فتاوى بن محمود

فهرس الكتاب

التبذير المذموم

التبذير المذموم

السؤال: ما هو التبذير المذموم في قوله تعالى: ﴿وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا ؟ [7/305]

الجواب [رقم: 199]:

التبذير هو أن ينفق المال جزافًا في سبيل البذخ والشهوات، والتفنن في المأكولات، والتأنق في المركوبات، والتغالي في المستعملات، وسائر الكماليات؛ لأن الاقتصاد خير كله. وفي الحديث: «مَا عَالَ مَنِ اقْتَصَدَ»[رواه الإمام أحمد في مسنده (4269)، والطبراني في الكبير (10118)، والأوسط (5094) عن ابن مسعود رضي الله عنه، وضعفه الهيثمي في مجمع الزوائد (10/252)، والألباني في السلسلة الضعيفة (4459)، وله شواهد تقويه]. وقال: «الِاقْتِصَادُ نِصْفُ الْعَيْشِ، وَحُسْنُ الْخُلُقِ نِصْفُ الدِّيْنِ» [رواه الخطيب في تاريخ بغداد (12/11) عن أنس رضي الله عنه بإسناد ضعيف]. وقال: «الِاقْتِصَادُ فِي النَّفَقَةِ نِصْفُ الْمَعِيشَةِ، وَالتَّوَدُّدُ إِلَى النَّاسِ نِصْفُ الْعَقْلِ، وَحُسْنُ السُّؤَالِ نِصْفُ الْعِلْمِ» [رواه الطبراني في الأوسط (6744)، وفي مكارم الأخلاق (140)، والبيهقي في الشعب (6148) عن ابن عمر رضي الله عنهما بإسناد ضعيف]؛ لأن المال الحلال لا يحتمل الإسراف، ومن المشاهد المحسوس أن المسرفين المبذرين يصابون بالفقر قبل أن يموتوا؛ لأن إنفاقهم المال في سبيل الإسراف والتبذير، وعدم حسن التدبير، مؤذن بزواله وارتحاله، كما أن إنفاقه على النفس والأهل والعيال، والتجمل منه بأنواع الزينة المباحة، والصلة منه والصدقة هو عنوان شكره المستلزم لنموه وبركته، لكونه أنفق المال في سبيل ما خلق له.

فدين الإسلام هو دين تثمير الأموال وحفظها، وتوسعة التجارات من سبيل حلها، وفي الحديث: «نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحُ لِلرَّجُلِ الصَّالِحِ» [رواه أحمد (17763)، والبخاري في الأدب المفرد (299)، وابن حبان (3210) من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه بإسناد صحيح على شرط مسلم]. ويقول: «التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الأَمِينُ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ» [رواه الترمذي (1209)، والدارمي (2581) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه]. وقد ذهب أهل الدثور بالأجور - أي: أهل الأموال - بالدرجات والنعيم المقيم، وحسبكم ما تسمعونه من كتاب ربكم، يقول الله: ﴿وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً[سورة النساء، الآية: 5]، والسفهاء هم الذين لا يحسنون حفظ المال ولا تثميره، سواء كانوا من النساء أو من الرجال؛ لأن السفه خفة في العقل، علامته عدم حفظ المال. وقوله: ﴿الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً أي: تقوم بها أبدانكم وتقوم بها بيوتكم، ويقوم بها مجدكم، ويقوم بها شرفكم وقوتكم، وقد سأل النبي ﷺ ربه سعة الرزق، واستعاذ من الفقر[روى أبو داود في سننه (1544) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْفَقْرِ، وَالْقِلَّةِ، وَالذِّلَّةِ...». وعند الطبراني في الدعاء (1049) بإسناد ضعيف عَنْ عَائِشَةَ، رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ يَدْعُو يَقُولُ: «اللَّهُمَّ اجْعَلْ أَوْسَعَ رِزْقِكَ عَلَيَّ عِنْدَ كِبَرِ سِنِّي، وَانْقِطَاعِ عُمْرِي»]. يقول ابن عقيل: أقسم بالله لو عبس الفقر في وجه أحدكم لعبس في وجهه أهله وعياله وأقاربه.

وفي الحديث: «الْحَسَبُ الْمَالُ» [رواه الترمذي (3271)، وابن ماجه (4219)، وأحمد (20102) من حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه]. ثم قال: ﴿إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا ٢٧[سورة الإسراء، الآية: 27]. فجعل المبذرين إخوان الشياطين دليلاً على مهانته ومذلته؛ لأن الشياطين هم الذين يبطرون نعمة الله ولا يشكرونها، فما استديمت نعم الله بمثل شكره وحسن عبادته، ونعوذ بالله من زوال نعمته، وتحول عافيته، وفجاءة نقمته، وجميع سخطه.

ومن أراد أن يعرف عناية الله بعباده في حفظ أموالهم، فليقرأ قوله تعالى: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ وَلاَ تَسْأَمُوْاْ أَن تَكْتُبُوْهُ صَغِيرًا أَو كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللّهِ وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ[سورة البقرة، الآية: 282].

وهذا من تمام عناية الله بعباده في حفظ أموالهم، حيث أمرهم بالحزم، وفعل أولي العزم، وأن يكتبوا ما لهم من الحقوق عند الناس من صغيرة وكبيرة؛ لأن القرآن تعليم دنيا ودين.

وفي الدعاء المأثور: «اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِيْنِي الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي، وَأَصْلِحْ لِي دُنْيَايَ الَّتِي فِيْهَا مَعَاشِي» [رواه مسلم (2720) عن أبي هريرة رضي الله عنه].

والحكماء والعلماء والأدباء يمدحون الجود بالمال في سبيل الحق من الصلة والصدقة، ومساعدة المنكوبين والمضطرين، والجهاد به عند دعاء الحاجة إليه.

فيجب أن يكون رخيصًا في هذه السبل الخيرية، كما يجب أن يحفظ عن الضياع، وعن السفهاء المبذرين، كما قيل في صفة الرجل الحازم السخي حسن التدبير والتقدير:

فلا هو في الدنيا مضيع نصيبه
ولا عرض الدنيا عن الدين شاغله

لأن البر وفعل الخير هو همة التقي، ولا يضره لو تعلقت جميع جوارحه بحب الدنيا.

وقال آخر يمدح رجلاً حسن السياسة في العطاء والمنع:

وهُوبُ تلاد المال فيما ينوبه
منُوعٌ إذا ما مَنْعُه كان أحزما

والنبي ﷺ قد سبق الشعراء والحكماء إلى كل قول سديد، وفعل حميد؛ ففي الحديث: «مَا عَالَ مَنِ اقْتَصَدَ» [رواه الإمام أحمد في مسنده (4269)، والطبراني في الكبير(10118)، والأوسط (5094) عن ابن مسعود رضي الله عنه، وضعفه الهيثمي في مجمع الزوائد (10/252)، والألباني في السلسلة الضعيفة (4459)، وله شواهد تقويه].

وقال: «الِاقْتِصَادُ بِالنَّفَقَةِ نِصْفُ الْمَعِيشَةِ، وَالتَّوَدُّدُ إِلَى النَّاسِ نِصْفُ الْعَقْلِ»[رواه الطبراني في الأوسط (6744)، وفي مكارم الأخلاق (140)، والبيهقي في الشعب (6148) عن ابن عمر رضي الله عنهما بإسناد ضعيف].

وقال: «إِنَّ اللهَ كَرِهَ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ»[رواه البخاري (5975)، ومسلم (1715) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه].

وأكثر الناس يغرق في السرف والترف، ولا يحس بغلطه إلا بعد ذهاب المال عن يده، وتراكم الديون عليه، وقد استعاذ النبي ﷺ من المأثم والمغرم وقال: «إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا غَرِمَ، حَدَّثَ فَكَذَبَ، وَوَعَدَ فَأَخْلَفَ» [رواه البخاري (832)، ومسلم (589) من حديث عائشة رضي الله عنها].

وفي الحديث: «أَقِلُّوا مِنَ الدَّيْنِ، فَإِنَّهُ هَمٌّ بِاللَّيْلِ، وَمَذَلَّةٌ بِالنَّهَارِ» [رواه البيهقي في شعب الإيمان (5166) من حديث أنس رضي الله عنه بإسناد ضعيف].

فمن فنون السرف، كون بعض الأثرياء يشتري خاتم الماس بعشرة آلاف، وعشرين ألفًا. وقد سمعت أن بعض الخواتم تبلغ قيمته مائة ألف وأكثر. وهذا يعد غاية في الإسراف والتبذير. فإن أفضل ما تحلى به الشخص العظيم، هو التواضع مع القدرة؛ فمن تواضع لله رفعه، كما أن من تعاظم في نفسه وفي زيه ولبسه، فإنه يصغر قدره في الناس.

إذا أردت شريف الناس كلهم
فانظر إلى ملك في زي مسكين
هذا الذي حسنت في النـاس سيرته
وذاك يصلح للدنيا وللدين

ومن الإسراف شراء ساعة الذهب بآلاف مؤلفة، وهذا بما أنه غاية في السرف الذي يذمه الشرع، ويمجّه العقل، وينافي الاقتصاد والعدل، فإنه من الأمر المحرم بنص الشرع، إذ لا يجوز للمسلم أن يتحلى بساعة الذهب، ولا خاتم الذهب، إذ هو حرام على ذكور الأمة حل لإناثها.

ومن الإسراف ما يفعله بعض النساء المثريات في بعض البلدان، من شراء ثوب بآلاف من الريالات على حساب أن تحفل في عرس أو عيد، ويقوم مقامه في الجلال والجمال وستر الحال، ثوب قيمته أقل بكثير، وقس عليه سائر المستعملات.

ومن الإسراف التوسع في الموائد التي تصنع لإكرام شخص، أو وليمة عرس، أو قدوم غائب، بحيث يذبح قدر عشرين ذبيحة، أو ثلاثين ذبيحة، وربما ذبح معها بكرًا من الإبل، ويحتف بها أشياء كثيرة من المأكولات الثمينة والفواكه، ويقوم المدعوون إليها وهم يمقتونها، لخروجها عن قانون العدل والاقتصاد، وحسن التدبير، إلى عمل الإسراف والتبذير، إذ يكفي في الإكرام والاحترام دون هذا التكلف الزائد؛ لأن من سقطت كلفته، دامت ألفته، وما خرج عن حد القصد والاعتدال، دخل في حدود الذم والاعتلال.

وقد مدح الله الذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا، وكان بين ذلك قوامًا، لهذا تجد هذه الموائد الموحشة تشمئز منها نفوس العقلاء؛ لاعتبار أنها من الأموال الضائعة، بحيث تحمل اللحوم والطعام، ويرمى بها في مواضع القمام، وبطون الأنعام، والكثير من الفقراء تحن بطونهم إليها.

وقد قيل:

ولم يحفظ مُضَاعَ المجد شيءٌ
من الأشياء كالمال المضاع

إنه ما توسع أحد في النفقات الزائدة على الحاجة، إلا ويقصِّر بأداء الحقوق الواجبة عليه، من قضاء ديون للناس لازمة وغيرها، فيقع من أجل توسّعه في تحمل الدَّين الذي هو همّ بالليل، ومذلة بالنهار.

فدين الإسلام الذي نعتقده، هو دين تثمير الأموال وحفظها، وتوسعة التجارات من فنون حلها، ومراعاة القصد، والاعتدال في الأمور كلها.

ومن الإسراف الذميم، التطلبات المرهقة، والتكاليف الشاقة، في سبيل الأنكحة؛ لأن التسهيل يمن، كما أن التكاليف شؤم، فيسِّروا ولا تعسِّروا، وخير النكاح أيسره، وخير النكاح أقله كلفة.

وإنما تقاطع الناس بالتكلف. وإنما بقيت العذارى الأبكار عوانس في بيوت آبائهن من التكلف؛ لأن المقصود من النكاح الشرعي، هو اتصال حبل الخاطب الكفء بالمخطوبة ليتحمل أمانتها، والقيام بكلفة مؤنتها، ويقيم نفسه مقام الخادم لها، في جلب حوائجها، حتى تكون سعيدة بيت، وسيدة عشيرة، وأم بنين وبنات، والذين هم من زينة الحياة.

فانتبهوا من غفلتكم، وتوبوا من زللكم، وحافظوا على فرائض ربكم، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين.

***