فتاوى بن محمود

فهرس الكتاب

واجب الحكام تجاه الإعلام الهابط

واجب الحكام تجاه الإعلام الهابط

السؤال: ما الواجب على الحكومات والمسؤولين فيما يتعلق بالأفلام الخليعة التي تنشر في التليفزيون؟ [7/152]

الجواب [رقم: 369]:

الشريعة الإسلامية جاءت بجلب الخير وتكثيره، ودرء الشر وتقليله، لكون المنكر إذا ترك بحاله، ولم يقم أحد من الناس بمنعه ودفعه، فإنه يستشري في العباد والبلاد، فيعم الفساد حتى يعمي ويصم، وإن العلماء والأمراء والرؤساء، هم بمثابة المرابطين دون ثغر دينهم ووطنهم، يحمونه من دخول الفساد والإلحاد، وما يعود بخراب البلاد، وفساد أخلاق النساء والأولاد.

ولا يتصف بالقيام بهذا العمل، وحماية الوطن؛ إلا الخيار النادر قولاً وعملاً، يقول الله: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ[سورة آل عمران، الآية: 110].

فهذه الخيرية الجليلة، لا تدرك إلا بهذه الأعمال الجميلة التي من جملتها الأمر بالخير، والنهي عن الشر، فإذا لم يتصفوا بذلك، ولم يوجد منهم من يقوم بهذا الفرض، فإنهم يعدون من شر الخلق والخليقة؛ لأن «مَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ، لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ» [رواه مسلم (2699) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه]. وإنما دخل النقص على بني إسرائيل بسببه.

فمتى قصر هؤلاء بواجبهم، ولم يقوموا بحماية دينهم ووطنهم، وتركوا الخمور تجلب إلى بلدهم، والحوانيت تفتح لبيعها، وتركوا الأفلام الخليعة، والفواحش الشنيعة، تنتشر بينهم، بحيث تغزوهم في عقر دورهم بدون أن ينكروا منكرها، وبدون أن يتناصحوا في شأنها، ومنع ما يقبح منها، وصار جل أعمالهم هو التلاوم فيما بينهم، فإن هذا العمل والسكوت عليه، مؤذن بفتنة في الأرض وفساد كبير. وهؤلاء الرؤساء يلامون على سكوتهم؛ إذ لا نجاة لهم ولا للناس إلا بأمرهم بالخير، ونهيهم عن الشر.

ثم إن عرض الأفلام الخليعة التي فيها النساء العاريات، يسبحن في البحار، ويلاعبن الرجال، باللمس والتقبيل والاضطجاع جميعًا، وتشرب معه كأس الخمر، وغير ذلك من مساوئ الأخلاق والأعمال والفواحش المكشوفة، وفنون الخلاعة التي يشاهدها الصغار والكبار، فإنها من الفواحش التي لا تبقي من الأخلاق ولا تذر.

وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت
فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا

وكل هذه تعتبر بمثابة التمرين على هذه الأعمال الشنيعة، بحيث يتعلمها النساء والأولاد للعمل بها. فهي بمثابة الدروس التي تنطبع محبتها في النفوس، وتؤثر فيهم كتأثير خمر الكؤوس، وباستمرار إدمان رؤيتهم لها، يزول منهم الحياء والغيرة والخلق الحسن، فلا يرونها منكرًا؛ لأن كثرة رؤية المنكرات تقوم مقام ارتكابها، ولأن رؤية الفواحش والمنكرات متى كثر على القلب ورودها، وتكرر في العين شهودها، ذهب استعظام قباحتها في القلوب شيئًا فشيئًا، إلى أن يراها الإنسان فلا يرى أنها منكرات، ولا يمر بفكره أنها معاصٍ، وذلك بسبب سلب القلوب نور التمييز والإنكار، على حد ما قيل: إذا كثر الإمساس قل الإحساس.

فنشر هذه الأفلام الخليعة هي جرثومة الفساد، وخراب البلاد، وفساد العباد، وخاصة النساء والأولاد. وهي أشد وأشر من الزنا وشرب الخمر، لكون الزاني لا يضر بفعله إلا نفسه، وزناه يقع في حالة الخفية، والمعصية إذا خفيت لم تضر إلا صاحبها. أما إذا ظهرت ولم تغير، ضرت العامة بسكوتهم عنها، كما ثبت بذلك الحديث، أما هذه الأفلام الخليعة فإنها تشتمل على تعميم نشر الفواحش الشنيعة، والأعمال الفظيعة، بين الخاص والعام، والصغار والكبار، وهي من الفتن التي تعرض على القلوب كالحصير عودًا عودًا، حتى تجعل القلوب منكوسة سودًا، لا تعرف معروفًا، ولا تنكر منكرًا.

فإذا أردتم أن تعرفوا عظم مضارها، وتأثيرها في الأخلاق والعقيدة والدين، فانظروا إلى البلدان التي ضعف فيها الإسلام، واستباحوا الجهر بمنكرات الفواحش والعصيان، ثم انظروا إليهم كيف حالهم؟ وما دخل عليهم من النقص والجهل والكفر وفساد الأخلاق والعقائد والأعمال، حتى صاروا بمثابة البهائم يتهارجون في الطرقات، لا يعرفون صيامًا ولا صلاة، ولا يعرفون معروفًا، ولا ينكرون منكرًا، ولا يمتنعون عن قبيح، ولا يهتدون إلى حق، قد ضرب الله قلوب بعضهم ببعض، وهذه من الفتن التي أخبر عنها النبي ﷺ بأنه يرقق بعضها ببعض، كما في صحيح مسلم عن ابن عمرو قال: كنا مع النبي في سفر فنزلنا منزلاً، فمنا من يصلح خباءه، ومنا من يصلح جشره، ومنا من ينتضل، إذ نادى منادي رسول الله ﷺ: الصلاة جماعة. قال: فاجتمعنا. فقال: «إِنَّهُ مَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ، وَيُنْذِرَهُمْ عَنْ شَرِّ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ، وَإِنَّ هَذِهِ الأُمَّةَ جُعِلَ عَافِيَتُهَا فِي أَوَّلِهَا، وَسَيُصِيبُ آخِرَهَا بَلَاءٌ، وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا، تَجِيءُ الْفِتَنُ يُرَقِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا» [صحيح مسلم (1844)]. ومعنى يرقق بعضها بعضًا أن الآخرة شر من الأولى.

وقد يظن بعض الناس أن هذه الفتن التي أخبر النبي ﷺ بوقوعها في آخر الزمان، والتي حذر منها أمته، بأنها الحروب المشتملة على الضرب بالبنادق والمدافع، والقنابل والسيوف والخناجر. وليس الأمر كذلك، بل هي أشد وأشر من هذا كله، وهي الفتن التي تفسد الأخلاق والعقائد والأديان، وتوقعهم في الافتتان؛ لأن الفتنة أشد من القتل، ولا أشد ولا أشر من الفتن التي تغزو الناس في عقر دورهم، وتفسد ذراريهم ونساءهم، كفتنة الأفلام الخليعة التي هي مشهد زور، ومدرسة فجور، تطبع في نفوس النساء والشباب محبة العشق، والميل إلى الفجور، بحيث تجعل القلب الخالي شجيًّا، تساوره الهموم والغموم، ويبلى بالسهر وطول التفكير، وحرمان لذة النوم، فهي بمثابة شَرَك الكيد، وحبائل الصيد، للقلوب الضعيفة من النساء اللاتي هن ناقصات عقل ودين، وقد وصفهن رسول الله ﷺ في تكسرهن وسرعة ميولهن بالقوارير؛ لأن رؤية ما فيها من الصور المتحركة المضطربة، وسماع ما فيها من الغناء والألحان المطربة، وما يفعلونه من التعاشق والتعانق، كل هذا مما يضعف الإيمان، ويستدعي الميول إلى الفسوق والعصيان، فيغرق الناس جميعًا في حضيض الذل والهوان، فتنقطع من بينهم روابط الزوجية الشرعية، وتدنيهم من الإباحية المطلقة، فمتى كان القائمون ببث أفلامها الخليعة ممن لا حظ لهم في الأخلاق والدين، ويحبون أن تشيع الفواحش بين المسلمين، فإنها تصير فتنة في الأرض وفساد كبير، والدفع أيسر من الرفع، والوقاية أسهل من العلاج.

وإني أنصح المراقبين عليها بتقوى الله في عرض ما ينفع ويجمل ويزين من الأخلاق الفاضلة والأعمال العالية، وأن يتجنبوا عرض منكرات الأخلاق الساقطة والأعمال السافلة، كما يوجبه الدين والشرف والأمانة، فإن الله لا يحب الفحش ولا التفحش.

كما أنني أنصح الحكومة بنصب رقابة عدلية، تمنع نشر الفواحش الموحشة، وتمنع نشر ما يقبح منظره، ويسوء مخبره، كرامة للدين والوطن، واستبقاء لحسن السمعة واتقاء الفتنة، وأن الحكومة إن لم تقم بمنع ما يتوجب منعه من الفواحش الموحشة والألحان الخليعة، فإن الناس سيغرقون جميعًا في فساد البلاد، وفساد أخلاق النساء والأولاد، ويصدق عليهم ما حذرهم منه نبيهم ﷺ حيث قال: «مثل القائم في حدود الله - أي: الذي يسعى في دفع المنكرات وإزالتها - والواقع فيها – أي: الذي يفعل المنكرات - كمثل قوم استهموا على سفينة، فصار بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذ من فوقنا. فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا، ونجوا جميعًا» [رواه البخاري (2493)، والترمذي (2173) عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما].

وهذا مثل مطابق للواقع، فإن الناس متى سكتوا عن نشر مثل هذه الأفلام الخليعة، وتركوها تسطع في دورهم، بين نسائهم وأولادهم، فإن الفساد يعمهم، ويصير ما يشاهدونه خلقًا لهم، يشب عليه صغيرهم، ويهرم عليه كبيرهم.

والرؤساء لا يعذرون أمام الله، ولا أمام الناس عن السكوت على مثل هذا، لكن بعض الناس يعلل نفسه بالأعذار الباردة ويقول: هذا آخر زمن، وهذا تيار جارف، ويفعل مثله في بلد كذا وكذا، وقد عاد الإسلام غريبًا كما بدأ، فاتخذوا هذا الحديث بمثابة التخدير والتعسير، يحاولون أن يسقطوا به ما وجب عليهم من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والنصيحة لله ولعباده المؤمنين، ولأئمة المسلمين، كأن الرسول - بزعمهم - قصد بهذا الحديث الاستسلام لهذا الضعف والغربة للدين، بدون أن يسعى أحد بحوله وقوته، وبجده وجهاده لدفعه ورفعه.

وهذا خطأ واضح لفهم الحديث، فإن رسول الله عليه الصلاة والسلام، إنما قصد به التمسك بالدين، وعدم الاغترار بضعفه وغربته، وإعراض الناس عنه. فقد قال: «بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ» قالوا: ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: «الَّذِينَ يُصْلِحُونَ إِذَا فَسَدَ النَّاسُ»، وفي رواية: «يُصْلِحُونَ مَا أَفْسَدَ النَّاسُ»، وفي رواية: «هم قوم صالحون قليل، في قوم سوء كثير» [أوله عند مسلم (145) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ورواية «الَّذِينَ يُصْلِحُونَ إِذَا فَسَدَ النَّاسُ» عند أحمد (16690) من حديث عبدالرحمٰن بن سنة، والرواية الثانية عند الترمذي (2630) من حديث عمرو بن عوف، والرواية الثالثة عند أحمد (6650) من حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنه].

فمثله في قوله هذا كمثل خريت الأسفار، يخبر قومه بمفاوز الأقطار، ومواضع الأخطار، ليتأهبوا بالحزم، وفعل أولي العزم، من وسائل التعويق ويحترسوا بالدفع لقطاع الطريق، فمعنى الحديث أنه يحث على التمسك بالدين عند ضعفه وغربته، والسعي في إصلاح ما أفسد الناس منه؛ لأن هذا الضعف وهذه الغربة وصف عارض يقع في مكان دون مكان، كما اشتد ضعفه وغربته بعد وفاة رسول الله ﷺ وارتد العرب كلهم عنه، ولم يبق مسجد يصلى فيه إلا مسجد مكة والمدينة ومسجد بجواثى عبد القيس.

وعلى أثر هذا الضعف وهذه الغربة جاهد الصحابة حتى استعادوا قوة الدين ونشاطه وانتشاره، وثبت في الصحيح أنه «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ عَلَى الْحَقِّ مَنْصُورَةٌ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ وَلَا مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ» [رواه مسلم (1920) من حديث ثوبان رضي الله عنه، والترمذي (2192)، وابن ماجه (6) من حديث قرة بن إياس رضي الله عنه].

فالعاقل لا يستوحش غربة الإسلام لقلة المتمسكين، ولا يغتر بكثرة الملحدين التاركين للدين، فإن الله يقول: ﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِين[سورة يوسف، الآية: 103].

***