فتاوى بن محمود

فهرس الكتاب

معنى الاستقامة

السؤال: ما هي الاستقامة في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُون ٣٠ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُون ٣١ نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيم ٣٢ [7/208].

الجواب [رقم: 315]:

أتدرون ما هي الاستقامة التي ندب الله عباده إليها، وأبدى وأعاد بالثناء على أهلها؟ هي: الثبات والاستقامة على الدين؛ من فعل الواجبات، واجتناب المحرمات، وهي المراد بقوله تعالى: ﴿يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء ٢٧[سورة إبراهيم، الآية: 27]. فالثابت على الدين، وسلوك الصراط المستقيم؛ الذي سلكه رسول الله ﷺ وأصحابه، هو عين الاستقامة المنشودة.

فمن ثبت على الدين، واستقام عليه، ولم يزغ عن أمر ربه، ثبته عند سؤال الملكين له في القبر، ويلقنه حجته، ثم يثبته على سلوك الصراط المعروض على متن جهنم، وهو أحر من الجمر، وأحد من السيف الأبتر، وهذا الصراط المعروض على متن جهنم بمثابة الخشبة المعروضة على القليب، وعلى جوانبه كلاليب، وحسك كالشوك، وهي المعاصي، وكبائر الذنوب، تخدش الناس، وتخطف من أمرت بخطفه، وتلقيه في جهنم، فيكلف الناس بالمرور على هذا الصراط، وهو المراد بقوله: ﴿وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا ٧١ ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا ٧٢[سورة مريم، الآيتان: 71 – 72].

فالمراد بالورود المرور، فتجري بالناس أعمالهم، حتى إن أحدهم يمر كالبرق، وتقول له النار: جز يا مؤمن، فقد أطفأ نورك لهبي. ويمر أحدهم كالريح، وكأجاود الخيل والركاب. ومنهم من يمشي مشيًا، ومنهم من يحبو حبوًا، فمخدوش ناج، ومكردس على وجهه في نار جهنم.

والنبي ﷺ واقف على طرف الصراط ينظر إلى الناس، ويقول: «اللَّهُمَّ سَلِّمْ، سَلِّمْ» [انظر: صحيح مسلم (195) من حديث أبي هريرة وحذيفة رضي الله عنهما] فمتى خلصوا من مرور الصراط، وردوا نهر الكوثر، فشربوا منه حتى لا يظمؤوا بعده أبدًا.

والمستقيم الثابت على الدين القويم، فإنه يثبت عند سلوك هذه المخاطر والمزالق، ويجري به عمله في أحسن سلوك منه، والنبي ﷺ يقول: «أنا ممسك بحجزكم عن النار، أقول: هلم عن النار، وأنتم تغلبونني، وتقاحمون فيها، كتقاحم الفراش والجنادب، وإنكم تردون عليّ معًا وأشتاتًا، فأعرفكم بسيماكم وأسمائكم، كما يعرف الرجل الغريبة في إبله، وإنه يؤخذ بالناس من أمتي ذات الشمال، فأقول: يا رب أمتي. فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: بعدًا وسحقًا لمن غيَّر بعدي» [رواه البزار (204) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه].

ثم إن الاستقامة أيضًا، الثبات على مصابرة الأعمال التي توكل إلى الشخص، ويعهد إليه فيها، من أعمال حكومية وغيرها. فالمستقيم على عمله، بحيث ينفذ ما عهد إليه فيه بدون بخس ولا نقص ولا خيانة، وبدون تعليل ولا تمليل، فهذا ممدوح عند الله وعند خلقه، وينشر له الذكر الجميل، والثناء الحسن على حسن وفائه، واستقامته في أداء عمله، وكل شخص فمسؤول عما تولاه، كما قيل:

حيثما تستقم يقدر لك اللـ
ـه نجاحًا في غابر الأزمان

أما غير المستقيم، فهو الذي يتهرب عن عمله، ويتغيب عن دوام جلوسه، ويخون ويختلس ولا يفي بوعد ولا عهد، ليس له حظ من الاستقامة، ولا الصدق ولا الأمانة، فتنتشر عنه هذه الصفات الذميمة الناشئة عن سوء سيرته، وفساد سريرته.

عن سفيان بن عبدالله رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحدًا غيرك قال رسول الله ﷺ: «قُلْ: آمَنْتُ بِاللَّهِ، ثُمَّ اسْتَقِمْ» [رواه مسلم (38)، وأحمد (15416) عن سفيان بن عبدالله الثقفي رضي الله عنه].

فدله على أمر جامع نافع؛ أي استقم على العمل بإسلامك.

وليس من شرط الاستقامة كونه لا يذنب أبدًا، بل قد يذنب ثم يتوب، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، يقول الله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُون ٢٠١[سورة الأعراف، الآية: 201] أي: يبصرون طريق المخرج من هذا الذنب، فيتوبون ويستغفرون.

إن الاستقامة شأنها عظيم، قد قرأ هذه الآية قوم ثم لم يستقيموا على العمل بها، فتركوا فرائض الطاعات، وانتهكوا الحدود والمحرمات، واستباحوا أكل الربا، وشرب المسكرات، وصرفوا جل عقولهم وأعمالهم واهتمامهم للعمل في دنياهم، واتباع شهوات بطونهم، وفروجهم، وتركوا فرائض ربهم، ونسوا أمر آخرتهم، فنهى الله المؤمنين أن يكونوا أمثالهم. ومع هذه المخالفات، يدعون بأنهم مسلمون، وهم لم يستقيموا على صحة ما يدعون، فإن الإسلام ليس هو محض التسمي به باللسان، والانتساب إليه بالعنوان، ولكنه ما وقر في القلب، وصدقته الأعمال.

إن صراط الإسلام أي: طريق الإسلام - واحد، من استقام عليه نجا، ومن تخلف عنه غرق، وهو ما كان عليه رسول الله ﷺ وأصحابه، وهو المراد بقوله تعالى: ﴿وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون ١٥٣[سورة الأنعام، الآية: 153]. وهذه السبل التي حذر عنها هي بُنيّات الطريق التي تفضي بسالكها إلى الهلاك والتعويق.

وقد أخبر النبي ﷺ أن أمته تفترق على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، قالوا: ومن هي يا رسول الله؟ قال: «مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَأَصْحَابِي» [رواه الترمذي (2641)، والطبراني في الكبير (13/30/62)، وابن بطة في الإبانة (264 – 265)، والحاكم (444) من حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنه].

فهذه الفرقة الناجية هي التي وفقت للاستقامة، ففازت بالسلامة، بخلاف سائر الفرق الضالة، فإنها زاغت عن دينها، وتنكبت طريق نبيها، كما الكثيرون من المنتسبين للإسلام في خاصة الأمصار التي أفسد التفرنج تربيتها، وعقائد أهلها، فصاروا لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله من الربا والزنا وشرب الخمر، ولا يدينون دين الحق، قد أضاعوا الصلاة، واتبعوا الشهوات، وخرقوا سياج الشرائع، واستخفوا بحرمات الدين، واتبعوا غير سبيل المؤمنين.

وصار هؤلاء أضر على الإسلام والمسلمين من اليهود والنصارى، من أجل أن الناس يغترون بهم، وينخدعون لأقوالهم وأعمالهم وعقائدهم، فهم مرتدون، والمرتد شر من الكافر الأصلي، ولم يأمر الله على لسان نبيه بقتل المرتد عن دينه إلا رحمة بمجموع الأمة أن تفسد بهم أخلاقهم، فإن الأخلاق تتعادى، والطباع تتناقل، والمرء على دين خليله وجليسه، يقول الله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُم ٢٥[سورة محمد، الآية: 25]. ولهذا نزلت التعزية من السماء عن أمثالهم بقوله: ﴿وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ اللّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيم ١٧٦[سورة آل عمران، الآية: 176].

إن الاستقامة شأنها عظيم، ولما قيل للنبي ﷺ إنه قد أسرع إليك الشيب. قال: «شيبتني هود وأخواتها» قالوا: فما شيبك منها؟ قال: «شيبني قوله: ﴿ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ [سورة هود، الآية: 112]» [رواه الترمذي في الشمائل (42)، وأبو يعلى (880)، والطبراني في الكبير (22/123/318) من حديث أبي جحيفة رضي الله عنه دون آخره، فقد ذكره البيهقي في الشعب (2215) عن السري السقطي رؤيا منام؟!].

وعن ثوبان، أن النبي ﷺ قال: «اسْتَقِيمُوا وَلَنْ تُحْصُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ خَيْرَ أَعْمَالِكُمُ الصَّلَاةُ، وَلَا يُحَافِظُ عَلَى الْوُضُوءِ إِلَّا مُؤْمِنٌ» [رواه ابن ماجه (277)، وأحمد (22378)، والدارمي (681) من حديث ثوبان رضي الله عنه].

إن بعض الناس يكون مسلمًا مستقيمًا في بداية عمره، ثم يصاب بالانحراف في آخر عمره بسبب ولد ملحد، أو جليس فاسق، يقذف إليه بالشبه المضلة، والتشكيكات التي تزيغه عن معتقده الصحيح، ثم تقوده إلى الإلحاد والتعطيل والزيغ عن سواء السبيل، فقد روى الإمام أحمد عن أبي سعيد مرفوعًا: «إِنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُولَدُ مُؤْمِنًا وَيَعِيشُ مُؤْمِنًا، وَيَمُوتُ كَافِرًا» [رواه الترمذي (2191)، وأحمد (11143) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه]. كله من أجل عدم استقامته في حياته، والعمر بآخره، وملاك الأمر خواتمه.

وقد أخبر النبي ﷺ بأنها تكون فتن كقطع الليل المظلم، يصبح منها الرجل مؤمنًا، ويمسي كافرًا، يبيع دينه بعرض من الدنيا[رواه مسلم (118) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه]. وهذه الفتن إنما يراد بها الفتن في الدين، والفتنة أشد من القتل، ونعوذ بالله من مضلات الفتن، والله يحب البصر الناقد عند ورود الشبهات، والعقل الكامل عند حلول الشهوات.

وكان النبي ﷺ يستعيذ في أدبار الصلوات، من فتنة المحيا والممات[رواه البخاري (832)، ومسلم (589) من حديث عائشة رضي الله عنها]، ويقول في دعائه على الجنازة: «اللَّهُمَّ مَنْ أَحْيَيْتَهُ مِنَّا فَأَحْيِهِ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَمَنْ تَوَفَّيْتَهُ مِنَّا فَتَوَفَّهُ عَلَى الْإِيمَانِ» [رواه أبو داود (3201)، وابن ماجه (1498)، وأحمد (8809) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه].

نسأل الله سبحانه، أن يعمنا وإياكم بعفوه، وأن يسبغ علينا وعليكم واسع فضله، وأن يدخلنا برحمته في الصالحين من عباده، وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.

***