فتاوى بن محمود

فهرس الكتاب

المحرمات الواجب اجتنابها في البيع والشراء

المحرمات الواجب اجتنابها في البيع والشراء

السؤال: ما هي الأمور المحرمة في البيع والشراء والتي يجب على التاجر المسلم اجتنابها؟ [7/226]

الجواب [رقم: 222]:

لا يحل للبائع أن يخفي عن المشتري ما في السلعة من العيوب، ولا أن يقول: سيمت بكذا، وهو كاذب، ولا أن يقول: اشتريتها بكذا، وهو إنما اشتراها بأقل، فمتى فعل ذلك، فإن للمشتري الخيار في فسخ العقد؛ لوقوع الغدر والتدليس عليه.

إن البيع الصحيح: هو بيع المسلم للمسلم بلا غش ولا خيانة ولا خديعة ولا كذب. فهذا البيع هو البيع المبرور الذي قال فيه النبي ﷺ: «أَفْضَلُ الْكَسْبِ عَمَلُ الرَّجُلِ بِيَدِهِ، وَكُلُّ بَيْعٍ مَبْرُورٍ» [رواه أحمد (17265)، والبزار (3731)، و الحاكم (2160) من حديث رافع بن خديج رضي الله عنه]. فالبيع المبرور مقرون به اليمن والبركة في السلعة وفي الثمن.

أما البيع المشوب بالخيانة والخداع والكذب، فإنه مقرون به الشؤم والفشل ومحق الرزق. وفي الحديث: «إِنَّ التُّجَّارَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فُجَّارًا، إِلَّا مَنْ بَرَّ وَصَدَقَ» [رواه الترمذي (1210)، وابن ماجه (2146)، وأحمد (20999)، والدارمي (2580)، وابن حبان في صحيحه (4910) من حديث رفاعة بن رافع رضي الله عنه].

وفي الصحيحين أن النبي ﷺ قال: «ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ». منهم «رجل حلف على سلعة بعد العصر، لقد أعطي بها كذا، وكذا، فصدقه المشتري وهو كاذب» [صحيح البخاري (7212)، وصحيح مسلم (108) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه].

وفي صحيح مسلم عن سلمان أن النبي ﷺ قال: «ثلاثة لا يكلمهم الله، ولا ينظر إليهم يوم القيامة، ولهم عذاب أليم: المنان بعمله، والمسبل إزاره خيلاء، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب» [صحيح مسلم (106) من حديث أبي ذر رضي الله عنه].

وإنما حشر أكثر التجار فجارًا؛ من أجل استباحتهم لأكل زكاة مالهم وللخيانة والخداع والتغرير والكذب، وخروجهم عن حدود العدل والصدق. وكفى بك إثمًا أن تحدث أخاك بحديث هو لك به مصدق وأنت به كاذب، يقول: سيمت مني هذه السلعة بكذا، وهو كاذب في ذلك.

وقد عمل بعضهم شيئًا من الحيل المحرمة، والتغرير والخداع؛ يشتري أحدهم الأرض بسبعمائة ألف، ويكتبون ثمنها في صك الشراء بمليون خداعًا وتدليسًا، وهذا كله من الأمر الحرام.

ومثله ما يستبيحه بعض التجار؛ من أن أحدهم يشتري بضائع من الخارج، ثم يطلب من الشركة أن تكتب في قوائمها أكثر من قيمتها؛ لقصد عرضها على الحكومة أو على المشترين. فيأخذ قدرًا زائدًا بطريق الخيانة والغدر والتغرير والكذب.

وقد حث النبي ﷺ على الصدق. ففي الصحيحين من حديث ابن مسعود أنه قال: «عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ، فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ، وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ، حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا، وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ، فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ، وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ، حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذَّابًا» [صحيح البخاري (6094)، وصحيح مسلم (2607)].

وعن عبادة بن الصامت، أن النبي ﷺ قال: «اضْمَنُوا لِي سِتًّا مِنْ أَنْفُسِكُمْ، أَضْمَنْ لَكُمُ الْجَنَّةَ: اصْدُقُوا إِذَا حَدَّثْتُمْ، وَأَوْفُوا إِذَا وَعَدْتُمْ، وَأَدُّوا إِذَا اؤْتُمِنْتُمْ، وَاحْفَظُوا فُرُوجَكُمْ، وَغُضُّوا أَبْصَارَكُمْ، وَكُفُّوا أَيْدِيَكُمْ» [رواه أحمد (22757)، وابن حبان في صحيحه (271)، والحاكم (8066)، والبيهقي في الكبرى (12691)، وفي الشعب (4464)].

فالمؤمن يطبع على الخلال كلها، إلا الخيانة والكذب، قيل للنبي ﷺ: أيكون المؤمن جبانًا؟ قال: «نَعَمْ». قيل: أيكون بخيلًا؟ قال: «نَعَمْ». قيل: أيكون كذابًا؟ قال: «لَا» [رواه مالك (2/990/19) من حديث صفوان بن سليم مرسلًا].

لهذا تجد التاجر الصادق الأمين، يركن الناس إلى معاملته، وإيداع أموالهم عنده، وعرض السلع الرخيصة عليه، لمحبتهم له وثقتهم به، وحسن ظنهم بصدقه وأمانته، فتتوسع تجارته، وينتشر بين الناس فخره وشرفه.

وأما الكذاب الخائن، فإن الناس لا يزالون منه على حذر، بحيث يحذر بعضهم بعضًا من معاملته، وعدم الثقة به، فتكسد تجارته، ويسقط قدره، ويكون كذبه بمثابة الكلب يطرد الرزق عن بابه، ويمنعه من سلوك أسبابه، ولا يجني جان إلا على نفسه، وقد قال النبي ﷺ: «أَرْبَعٌ إِذَا كُنَّ فِيكَ فَلَا عَلَيْكَ مِمَّا فَاتَ مِنَ الدُّنْيَا: حِفْظُ أَمَانَةٍ، وَصِدْقُ حَدِيثٍ، وَحُسْنُ خَلِيقَةٍ، وَعِفَّةٌ فِي طُعْمَةٍ» [رواه أحمد (6652)، والطبراني في الكبير (13/57/141)، والبيهقي في الشعب (4463) من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما].

فهذه الخلال هي التي تجمل التجارة وتنميها، وتنزل البركة فيها، وتحبب الناس للمتصف بها.

وكان النبي ﷺ إذا جرب على أحد شيئًا من الكذب سقط من عينه، واستهان عنده، فلا يقبل عليه بالرضا، حتى يجدد توبته عن تلك الكذبة، ويحث أصحابه على اعتياد الصدق في أقوالهم وأعمالهم ومعاملتهم، وحتى التخاطب مع الصغار من أولادهم. كما في حديث عبدالله بن عامر قال: دعتني أمي يومًا ورسول الله جالس في بيتنا. فقالت: تعال أعطك كذا - أي: تمرة - فقال رسول الله ﷺ: «أَمَا إِنَّكِ لَوْ لَمْ تُطِعْهُ لَكُتِبَتْ عَلَيْكِ كِذْبَةً» [رواه أبو داود (4991)، وابن أبي شيبة (25609)].

مراده بهذا تهذيب أمته صغارهم وكبارهم على اعتياد الصدق، وتربيتهم على التخلق به، واجتناب الكذب، وتقبيحه في نفوسهم؛ لأن من شب على شيء شاب على حبه، وعلى التخلق به، حتى يصير نكتة راسخة في قلبه.

والكذب مجانب الإيمان، وهو من خصال النفاق، كما في الصحيحين: أن النبي ﷺ قال: «آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاَثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ» وفي رواية: «إِذَا خَاصَمَ فَجَرَ» [رواه البخاري (33)، ومسلم (59) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، والرواية الثانية عند البخاري (34)، ومسلم (58) من حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنه].

لهذا يرى العقلاء من علماء النفس أن من فساد التربية للصبي، كونه يُعوَّد الكذب في التخاطب معه وكثرة تخويفه من الكلب، أو من الجن عند بكائه، فيتربى في نفسه هذا التخويف، فيتخلق بالرعب والخوف والاضطراب، فيخاف من كل شيء، ومن الجن، فيصورهم في نفسه، وهو لا خوف عليه منهم، ولا يزال دائمًا يخاف من هذا التخويف في نومه ويقظته، حتى يكبر معه في نفسه حالة كبره، ويصير طبيعة له.

ومن شؤم الكذب أنه ينفق السلعة؛ لكنه يمحق الكسب، ويؤذن بالفشل، والله أعلم.

***