فتاوى بن محمود

فهرس الكتاب

تفسير الأمانة

السؤال: ما هي الأمانة في قوله تعالى: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُون ٢٧[سورة الأنفال، الآية: 27] [7/65]

الجواب [رقم: 313]:

دلت هذه الآية على عظم الأمانة، وأن من خان أمانته، فقد خان ربه وخان نبيه، ولن يضر الخائن إلا نفسه. قال أنس رضي الله عنه: ما خطبنا رسول الله ﷺ إلا قال: «إِنَّهُ لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ» [رواه أحمد (12383)، وأبو يعلى (2863)، وابن حبان (194) عن أنس رضي الله عنه بإسناد حسن].

وجاء رجل من أهل العالية فقال: يا رسول الله، أخبرني بأشد شيء في هذا الدين. فقال: «الْأَمَانَةُ يَا أَخَا الْعَالِيَةِ، إِنَّهُ لَا دِينَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ، وَلَا صَلَاةَ وَلَا زَكَاةَ لَهُ» [رواه البزار (819) عن علي رضي الله عنه بإسناد ضعيف].

والأمانة تارةً تكون بين الخلق فيما يتعاملونه بينهم من التبايع والودائع والكيل والوزن، وتارةً تكون بين العبد وبين ربه في الفرائض الواجبة المسماة بالتكاليف الشرعية. فالوضوء أمانة، والصلاة أمانة، والزكاة أمانة، والصيام أمانة. وهكذا سائر الأعمال، تجري على هذا المنوال.

فمن الناس المؤمن الأمين، الذي يؤدي واجب حق الله في ماله، ويبادر بأداء زكاته إلى مستحقها، طيبة بذلك نفسه، يعتقدها مغنمًا له عند ربه، وبركة في ماله، فيدفعها إلى مستحقها، ويقول: اللَّهم اجعلها مغنمًا، ولا تجعلها مغرمًا.

ومنهم الخائن المهين، الذي يبخل بما آتاه الله من فضله، ويأكل زكاته، ويحتسبها مغرمًا في ماله، ﴿وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير ١٨٠[سورة آل عمران، الآية: 180].

فالآكل لزكاته هو خائن لأمانته، خائن لفقراء بلده، فاسق عن أمر ربه، وما إسلامه الذي يدعيه إلا إسلام مزيف مغشوش؛ لكون الزكاة بمثابة الدليل والبرهان على صحة الإيمان. كما في الحديث: «الصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ» [رواه مسلم (223) من حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه]. لكونها تبرهن عن إيمان مخرجها، وكونه آثر طاعة ربه على محبة ماله.

كما أن منع الزكاة هو العنوان على النفاق، فإن من صفة المنافقين، ما أخبر الله عنهم، ﴿الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ - أي: عن أداء زكاة أموالهم - ﴿نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُون[سورة التوبة، الآية: 67].

فالوضوء أمانة؛ لأن مفتاح الصلاة الطهور. وفي الحديث: «اسْتَقِيمُوا، وَلَنْ تُحْصُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ خَيْرَ أَعْمَالِكُمُ الصَّلَاةُ، وَلَا يُحَافِظُ عَلَى الْوُضُوءِ إِلَّا مُؤْمِنٌ» [رواه ابن ماجه (277)، وأحمد (22378)، والحاكم (447) عن ثوبان رضي الله عنه]. ومن حكمته أنه ينشط الأعضاء عند القيام للصلاة، ويحط الخطايا.

وكذلك الصلاة أمانة الرب، وعمود دين العبد، وأول ما يفقد الإنسان من دينه الأمانة، وآخر ما يفقد من دينه الصلاة.

ولهذا كان السلف يسمونها الميزان، فإذا أرادوا أن يبحثوا عن دين إنسان، سألوا عن صلاته، فإن حُدثوا بأنه يحافظ على الصلاة في الجماعات علموا بأنه ذو دين، وإن حُدثوا بأنه لا يشهد الصلاة، علموا بأنه لا دين له، ومن لا دين له جدير بكل شر، بعيد عن كل خير.

ثم إن الصلاة لا تكون صلاة، حتى تقع على صفة ما شرعه الله على لسان نبيه، كما في الحديث: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» [رواه البخاري (631) من حديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه]. فهذا ميزانها الفعلي، وأما ميزانها القولي؛ ففي البخاري: أن رجلاً دخل المسجد فصلى، فقال له رسول الله ﷺ: «ارْجِعْ فَصَلِّ، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ» فعل ذلك ثلاثًا، فقال: والذي بعثك بالحق لا أحسن غير هذا، فعلمني. فقال: «إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلاَةِ، فَأَسْبِغِ الْوُضُوءَ، ثُمَّ اسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ، وَكَبِّرْ، ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ، ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَاعِدًا، ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلاَتِكَ كُلِّهَا» [رواه البخاري (6251)، ومسلم (397) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه].

فهذه هي الصلاة المشروعة التي تصعد ولها نور، فتشفع لصاحبها عند ربها، وتقول: حفظك الله كما حفظتني.

«وَأَسْوَأُ النَّاسِ سَرِقَةً الَّذِي يَسْرِقُ مِنْ صَلاَتِهِ»، أي لا يتم ركوعها ولا سجودها[رواه أحمد (22642) من حديث أبي قتادة رضي الله عنه].

وكذلك الزكاة: أمانة الرب، أوجبها الله في مال الغني لأخيه المعوز الفقير، وسميت زكاة، لكونها تزكي إيمان مخرجها من مسمى الشح والبخل، وتطهره. يقول الله تعالى: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا[سورة التوبة، الآية: 103].

وكذلك تزكي المال؛ أي: تكثره وتنميه وتنزل البركة فيه، فما نقصت الصدقة مالاً بل تزيده.

وكذلك الصيام فإنه سر بين العبد وبين ربه، فلو شاء لأبطله ولو بفساد نيته، لكن المؤمن لو ضرب على أن يستبيح الفطر، لما استباح الفطر أبدًا، لكون إيمانه وأمانته تمنعه عن إحباط عمله وإبطال صومه.

هذه الأركان، هي التي عناها القرآن بقوله: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً ٧٢[سورة الأحزاب، الآية: 72] فإن الراجح عند العلماء، أن هذه الأمانة هي الواجبات، المسماة بالتكاليف الشرعية. فإنها أمانة الله وعهده، في عنق كل إنسان ﴿وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا[سورة الفتح، الآية: 10].

ومن استؤمن على حفظ مال الحكومة أو وزارة من الوزارات أو الأوقاف، أو لأحد من الشركات، أو مال تاجر من التجار، فليعلم أن ما تحت يده مما تولاه أنه أمانة عنده، ومسؤول عنه ومحاسب عليه، فمن واجب إيمانه وأمانته أن يقوم بحفظ ما استؤمن عليه، وأن يذود أيدي العدوان والخونة عنه، حتى يؤديه كاملاً موفورًا، غير مبخوس ولا منقوص، فإن خالف، وخان، وأخذ يختلس ما استؤمن عليه، بطريق التلصص الخفي والخيانة الغيبية، فقد خان أمانته، وخان ربه ودينه، وما اختلسه فإنه بمثابة الزبد الذي يذهب جفاء، ويرجع إلى الوراء.

والنبي ﷺ قال: «مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلٍ، فَكَتَمَنَا مِخْيَطًا فَمَا فَوْقَ، كَانَ غُلُولًا يَأْتِي بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» [أخرجه مسلم (1833) من حديث عدي بن عميرة الكندي رضي الله عنه].

﴿وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ[سورة آل عمران، الآية: 161].

ومن المشاهد المحسوس، أن الخائن يَفتْضح بخيانته في الدنيا عند الناس، ويوم القيامة ينصب لكل خائن لواء عند استه، يقال: هذه غدرة فلان.

والمؤمن يطبع على الخلال كلها، إلا الخيانة والكذب، فلا يكون المؤمن خائنًا، ولا كذابًا. «وَآيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاَثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا ائْتُمِنَ خَانَ» [رواه البخاري (33)، ومسلم (59) عن أبي هريرة رضي الله عنه، زاد مسلم: «وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى، وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ»].

ومن دعاء النبي ﷺ أنه يقول: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُوعِ، فَإِنَّهُ بِئْسَ الضَّجِيعُ، وَمِنَ الْخِيَانَةِ، فَإِنَّهَا بِئْسَتِ الْبِطَانَةُ» [رواه أبو داود (1547)، والنسائي (5468)، وابن ماجه (3354) وابن حبان (1029) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بإسناد حسن].

ولهذا قال العلماء في الحكمة في قطع يد السارق: إن اليد لما كانت أمينة كانت عند الله وعند خلقه ثمينة، فإذا خانت هانت، ﴿وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ[سورة الحج، الآية: 18. ودية اليد الواحدة تبلغ نصف من قيمة الدية الكاملة].

إن الشركات الأجنبية التي تشتغل في البلدان العربية الإسلامية، قد دخلوا مع الحكومات الإسلامية في عقد، وفي عهد وأمانة، واشتغلوا على هذا الحساب. فمن الواجب احترام دمائهم وأموالهم؛ لأنهم يسمون مُعاهدين. وحرمة مال المعاهد كحرمة مال المسلم، لهم ما لنا، وعليهم ما علينا، فمن خفر معاهدًا فعليه لعنة الله، والملائكة، والناس أجمعين. فلا يقل أحدكم: هؤلاء كفار. يستبيح بذلك أخذ أموالهم، فإن حرمة مال المعاهد كحرمة مال المسلم.

والتعليم أمانة، والتعليم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم. ونعوذ بالله من شر الوسواس الذي يوسوس بالشر في صدور الناس. فمن واجب المعلم أن يخلص في تعليمه، فيلقن التلاميذ تعظيم الرب، وتعظيم حدوده وفرائضه، وأن صلاح المرء بصلاح دينه، وأن المحافظة على فرائض الرب هي من أكبر العون على حصول المطلوب، من العلم المرغوب؛ لأن الله يقول: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ[سورة البقرة، الآية: 282].

ثم إن الأستاذ قدوة تلاميذه، وثقتهم به يستدعي قبولهم لما يقوله ويفعله، فينشؤون غالبًا على طريقته وعقيدته، أشبه الأعضاء مع اللسان، تقول: اتق الله فينا، فإن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا.

فإذا ترك الأستاذ الصلاة في الجماعة، تركها التلاميذ.

أو شرب الدخان والتبغ شربه التلاميذ.

أو أطلق لسانه باللعن والشتم، تعلموا منه ذلك؛ لأن هذا نوع تعليم منه لهم.

ومن المعلوم أن التعليم بالأفعال أبلغ منه بالأقوال، وكل إناء ينضح بما فيه، وعادم الخير لا يعطيه.

وإذا المعلم لم يكن عدلاً سرى
روح العدالة في الشباب ضئيلا

وكل من دخل مع صاحبه في عقد بيع وشراء، أو ثمن لم يؤده إليه، فليعلم أنه دخل مع صاحبه في عهد وأمانة، فمن الواجب على صاحب العقد أن يبين ما به من العيوب، كما أن من واجب المشتري أن يقابل صاحبه بحقه غير مبخوس ولا منقوص. وبدون تعليل ولا تمليل. فإن «مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ» [رواه البخاري (2287)، ومسلم (1564) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه] يحل عرضه وعقوبته» [رواه أبو داود (3628)، والنسائي (4689)، وابن ماجه (2427) من حديث الشريد بن سويد رضي الله عنه بلفظ: «لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ»].

جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله، إن لنا جيرانًا لا يتركون لنا شاذة ولا فاذة إلا أخذوها، فهل إذا قدرنا على شيء من مالهم نأخذه؟ قال: «لَا، أَدِّ الْأَمَانَةَ إِلَى مَنْ ائْتَمَنَكَ، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ» [رواه أبو داود (3534)، وأحمد (15424)] فنهى رسول الله ﷺ عن مقابلة الخيانة بالخيانة؛ لأنها مهانة وعدم أمانة.

المجالس بالأمانات، إلا مجلس دم حرام، وفرج حرام. فإن جلس الرجل مع الآخر ثم التفت فهي أمانة، يجب المبالغة في كتمان السر بينهما.

ومن الخيانة أن يفشي الرجل إلى امرأته سرًّا، أو تفشي إليه، ثم ينشر أحدهما سر صاحبه. ويسمى هذا الإفشاء بالمجاهرة.

الوظائف الحكومية على اختلاف أنواعها أمانات في أعناق المتقلدين لها، فمن واجب المتولي للوظيفة أن يقوم بأمانة ما تولاه، وما استؤمن عليه بإخلاص وصدق ونصح، وأن يعامل الناس بما يحب أن يعاملوه به من التسهيل والتيسير.

***