فتاوى بن محمود

فهرس الكتاب

الشفعة على الدولة

الشفعة على الدولة

السؤال:

حضرة صاحب الفضيلة الشيخ عبدالله بن زيد آل محمود - رئيس المحاكم الشرعية بقطر - الموقر، وفقه الله لحل المشاكل، وبلغنا وإياه أعلا المنازل آمين.

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

فأرجو الله أن تكونوا ومن لديكم بكمال الصحة والعافية. كما أن صحتنا بفضل الله على ما تحبون.

ثم يا صاحب الفضيلة؛ لدي قضية مشكلة عليّ، وفتشت في المراجع حسب استطاعتي ولم أعثر على نص يقنعني. والمسألة أدام الله وجودكم هي:

إن أناسًا مثلاً من آل فارس لهم أرض باعوها على زيد، ثم إن الحكومة انتزعتها من زيد للمصلحة العامة وقدرتها له بمبلغ من المال، وقبضه، وأخذت الأرض على ملك الدولة ما يقارب خمس عشرة سنة، وقد تصرفت فيها الحكومة بأن أخذت حاجتها منها، ووهبت بقيتها لعمرو. ثم تبين من آل فارس اثنان من ورثة آل فارس لهم في هذه الأرض جزء بسيط جدًّا.

فأخذا يطالبان بالشفعة على زيد، وزيد هذا قد انتزعتها الدولة من يده، وتصرفت فيها بأخذ حاجتها منها في المصالح، والبقية وهبتها لعمرو.

فما رأي فضيلتكم في هذه الشفعة هل تثبت على زيد في الأرض، وتنتزع من الحكومة؟ أم أن الدولة ليس عليها شفعة لأنها انتزعتها من زيد للمصلحة العامة، ووهبت بقيتها لعمرو؟

أرجو من فضيلتكم إفتائي بما ترونه في هذه القضية، وإحالتي على مرجع بحثها صحيفة وكتابًا.

جعلني الله وإياكم من المتعاونين على البر والتقوى، ومن الذين قال الرسول فيهم: «لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ، رَجُل آتَاهُ اللَّهُ الحِكْمَةَ فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا النَّاسَ» [رواه البخاري (73)، ومسلم (816) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه].

كما أرجو سرعة الجواب ولو كان عليكم في ذلك مشقة، فإنه أعظم للثواب.

وختامًا بلغوا سلامنا الأولاد والمشايخ وكل عزيز لديكم. كما من عندنا الزملاء يبلغونكم السلام، والله يحفظكم بلطفه ويكلؤكم برعايته. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

(15/2/1394هـ)
محبكم/ عبدالرحمٰن محمد بن فارس
القاضي بالمحكمة الكبرى بالرياض

الجواب [رقم: 239]:

أرفع لشيخنا العلامة الشيخ عبدالرحمٰن بن محمد بن فارس.

قاضي المحكمة الكبرى بالرياض.... حفظه الله.

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته...

يا محب؛ لقد تشرفت بوصول كتابكم الكريم، وفهمت ما يتضمنه من كلامك القويم، الدال بكل معانيه على الحفاوة الودية والمحبة الدينية.

أشرت إلى المشكلة التي حاصلها هو (أن أناسًا من آل فارس لهم أرض باعوها مثلاً على زيد، ثم إن الحكومة أخذت هذه الأرض من زيد للمصلحة العامة بمبلغ من المال قبضه زيد حسب العادة، وبقيت هذه الأرض في ملك الدولة ما يقارب خمس عشرة سنة، وتصرفت الدولة فيها بأخذ حاجتها منها، ثم وهبت بقيتها لعمرو أو لشخص آخر، وبعد هذا التصرف تبين لاثنين من آل فارس أن لهما جزءًا يسيرًا جدًّا من هذه الأرض، فأخذا يطالبان بالشفعة على زيد في الأرض التي انتزعتها الحكومة من زيد بالثمن). هذا حاصل المشكلة المسؤول عنها، وهل لهما حق أو لا حق لهما؟

فاعلم يا محب أن الشفعة شرعية، وتسمى قهرية، ولها شروط تثبتها وموانع تبطلها، ويتبين لي بطريق اليقين من أقوال الفقهاء أن هذين الاثنين يطالبان زيدًا بالشفعة، وأنه لا حق لهما في الشفعة من وجوه عديدة؛ لكون الشفعة التي أعلنا بها على زيد لم تصادف محلاً للقبول ولا الصحة فكانت ساقطة؛ لأن زيدًا حصل منه التصرف التام في بيع هذه الأرض على الحكومة في حالة كونها ملكه، فباعها بيعًا صحيحًا لازمًا يترتب عليه صحة مقتضاه والعمل بموجبه من انتقال ملكها إلى الحكومة؛ لكون زيد غير ممنوع شرعًا من التصرف فيما اشتراه، ثم إن الحكومة بعد أخذها لحاجتها فيها وهبت بقيتها لعمرو أو لشخص آخر هبة تبرر لا حيلة فيها، لكون الحكومة لا تريد جزاء على مثل هذه الهبة، ولا تعملها حيلة، فصارت هبتها لهذه الأرض صحيحة لازمة لا شيء يبطلها، وباستقرار هذه الأرض في يد الموهوب له تنقطع الشفعة فيها من كافة الوجوه، فلا يستحق الاثنان الشفعة فيها، لا من المشتري الأول الذي هو زيد، ولا من الحكومة، ولا من عمرو الموهوبة له الأرض.

إذا ثبت هذا فإن شفعه الاثنين لم تصادف محلاً للصحة؛ لكون هذه الأرض انتقلت إلى عمرو بطريق الهبة، فسقطت فيها الشفعة.

أما لو باع شخص أرضًا على زيد، ثم باعها زيد على آخر، فبقيت في يد الآخر بحالها، فإنهما يأخذانها بالشفعة لأحد الثمنين، كما نص على ذلك الفقهاء، والقضية المسؤول عنها غير هذه، لم تبق الأرض عند المشتري - أي: زيد - بحالها، ولا عند من اشترى من زيد، وإنما صادفت الشفعة كونها موهوبة لعمرو، فانقطعت الشفعة في سهامها، ولا شفعة في ثمنها قطعًا، غير أنه يبقى للاثنين مستحقهما من الثمن الذي دفعته الحكومة بالغًا ما بلغ، فإذا كان مستحقهما من الأرض قدر سهم من مائة سهم، والتعويض الذي دفعته الحكومة مائة ألف فلهما ألف واحد، أو كان مستحقهما سهمين من مائة سهم، والتعويض مائة ألف، فلهما ألفان يدفعهما زيد إليهما، ويرجع زيد على البائعين في قيمة سهمهما من مبلغ الثمن الذي اشترى به، فمتى كانت قيمتها عليه مثلاً بعشرة آلاف، ولهما سهم من مائة سهم، فإنه يرجع على البائعين بمائة ريال ويجري الحساب على هذا المنوال.

وها هنا [أمر] نحب التنبيه إليه لغفلة أكثر القضاة عنه، وهو أن من شروط الشفعة أن يكون (شقصاً مشاعًا من عقار ينقسم قسمة إجبار، وما لا يمكن قسمته فيه ولا به)، واستدلوا له بمفهوم حديث: قضى رسول الله ﷺ بالشفعة فيما لم يقسم[رواه ابن ماجه (2497)، وابن حبان (5185) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه]، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة فيما لا تجب قسمته، متى طلب الشريك. قاله في الإقناع وشرحه ص (2/378).

وعللوا بأن إثبات الشفعة في مثل هذا يضر بالبائع، لا أنه لا يمكنه أن يخلص نصيبه بقسمته، وقد يمتنع البيع لامتناع المشتري لأجله، فسقطت الشفعة فيه. قاله في شرح الإقناع.

فالقول بسقوط الشفعة في العقار الذي لا تمكن قسمته هو المذهب، فالسهم الحقير الذي لا يمكن قسمته لا شفعة فيه ولا شفعة به في ظاهر المذهب، وإنما تباع الأرض بجملتها، ويقسم ثمنها بين المستحقين لها، ويجبر الممتنع عن البيع على موافقة الشركاء في ذلك.

وبعض المشايخ حين يرى في كتب الفقه التمثيل بالحمام الصغير والبئر والعراص الضيقة والدكان الضيق الذي لا تمكن قسمته، فيظنون أن الحكم مقصور على هذا، ولا يتعدى إلى غيره.

وقد نص الفقهاء من الحنابلة وكافة فقهاء المذاهب الأربعة على أن الشقص من مثل هذه الأرض متى انتقل إلى شخص بغير عوض مالي؛ كهبة وصدقة ووصية وارث ونحوه، فإنه لا شفعة فيه في الحالة هذه؛ لأن الشفعة هي انتزاع حصة الشريك ممن انتقل إليه بعوض مالي، أما إذا انتقل إلى الشخص بغير عوض مالي، كالهبة في هذه الصورة، فلا شفعة فيه، لا على زيد، ولا على الحكومة، ولا على الموهوب له، وهذا هو الظاهر من المذهب، كما أنه مذهب الأئمة الأربعة. قال في الإقناع ص (377): (ولا شفعة فيما انتقل بغير عوض بحال كموهوب وموص وموروث ونحوه).

وحكى الموفق بأن هذا هو قول عامة أهل العلم من أئمة المذاهب الأربعة. قال في المغني (5/234): (والشرط الرابع: أن يكون الشقص منتقلاً بعوض، وأما المنتقل بغير عوض كالهبة بغير ثواب والصدقة والوصية والإرث، فلا شفعة فيه في قول عامة أهل العلم، منهم مالك والشافعي وأصحاب الرأي). انتهى.

وعللوا إسقاطها بأن الشقص انتقل إلى الشخص بغير عوض، وفي الشفعة فيه إضرار كبير على الموهوب له؛ لكونه ينتزع منه، فيلحق ضرر بانتزاعه أكبر من ضرر الشفيع، «وَالضَّرَرُ لَا يُزَالُ بِالضَّرَرِ»، فسقطت الشفعة من أجله، وهذا هو عين المسؤول عنه.

يبقى أن يقال: إن هذين الاثنين قد جهلا مستحقهما من هذه الأرض حال وقوع التبايع فيها إلى أن انتقلت من الحكومة إلى الموهوب له، فبعد علمهما بالمستحق أعلنا بالشفعة على زيد فيما باعه على الحكومة.

فجوابه: إن جهالة الاثنين بمستحقهما من هذه الأرض التي جرى فيها البيع من واحد إلى آخر لا يثبت لهما حقًّا في الشفعة فيها في ظاهر المذهب؛ «إذ ليست الجهالة بعذر يقتضي الاستحقاق»؛ لكون الشفعة إنما شرعت في حق من واثبها في حين البيع، وقالوا: «الشُّفْعَةُ كَحَلِّ الْعِقَالِ». رواه ابن ماجه[سنن ابن ماجه (2500) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما بسند ضعيف، وهو حديث منكر كما في السنن الكبرى للبيهقي (6/178)]، ولأن ثبوتها على التراخي بعذر الجهالة يضر بالمشتري، ومن شرطها المطالبة بها على الفور ساعة يعلم بالبيع، وهذا هو الظاهر من المذهب. قال في الإقناع ص (380): (وإن أخر الطلب بالشفعة مع إمكانه ولو جهلاً منه باستحقاقها سقطت شفعته؛ لكون الشفعة لا تستحق ولا تثبت إلا بعد الشراء المقترن بإعلانها). انتهى.

هذا على فرض بقائها في يد زيد وأنه لا شفعة لهم عليه فيها لما ذكرنا.

لهذا نراهم يشفعون بكل سهم حقير لا تمكن قسمته، وأظنه غلطًا على المذهب، والصحيح أن كل سهم حقير لا تمكن قسمته فإنه لا شفعة فيه ولا به. أحببت تعريفكم بذلك للعمل بموجبه.

فهذا جواب ما وقع السؤال عنه، فإن أشكل شيء مما شرحت، فراجعني فيه لتستفيد فيه تفهمًا، ﴿وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا[سورة طه، الآية: 114]، وأسأل الله لي ولك الهدى والسداد.

(29/2/1394هـ، 23/3/1974م) رئيس المحاكم الشرعية بقطر عبدالله بن زيد آل محمود

***