ويستحب فطرهم فيه، وأي سفر أشد وأشق من سفر هؤلاء الذين يحملون معهم من الأطعمة والأشربة ما يمونهم شهرًا فأكثر حتى إنهم ليحملون معهم أشياء من أنواع الأدوية ما لا يحمله مسافر سواهم وما ذاك إلا لمشقتهم وعزمهم على تجديد سفرهم ومن نيتهم أن لا يرجعوا إلى أهلهم قبل نفاد زادهم أو قانون بلادهم. وليس غالب هؤلاء هائمين فإن الهائم هو راكب الطريق الذي لا ينوي مكانًا ولا بلدًا معينًا كسائح وطالب مغترب وإن لم يكن على طريق فهو راكب التعاسيف.

وإنما هؤلاء يقصدون أمكنة مشهورة لديهم باستخراج اللآلئ حتى إنهم ليتحدثون بقصدهم قبل الخروج من بلدهم.

ولا أرى عند من منع من السفر للغوص في رمضان دليلاً من كتاب ولا سنة ولا قول إمام من الأئمة، إلا أنه لم يعده مشهورًا فصار عنده منكرًا وزورًا، ولا عجب ممن أنكر فإن من جهل شيئًا عاداه، وقد خلق الإنسان جهولاً. ولو قيل باستحباب سفرهم مع شدة حاجتهم وحاجة من يمونون لكان له وجه؛ لحديث: «كفى المرء إثمًا أن يضيِّع من يمون» [رواه أبو داود (1692)، وأحمد (6495) وغيرهما من حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما بلفظ: «يقوت»].

ولا شك أن عملهم هذا من أطيب المكاسب، لولا كثرة ما يشوبه من الربا فيما بينهم.

فيا ليت شعري ما الذي أباح الفطر في مباح الأسفار من جميع الجهات وحرمه فيما يشبه الجهاد، وفي الحديث: «السَّاعِي عَلَى الْأَرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ، كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللهِ» وأحسبه قال: «كَالصَّائِمِ لَا يُفْطِرُ، وَكَالْقَائِمِ لَا يَفْتُرُ» [رواه البخاري (6007)، ومسلم (2982) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه].

ولو تدبر العاقل ما ذكر الله في آيات الصيام لعلم أن الله رحيم ذو امتنان، وذلك قوله: ﴿يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ[سورة البقرة، الآية: 185]، ولو كان السفر في رمضان حرامًا أو مكروهًا لكان التاجر أولى بالمنع من الفقير، مع أنه لم يقل بذلك أحد من المسلمين، والكلام في هذه المسألة لا يحتمل هذا البسط؛ وهل يخفى النهار، ولكن كما قال القائل:

عليك بالبحث أن تبدي غوامضه
وما عليك إذا لم تفهم البقـر

لا أرى المانع لهم من السفر للغوص في رمضان في قديم زمنهم إلا هو فتوى عالم لديهم تمسكوا بها ووقفوا عندها، فالناس أعتى من أن يقفوا بأجمعهم لدى الفتوى، فإن كانت ثم موجودة لدى أحد فلتبدُ وتُنشر كي تُرى وتُنظر مع إعلام المنازع بأن الرد عند التنازع هو إلى كتاب الله وسنة رسول الله ﷺ، لقول الله تعالى: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ[سورة النساء، الآية: 59] ولكنهم بسبب الأرزاق الدارة عليهم منهم من يتركه للتفرغ للعبادة ومنهم من يتركه إجماعًا وعادة، ومن قال بالمنع فهو مطالب بالدليل والمؤمن لدى الحق أسير.

وأما مدة الإقامة التي ينقطع بها حكم السفر فالصحيح أنه إذا كان مقيمًا في مكان مدة غير معلومة ولا يعلم متى تنقضي حاجته منه بل لو أخبر عن مكان أوفق وأرفق منه انتقل إليه فهذا يقصر ويفطر حتى ولو أقام أشهرًا، فقد أقام النبي ﷺ بتبوك عشرين يومًا يقصر الصلاة[انظر: الفتح الرباني (5/111) برقم (1227)، وأبو داود (2/27) برقم (1235)]، وأقام ابن عمر بأذربيجان ستة أشهر يقصر الصلاة وقد حال[أخرجه البيهقي في المعرفة، وعبدالرزاق في مصنفه (2/533)، وقال ابن حجر في الدراة: إسناده صحيح] الثلج بينه وبين القفول، وكل من جاز له القصر جاز له الفطر ولا عكس.

وأما إن نوى إقامة فوق أربعة أيام فهذا فيه الخلاف المعروف، فمذهب الإمام مالك والشافعي وأحمد أن هذا حكمه حكم المقيم من الإتمام والصيام، وقال أبو حنيفة: إن نوى أقل من خمسة عشر يومًا قصر وأفطر، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم: بل يقصر ويفطر إلى أن يرجع إلى بلده كما فعل رسول الله ﷺ حين أقام بتبوك عشرين يومًا وبمكة تسعة عشر يومًا، وفي كلها يقصر ولا يتم، ولم يقل للأمة: إذا زاد أحدكم على أربعة أيام فليتم، بل ولا ثبت عنه حرف واحد في ذلك مع أنه الشارع المقتدى به[هذه فتوى قديمة قبل عصر النفط في حدود عام 1361هـ/1941م].

***