فهرست کتاب

ماذا يفعل إذا وقع الوباء في بلد؟

ماذا يفعل إذا وقع الوباء في بلد؟

السؤال: إذا وقع الوباء في بلد فهل نَجتنب زيارته أم نتوكل على الله وندخله؟ [7/326]

الجواب [رقم: 269]:

لما سافر عمر بن الخطاب إلى الشام ومعه عدد كثير من الصحابة، فلما قرب إلى البلد، تلقاه أبو عبيدة ابن الجراح خارج البلد، وأخبره أن الطاعون قد وقع في البلد، فنزل خارج البلد، ثم قال: يا ابن عباس، ادع لي المهاجرين. فدعوتهم له، فاستشارهم في دخول البلد أو الرجوع، فمنهم من قال: توكل على الله وادخل البلد. ومنهم من قال: ترجع ولا تدخل. فقال: قوموا عني. ثم قال: يا ابن عباس، ادع لي الأنصار. فدعوتهم له فاتفقت كلمتهم على أن أشاروا عليه بالرجوع، وأن لا يقدم بالصحابة على موضع الهلاك، وكان عبدالرحمٰن بن عوف متغيبًا، فجاء، وقال: إن عندي من هذا علمًا، ولقد سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إِذَا وَقَعَ الْوَبَاءُ بِأَرْضٍ، فَلَا تَدْخُلُوْهَا»، فحمد الله عمر على إصابة الحق[رواه البخاري (5729)، ومسلم (2219) من حديث عبدالرحمٰن بن عوف وعبدالله بن عباس رضي الله عنهم].

وفي سنن أبي داود أن قومًا جاؤوا إلى النبي ﷺ، فقالوا: يا رسول الله، إن لنا بلدًا بعدن هي ريفنا، ومصيفنا، فإذا نزلناها نحفت أجسامنا، وقل عددنا، فقال رسول الله: «اتركوها ذميمة فإن من القَرَف[القَرَف: القرب من الوباء، والمعنى أن الدخول في أرض بها وباء من مداناة المرض] التلف» [رواه أبو داود (3923)، وأحمد (15742) من حديث فروة بن مُسَيْك بإسناد ضعيف، ورواه أبو داود (3924) من حديث أنس رضي الله عنه بلفظ: «قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ الله، إِنَّا كُنَّا فِي دَارٍ كَثِيرٌ فِيهَا عَدَدُنَا، وَكَثِيرٌ فِيهَا أَمْوَالُنَا، فَتَحَوَّلْنَا إِلَى دَارٍ أُخْرَى فَقَلَّ فِيهَا عَدَدُنَا، وَقَلَّتْ فِيهَا أَمْوَالُنَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ذَرُوهَا ذَمِيمَةً»، وإسناده حسن].

فأخبر رسول الله ﷺ أن مقاربة الإنسان للأشياء الوبيئة، وسكناه في البلد الوبيئة، كثيرة الأسقام، إنه عين الهلاك والتلف، فترك سكنى مثل هذه القرية الوبيئة ليس من التطير في شيء، كما أن منع المصاب بمرض معدٍ من دخول البلد ليس من التطير، وإنما هو من أمر الحزم وفعل أولي العزم، وقد سنه رسول الله لأمته؛ لأنه من باب اتقاء أسباب البلاء، والمباعدة عن مواقع الوباء، ولما مرّ النبي ﷺ على حائط مائل أسرع السير، فقيل له في ذلك فقال: «أخشى موت الفجأة» [رواه أحمد (8666)، وأبو يعلى (6612)، والبيهقي في الشعب (1297) من حديث أبي هريرة بلفظ: «مَوْت الْفَوَات» وإسناده ضعيف جدًا].

ولما عزم عمر أن يرجع بالصحابة وأن لا يدخلهم الشام وهي وبيئة، فقال: إني مصبح على ظهر، فأصبحوا عليه. فقال له أبو عبيدة: أفرارًا من قدر الله يا عمر؟ قال: نعم، نفرّ من قدر الله إلى قدر الله[الحديث بتمامه رواه البخاري (5729)، ومسلم (2219) عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما].

فالرسل وأتباعهم يفرّون من القدر إلى القدر، ويدافعون القدر بالقدر، ويحكمون الأمر على القدر، مع توكلهم على ربهم، فالمرض الذي يصاب به الشخص هو من قضاء الله وقدره، والدواء الذي يعالج به ليشفيه هو من قضاء الله وقدره، فهو يحارب المرض بهذا الدواء ليشفيه، كما قيل: نعالج آفاتًا بآفات.

ولما قيل للنبي ﷺ: أرأيت أدوية نتداوى بها، وعوذًا نتعوذ بها، وتقاة نتقيها، هل ترد من قدر الله شيئًا؟ فقال: «بَلْ هِيَ مِنْ قَدَرِ اللهِ» [رواه الترمذي (2065)، وابن ماجه (3437) من حديث أبي خزامة، وإسناده ضعيف].

فالقدر ليس بِغُلّ في العنق، ولا قيد في الرجل، بل هو عبارة عن سبق علم الله بالأشياء، فلا يجب الاتكال عليه، والنبي ﷺ قال: «تَدَاوَوْا وَلاَ تَدَاوَوْا بِحَرَامٍ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يُنْزِلْ مِنْ دَاءٍ إِلَّا وَأَنْزَلَ لَهُ دَوَاءً، عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ، وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ إِلَّا الْمَوْت» [رواه أبو داود (3855)، والترمذي (2038)، ابن ماجه (3436)، وأحمد (18456) من حديث أسامة بن شريك بنحوه].

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن الإعراض عن استعمال الأدوية المباحة المجربة قدح في الشرع، واعتقاد عدم نفعها نقص في العقل، والمؤمن كامل الإيمان يستعمل الدواء وقت حاجته إليه، مع توكله على ربه.

وبالحقيقة فإن العدوى الضارة هي مقارفة ومقاربة أهل السفه والفساد المتصفين بفعل المنكرات، وشرب المسكرات، فكم من سفيه أردى حكيمًا حين آخاه. لهذا فقد يوجد رجل يعيش في الدنيا بأدب وشرف وحسن خلق، ثم يدب إليه داء العدوى الناشئة عن مجالسة ومؤانسة أهل الفساد، فيتخلى عن الفضائل، ويتحلى بالرذائل، وتظهر سيما السوء على وجهه، وتخيم الوحشة على أهل بيته، ويبغض أهله وأقاربه وجيرانه؛ لأنه قد شذ عنهم بطباعه، وفساد أوضاعه، وقد يتعدى ضرر فساده إلى إخوانه وأولاده، فيكون عضوًا فاسدًا في المجتمع، ومن يهن يسهل عليه الهوان.

***