فتاوى بن محمود

فهرس الكتاب

حكم القرض الربوي من البنك لاستخدامه في بناء قطعة أرض

حكم القرض الربوي من البنك لاستخدامه في بناء قطعة أرض

حضرة فضيلة الشيخ الجليل عبدالله بن زيد آل محمود.

رئيس قضاة المحاكم الشرعية.

الدوحة - قطر.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين. وبعد؛

فلقد أردنا معرفة فتواكم في موضوع يشغل بالنا كما يشغل بال الكثيرين هذه الأيام، ورغم فتاوى العلماء المتغايرة في مواضيع مشابهة لم نقتنع حتى الآن برأي معين من وجهة نظر الشريعة الإسلامية، ولاعتقادنا بفتاويكم في المعاملات المختلفة نرجوكم أن تفتونا بالرأي القاطع والدليل المقنع في هذا الموضوع؛ كي نتمكن وغيرنا من التصرف حسب الشريعة الإسلامية في الظروف المشابهة، ولا نقع في الحرام بسبب جهل أو تجاهل، جزاكم الله عن كل اجتهاداتكم لصالح المسلمين خير الجزاء، وأسبغ عليكم من نعمه في الدنيا والآخرة بما يكافئ مقامكم الكريم:

1– شخص أو أكثر لهم قطعة أرض يريدون بناءها للاستفادة منها لأنفسهم أو لغيرهم، ولكن لا يوجد لديهم المال الكافي للبناء، مما يضطرهم عمل ذلك إلى تمويل المشروع من جهة أخرى بقرض من بنك أو اتفاق يقوم البنك بموجبه بتمويل مشروع البناء حتى يتم، ومن ثم يسترجع المبلغ المصروف على البناء من أصحابه بأخذ الإيجار العائد من جزء أو كل البناء لمدة معينة كخمس سنوات مثلاً أو أكثر، حسب المبلغ المصروف مع البناء، علمًا بأن البنك يضيف مبلغًا على إجمالي المبلغ المصروف، أو بمعدل معين لمدة التسديد قد تسمى عمولة أو غيرها، ولكنه في الأصل مبلغ مضاف على المصاريف، يتقاضاه البنك نظير المدة التي يتم خلالها استرجاع القرض أو السلفة للبنك. فهل يجوز هذا شرعًا؟

2– في حالة عدم جواز الطريقة السابقة قد يقوم الشخص أو الأشخاص المذكورون بالبناء عن طريق غير مباشر، فهم يتقدمون للبنك بمواصفات البناء، ويقوم البنك بعقد اتفاق البناء مع مقاول البناء، وفي هذه الحالة يتفق البنك مع الشخص أو الأشخاص المذكورين على:

أ أن يبني لهم البنك أرضهم حسب المواصفات المتفق عليه ويسلم لهم كامل البناء في مدة معينة متفق عليها.

ب يحدد البنك تكلفة المشروع على الزبائن إجمالاً على أن يدفعوا للبنك هذا المبلغ خلال مدة معينة، كخمس سنوات مثلاً أو أكثر، بأقساط شهرية أو سنوية حسب الاتفاق دون تحديد معدل للعمولة، وذلك بتحديد المبلغ اسمًا، وفي هذه الحالة من جهة البنك قد يحتسب من ضمن المبلغ المتفق عليه عمولة أو غيرها، ولكنه من جهة الزبون قد يعتبره تكلفة البناء بهذا المبلغ المتفق عليه دون أخذه في الاعتبار ما يتكون منه هذا المبلغ. فهل يجوز هذا شرعًا؟

3– أن يأخذ الشخص أو الأشخاص المذكورون القرض أو السلفة من البنك للبناء، على أن يسدد لهم القرض بعد إتمام البناء دون تحديد المدة حسب مقدرتهم، علمًا بأن يأخذ البنك معدلاً معينًا من الإيجار كعشرة بالمائة مثلاً ما دام القرض لم يسدد. فهل يجوز هذا شرعًا؟ أفتونا رحمكم الله.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

(13 محرم 1394هـ، 4/1/1974م) المخلصون محمد وعبدالله ملا حسن آخوند عوضي ص. ب: 121 - المنامة - دولة البحرين

الجواب [رقم: 225]:

من عبدالله بن زيد آل محمود إلى محمد وعبدالله ملا حسن آخوند عوضي، سلام عليكم.

أخي؛ لقد استلمت كتابكم الكريم، وفهمت ما تضمنه من كلامكم القويم، أشرت إلى السؤال عن شخص له قطعة أرض يريد بناءها لاستغلالها والاستفادة منها في إيجارها، غير أنه لا يوجد لديه المال الكافي للبناء، فهل يجوز أن يستقرض من البنك القدر الكافي لمصرفها إلى نهاية الإتمام علمًا بأن البنك يضيف مبلغًا معينًا على المبلغ المصروف إلى نهاية التسديد، وتسمى عمولة، ولكنه في الأصل مبلغ مضاف إلى المصاريف يتقاضاه البنك مقابل المدة التي يتم خلالها استرجاع القرض للبنك، فهل يجوز هذا شرعًا؟

فالجواب: أن الله سبحانه إنما حرم الربا رحمة منه لعباده؛ لعظم ضرره وشدة خطره وكون متعاطيه محاربًا لربه، «وَقَدْ لَعَنَ رَسُولُ اللهِ آكِلَهُ، وَكَاتِبَهُ، وَشَاهِدَيْهِ» [رواه مسلم (1598)، وأحمد (14263) من حديث جابر رضي الله عنه]، ولم يأت على شيء من المحرمات من الوعيد أشد مما أتى على الربا؛ لكونه يقوض بالتجارات، ويوقع في الأزمات، ويهدم بيوت الأسر والعائلات، وقد توعده الله بالمحق والفشل وانتزاع البركات، ﴿يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ [سورة البقرة، الآية: 276].

والربا أنواع، أشده وأشره الذين يستدينون النقود من البنوك، وتأخذ البنوك ترابي عليهم الأرباح المسماة بالعمولة متى تأخر الدين، وأكثر الناس يدخل في التعامل مع البنوك مع يقينه أنها سترابي عليه إلى نهاية قضاء الدين، كما ذكره السائل، حتى يصير القليل كثيرًا، وهذا هو ربا الجاهلية الذي حرمه الإسلام ونزل في الزجر عنه كثير من آيات الأحكام، ولعن رسول الله آكله ومؤكله وكاتبه من بين الأنام، ويكفر مستحل مثل هذا الربا عند جمهور علماء الإسلام، فلا يحل لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتحيل على إباحية هذا الربا بشيء من الأعذار الباردة الفاسدة، فلا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل.

وإن المراباة بنقود الأوراق المالية هي بمثابة المراباة بالذهب والفضة على حد سواء؛ لمساواتها لها في علة الثمنية التي قيل: إنها السبب في علة الربا في النقود.

وإنه من المعلوم في هذا الزمان أن الناس قد غرقوا في التعامل بالربا والريبة بسبب استحداثهم فنونًا من المعاملات، مثل الاتساع في استيراد السلع والحاجات، وتوسيع التجارات، وتأسيس الشركات، وكذا عقد الاتفاقات على المشاريع العظيمة والعمارات وسائر البنايات الفخمة، وهذه كلها تحتاج بداعي الضرورة إلى الكثير من النقود مما يدخل في عدد الملايين، وما كل أحد يجد من النقود ما يقضي به حاجته ويؤهله إلى إتمام عمله بدون حاجة إلى غيره كما ذكر هذا السائل في رسالته، فهم يطلبون ويطالبون بالإفتاء في فتح باب الربا للاستدانة من البنوك بحجة الحاجة، والله يقول: ﴿وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُون ٧١[سورة المؤمنون، الآية: 71].

إن المسلم العاقل ينبغي له أن يلحظ السلامة والعافية من المراباة، وأن لا يغتر بكثرة الغارقين في الربا، ولا في نجاح بعض الأفراد في استدانته من البنك، حيث تحصل على بناء العقارات والحوانيت التي تحصل من إيجارها على غلة كبيرة، فإن الاتجار بصفة هذه المعاملة لن ينجح صاحبها، فإن حقيقة الربا عاقبته إلى قلته ولو بعد حين؛ إذ إن مضار الربا مشهورة، ووقائعه مشهودة، فكم أذهب من عقار، وكم أفقر من دار، وإن الشخص متى وقع في شبك البنك المرابي مرة واحدة فإنه لا يكاد يتخلص منه طول حياته، بل لا يزال الأهل والأبناء والبنات يتوارثون هذا الربا على ظهورهم، وقد يتولد عنه بمرور الزمان ما يكون أكثر من رأس المال بمرات عديدة، لكونه يرابي برأس ماله، وبالربح في حالة فقر المدين وفي حالة وفاته، حتى يتراكم الدين عليه فتتراكم الهموم والغموم على صاحبه، ثم يهدد ببيع عقاره، ومحاكمته المقتضية لإذلاله وشهرة إفلاسه، مع ما يعرض للتجارة ولسائر الأعمال من عوامل الكساد والبوار وإثارة الحروب والفتن والاضطراب، التي من لوازمها كساد الغلات، وسقوط قيم العقارات، كما يقع كثيرًا في سائر الحالات والمحلات، وعلى أثره تراه يجر الويلات على إثر الويلات؛ من جراء دخوله في معاملة المراباة، وخير الناس من وعظ بغيره.

إنه من المعلوم أنه قد شمل الناس موجة من التعامل بالربا، والغرق فيه، والاستهانة بأمره وعدم التنفير عنه، وعما قليل سيتمنى الكثيرون الخلاص منه بعد أن يذوقوا مرارة كدره وسوء عاقبة أمره، ﴿وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُون[سورة الشعراء، الآية: 227].

وخلاصة الجواب أن من ترك شيئًا لله عوضه خيرًا منه ﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا ٢وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ٣[سورة الطلاق، الآيتان: 2 - 3]، ﴿ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا [سورة الطلاق، الآية: 4]، وقد روي في الحديث أن النبي ﷺ قال: «إِنَّ رَوْحَ الْقُدُسِ نَفَثَ فِي رُوعِيَ أَنَّهُ لَنْ تَمُوتَ نَفْسٌ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ رِزْقَهَا، فَاتَّقُوا اللهَ، وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، وَلَا يَحْمِلَنَّكُم اسْتِبْطَاءُ الرِّزْقِ عَلَى أَنْ تطلبوه بما يسخطه، فإن ما عند الله لا ينال إلا بطاعته...» [رواه ابن أبي شيبة (34332)، والبيهقي في شعب الإيمان (9891) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه] فهذا الشخص الذي يريد بناء قطعة هذه الأرض للاستفادة من غلتها، وليس عنده من النقود ما يكفي لإحكامها وإتمامها حسب رغبته في نظامها، فقد قيل:

إذا لم تستطع شيئًا فدعه
وجاوزه إلى ما تستطيع

فمن الحزم ورأي أولي العزم أن يبني هذا الإنسان ما يستطيع بناءه، ويؤجل بناء الباقي إلى حين ميسرته.

أو يدخل معه بمقتضى الاشتراك من يساعده على إتمام عمله؛ فإن يد الله على الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه[ورد بهذا اللفظ في حديث ضعيف رواه الدارقطني]، وعند أبي داود بلفظ: «أَنَا ثَالِثُ الشَّرِيكَيْنِ...».

أو يضارب بهذه الأرض بحيث يجعلها بمثابة القرض، ويسمى عند الناس بالبضاعة، بحيث يجعل لهذه الأرض قيمة، وينفق على بنائها الآخر من بنك أو تاجر راغب فيها، وبعد تمامها يتقاضى كل منهما رأس ماله من غلتها، ثم تبقى الأرض وبناؤها وغلتها مشتركة بين الاثنين.

وأمر آخر، وهو أن يبنيها البناء الموصوف المتفق عليه شخص أو بنك أو غيره، في مقابلة الانتفاع بها عشر سنين أو عشرين سنة، ثم يسلمها إلى صاحبها، فإن هذا جائز، وإن كان بعض العلماء يجادل في جوازه، ولا نرى وجهًا لمنعه؛ إذ هو من العقود الجائزة بين الطرفين، وليس فيه ربًا ولا جهالة ولا غرر.

وعلى كل حال؛ فإن العقود المشروعة الجائزة السليمة من الربا كثيرة، ولكن الناس آثروا التبايع بدين النقود من البنوك لسهولة تناولها والانتفاع بها، ويغيب عنهم سوء عاقبتها، وكل المسائل المسؤول عنها تدخل في جواب ما ذكرنا، إذ كلها تعامل مع البنك على أن يأخذ على الدين أقساطًا من الربح تسمى عمولة، وهذا هو عين ربا الجاهلية.

نسأل الله سبحانه أن يعصمنا بدينه، وأن يأخذ بنواصينا عما يسخط، وأن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه...

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

(2/2/1394هـ) عبدالله بن زيد آل محمود
رئيس المحاكم الشرعية بقطر

***