فتاوى بن محمود

فهرس الكتاب

خطر البدع وموقف المسلم منها

خطر البدع وموقف المسلم منها

حضرة صاحب الفضيلة الكريم الشيخ عبدالله بن زيد آل محمود المحترم، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أما بعد: فأحمد إليك الله الذي لا إلـٰـه إلا هو، وأصلي وأسلم على رسوله محمد ﷺ وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.

وحيث إنه في بلدتنا الشارقة لا زالت تظهر حوادث وبدع يتعبد بها ﷲ، وبمناسبة أن أهل هذه البلدة كانوا قبل هذا الوقت لا يستطيع أحد أن يتظاهر بشيء سوى ما كان على عهد رسول الله ﷺ أو كان على عهد صحابته رضوان الله عليهم أجمعين.

واليوم لا زالت الحوادث تظهر كل وقت ويظن العوام أن هذا يكون عبادة لله، يقرب العبد من ربه عز وجل، ولأنه يصدر عن الذين يدّعون العلم فالعوام تقلدهم في ذلك، ويستحسنون هذا الصنيع، فأرجو من سماحتكم الإجابة على ما قدمناه لكم من سؤال ولكم وافر الأجر، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

(9/3/1392هـ) المخلص خادم الشرع الشريف بالشارقة عمر بن خلفان بو خاطر

الجواب [رقم: 303]:

من عبدالله بن زيد آل محمود إلى المحب في الله الشيخ عمر بن خلفان أبي خاطر، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وبعد: فإنني أحمد إليك الله الذي لا إلـٰـه إلا هو، وأسأله سبحانه أن يوفقنا وإياكم لامتثال أمره واجتناب نهيه، وأن يعيننا وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته.

أخي... لقد استلمت رسالتك الكريمة القديمة وفهمت ما تضمنته من الكلمات القويمة، حيث شرحت فيها عن حسن استقامة بلد الشارقة في السنين السالفة، وأنهم سلفيّو الاعتقاد، يتمسكون بما كان عليه عمل الرسول ﷺ وأصحابه، ويتنسكون به، وينفرون ولا يألفون كل ما يخالفه من البدع الخارجة عن حدود الحق، فقد كنا نسمع بذلك عنهم، ونشهد به لهم، والناس شهداء الله في أرضه، وآخر من تصدى لمحاربة البدعة هو الشيخ علي المحمود، والشيخ سيف المدفع، والشيخ البكري، والشيخ الخرجي، وأشباههم.

أشرت أنه في هذا الزمان لا تزال تظهر البدع والحوادث شيئًا بعد شيء، وهذا معلوم، ونحن في زمان الصبر «الْقَابِضُ فِيْهِ عَلَى دِينِهِ كَالْقَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ» [رواه الترمذي (2660) عن أنس رضي الله عنه، وأحمد (9073) عن أبي هريرة رضي الله عنه]، وما ذكرت فيه فإنه من فنون الفتن التي «تعرض على القلوب كالحصير عودًا عودًا، فأيما قلب أشربها وأحبها نكت في قلبه نكتة سوداء، وأيما قلب أنكرها وأبغضها نكت في قلبه نكتة بيضاء، حتى تكون القلوب على قلبين، قلب أبيض مثل الصفا لا تضره فتنة ما بقي الليل والنهار، فذلك قلب المؤمن، وقلب أسود مرباد كالكوز مجخيًّا[أي: مائلاً منكوسًا]، لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا، فذلك قلب المنافق» [رواه مسلم (144) من حديث حذيفة رضي الله عنه]، اللَّهم أرنا الحق حقًّا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله متلبسًا علينا فنضل.

وقد أخبر النبي ﷺ: «أن هذه الفتن يرقق بعضها بعضًا تكون الآخرة شر من الأولى» [رواه ابن ماجه (3956)، وأحمد (6793) من حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما، وآخره عند أحمد (15997) من حديث أبي مويهبة رضي الله عنه]، يبتلي الله عباده بها ﴿لِيَمِيزَ اللّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىَ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ [سورة الأنفال، الآية: 37].

ثم إن البدع هي بريد الكفر، كما أن عبادة الأوثان إنما دخلت على العرب من أجل الغلوّ في محبة الصالحين، ومن لوازم البدع أنها تتفجر أنواعها وغايتها، وأنها تنطبع محبتها في قلوب الهمج السذج؛ لأنها تجعل المنكر معروفًا، والبدعة سنة، ينشأ على هذا الصغير ويهرم عليه الكبير، حتى إذا غيّرت قيل: غيرت السنة، لأن من شب على شيء شاب على حبه.

ثم إنه يترتب على البدعة ما هو شر وخروج عن قانون العدل، من جمع الناس لها، والإنفاق على تشييدها وعمارتها من مال الأوقاف المجعولة في عمل البر والخير، وهذا حرام، وصرف للنفقة في غير مصارفها الشرعية.

وقد أوجب العدول عن دين الله علينا أن نتعاون على البر والتقوى، وأن نتناهى عن الإثم والعدوان، وهذا من الإثم ومن العدول عن الدين، والاستمرار على فعلها والتجمع لها يجعلها سنة راسخة في قلوب الأكثرين من العوام، لكون العامي مشتقًّا من العمى، وقد قيل: ويل للعوام من عثرات العالم.

وهي ليست من شرع الله ورسوله، ولا من هدي الصحابة، وقد قال بعض السلف: كل عبادة لم يتعبدها رسول الله وأصحابه فلا تتعبدوها، فإن الأول لم يترك للآخر مقالاً. ومن لوازم البدع أن رؤيتها تقوم مقام ارتكابها في سلب القلوب نور التمييز والإنكار، لكون البدع على اختلاف أنواعها متى كثر على القلب ورودها، وتكرر في العين شهودها، ذهبت عظمتها من القلوب شيئًا فشيئًا إلى أن يراها الإنسان فلا يرى بقلبه أنها مخالفات ومنكرات، ولا يمر بفكره أنها معاص، وذلك بسبب سلب القلوب نور التمييز والإنكار، على حد ما قيل: إذا كثر الإمساس قل الإحساس.

والمعروف هو ما عرفت العقول السليمة حسنه، والمنكر هو ما أنكرته العقول السليمة.

من ذلك بدعة تعظيم مولد الرسول ﷺ، واستدعاء الناس للتجمع لها، وتعطيل الأعمال والدوائر من أجلها، وهذا العمل وهذا التشديد لذكر المولد إنما دخل على المسلمين من باب تقليد النصارى في حال ضعف الدين زمن الفاطميين، لما رأوا النصارى يعظمون مولد المسيح ويجعلونه عيدًا يظهرون فيه الفرح والسرور، ويعطلون فيه الأعمال، أرادوا أن يضاهوهم على بدعتهم بمقابلتهم بتعظيم مولد الرسول، فقابلوا بدعة ببدعة ومنكرًا بزور، وعلى من سنها وزر من عمل بها إلى يوم الحشر والنشور، فصدق على الناس قول النبي ﷺ: «لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ» [رواه البخاري (3456)، ومسلم (2669) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه بلفظ: «لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ»، قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ: اليَهُودَ، وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: «فَمَنْ؟!»]، فهي من محدثات الأمور التي نهى عنها النبي في قوله: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي، تَمَسَّكُوا بِهَا، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، فَكُلُّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ» [رواه أبو داود (4607)، الترمذي (2676)، وابن ماجه (42)، وأحمد (17144) من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه].

وهذه مما يعلم الله ورسوله والمؤمنون أنها ليست من سنة رسول الله ولا خلفائه وأصحابه، وإنما هي من محدثات الأمور التي حذر أمته عنها، وهذه البدع تنشأ صغيرة، وتحتف بمقصد حسن عند الناس في الظاهر، وهو باطل في الباطن، حيث يقصدون بها تعظيم الرسول وتشييد ذكره بإحياء مولده، وهذه هي حجة كل من انتحل عمل بدعة، كما حكى الله عن المنافقين أنهم ﴿يَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا[سورة النساء، الآية: 62]، مثل قولهم: إن أردنا إلا محبة الرسول وإحياء ذكرى مولده، وحسن المقاصد لا يبيح المحظور، ومن المشاهد بالاعتبار أن هذه البدع تفضي إلى فنون من الشرور، وقد ذكر محمد رشيد رضا في تفسير المنار[تفسير المنار (1/396)، (2/61)] فنونًا من أنواع المنكرات استباحها الناس تدريجيًّا تبعًا لاستباحة احتفالات الموالد، فكانوا في مصر، وفي كثير من البلدان يضربون في الموالد المعازف، ويشربون الخمور، ويفعلون أشياء كثيرة من المنكرات، والزور والأخلاق السيئة.

ثم ذكر أمرًا آخر، هو أكبر من هذا وأنكر، وهو أنه شاع في اعتقادهم أنه من يحضر للموالد فإنه يحصل له من الربح كذا ومن الخير كذا، ويربح صحة جسمه وسلامة عياله، وإن لم يحضر المولد فإنه يصاب بأنواع من المصائب، إلى غير ذلك مما يقولونه ويعتقدونه في ترويج هذه البدعة، وما يترتب عليها من المآكل الشهية، وقد أنحى عليهم صاحب المنار بالملام، وتوجيه المذام في مواضع متعددة من المنار، وكذلك سائر العلماء من السلف، وقد ذكر صاحب كتاب الإبداع في مضار الابتداع أن أول من أحدث بدعة المولد هم الفاطميون في مصر، ثم أخذت تنتشر وتشتهر بتشييد علماء السوء لها وتحسينهم إياها، وفيها من المآثم، وارتفاع الأصوات، وترك الصلاة، والقيام. والقعود، ما يلحقها بالسخرية والمجون، وقد قيل:

ثلاث تشقى بهن الدار
المولد والمأتم والزار

إن محبة الرسول الصحيحة الحقيقية تنحصر في طاعة الرسول فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما عنه نهى وزجر، ثم الإكثار من الصلاة والسلام عليه في كل الحالات، وأكثر الأوقات، لاعتبار أن الصلاة عليه من أفضل الطاعات وأجلّ القربات، وأن من صلى عليه مرة صلى الله عليه عشرًا، فهذا هو الأمر المشروع والمشهور في حق المسلم، وهذا هو القول المعقول المقبول في حقيقة محبة الرسول.

ويلتحق بذلك بدعة تعظيم النصف من شعبان، لاعتبار أنه تنسخ فيه الآجال، ويجتمع لها النساء والرجال، وهي من البدع التي لا أصل لها من الدين.

ومثله اجتماع الناس ليلة سبع وعشرين من رمضان واحتفالهم بهذه الليلة لدعوى أنها ليلة القدر، وهذا الاجتماع لأجل الاحتفال بهذه الليلة لا أصل له، من أجل أن ليلة القدر ليست معروفة بطريق اليقين، وهذا الاجتماع يوقع في قلوب الناس أنها ليلة سبع وعشرين، ثم إن المطلوب والمرغوب فيه هو إحياؤها بالصلاة والعبادة كسائر أيام رمضان، عملاً بقول النبي ﷺ: «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» [رواه البخاري (37)، ومسلم (759) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه].

لهذا يجب فهم معاني حديث رسول الله، وأنه إنما حث وحرض على إحيائها بالصلاة والعبادة، لا بالتجمعات التي تصد عن ذكر الله وعن الصلاة.

ومثله ما يفعله بعض الناس من التجمعات برجب بدعوى أنه المعراج، وهذه أيضًا من البدع؛ لكونهم يفعلونها بطريق الدين ومحبتهم لرسول رب العالمين، على أنه لم يثبت بطريق صحيح اليوم الذي عرج برسول الله فيه ولا شهره، ولم يكن عند السلف الصالح من الصحابة والتابعين اعتناء بالتجمع فيه، بل هو من محدثات الأمور التي حدثت بعد القرون المفضلة حينما ضعف أمر الدين، وقلّ المنكرون للمخالفات التي تفضي بالناس إلى المنكرات.

وما أحدث الناس بدعة إلا رفع مقابلتها من السنة، فتمسك بسنةٍ خير من إحداث بدعة، ومن طبيعة البدعة أنها تتفجر إلى فنون من الشرور، لهذا يجب على المسلم المحتسب إنكار ما يراه منها، ولا يجوز الإنفاق عليها من الأوقاف الخيرية؛ لأن من شرط صحة الوقف كونه على فعل قربة وطاعة لله، وهذا المولد ونحوه ليس بقربة ولا طاعة، بل هو بدعة صريحة في مخالفة سنة رسول الله، وسيرة خلفائه وأصحابه.

ونحن في جهتنا قد قمنا بمنع هذه البدع كلها منعًا باتًّا، فلا يظهر لها أثر ولا ذكر، ولا يعطل لشيء منها عمل ولا دائرة، مع أن بعض المعلمين الأجانب كانوا يتطلعون إلى إحداثها، فالمنع لها هو العمل الجاري عندنا وفي سائر بلدان المملكة العربية السعودية، وعهدي بأهل بلد الشارقة وما حولها من القرى مثل عجمان ورأس الخيمة أنهم لا يقلون في التمسك بالعقيدة السلفية عن المذكورين، نسأل الله سبحانه الهدى والسداد، ونعوذ بالله من منكرات الأخلاق والأعمال.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

عبدالله بن زيد آل محمود رئيس المحاكم الشرعية بقطر

***