إحداث الكنائس والبيع في بلاد المسلمين وتجنيس غير المسلمين
السؤال: ما الحكم الشرعي بشأن إحداث الكنائس، والبيع، وأماكن الصلوات لأهل البدع، في بلاد المسلمين؟ وما حكم ما بُني منها؟ وما حكم تجنيس غير المسلمين؟
الجواب [رقم: 358]:
إن هذه المعابد على اختلاف أسمائها قد ذكرها الله في كتابه المبين، فقال سبحانه: ﴿وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا﴾[سورة الحج، الآية: 40]، فالصوامع هي المعابد الصغار لأهل الكتاب، والبيع هي معابد اليهود، والصلوات هي الكنائس للنصارى.
ولما افتتح الصحابة بلدان فارس والروم ومصر والشام، أبقوا هذه المعابد على حالها، ولم يتعرضوا لها بسوء، ولم يمنعوا أهلها من دخولها.
وفي صلح رسول الله ﷺ مع نصارى نجران ما نصه:
فقد روى أبو عبيد - رحمه الله - أن رسول الله ﷺ صالح أهل نجران فكتب لهم كتابًا جاء فيه:
«...بسم الله الرحمٰن الرحيم...
هذا ما كتبه محمد النبي لأهل نجران وحاشيتها، لهم ذمة الله وذمة رسوله على دمائهم، وأموالهم، وملتهم، وصلبانهم، وبيعهم - أي: كنائسهم - ورهبانهم، وأساقفتهم - أي: علمائهم - على أن لا يغير لهم أسقفًا ولا راهبًا من رهبانهم، وعلى ألا يُحشروا ولا يُعشروا، ومن ملك منهم حقًّا فالنصف بينهم، وعلى ألا يأكلوا الربا.. فمن أكل الربا منهم فذمتي منه بريئة، وعليهم الجهد فيما استقبلوا غير مظلومين ولا معسوف عليهم...» [كتاب الأموال لأبي عبيد ص (244) رقم (503)].
وقد قيل: إن النبي ﷺ فرش لهم عباءته وأجلسهم عليها.
وقد عمل الخلفاء الراشدون مع المخالفين لهم في الدين بكل ما أوصى به رسول الله ﷺ في هذا الصلح الواقع بينه وبين أهل نجران، فأبقوهم على عقيدتهم وملتهم وصلبانهم وكنائسهم، فلم يكرهوا أحدًا على الخروج عن دينه.
وبسبب هذا التسهيل وعدم الإكراه في الدين، أخذ النصارى يدخلون في دين الله أفواجًا طائعين مختارين، ومن أقام منهم على دينه فإنه آمن على نفسه وماله وعياله.
والفقهاء المتقدمون لم يهملوا حقوق أهل الذمة، فقد نصوا على وجوب الرفق بهم، ودفع من يتعرض لأذيتهم.
فقال الشهاب القرافي - وهو من كبار أئمة التشريع في الإسلام - في كتابه الشهير «الفروق»:
«إن عقد الذمة يوجب لهم حقوقًا علينا، أنهم في جوارنا وفي خفارتنا وفي ذمة الله تعالى وذمة رسوله ﷺ، ودين الإسلام، فمن اعتدى عليهم ولو بكلمة سوء، أو غيبة في عرض أحدهم، أو أي نوع من أنواع الأذية، أو أعان على ذلك، فقد ضيع ذمة الله، وذمة رسوله، وذمة دين الإسلام» [كتاب الفروق للقرافي (3/14)].
وقال الإمام ابن حزم في مراتب الإجماع: «إن من كان في ذمة وجاء أهل الحرب إلى بلادنا يقصدونه، وجب علينا أن نخرج لقتالهم بالكراع والسلاح، ونموت دون ذلك، فإن تسليمه إهمال لعقد الذمة».
وقد شهد المؤرخون من سائر الأمم بأنه ما عرف فاتح أعز ولا أقوى ولا أسرع سيرًا في الفتوح من المسلمين، بل ولا أرحم منهم، وذلك حين دخل الإيمان قلوبهم، وأنهم لم يتوصلوا إلى ما تحصلوا عليه إلا بالإيمان وحده، والسياسة بالعدل والإصلاح، وأن جميع الشعوب لم يخضعوا لهم ولم يدينوا بدينهم ويتعلموا لغتهم، إلا لما ظهر لهم من أن دينهم هو الدين الحق الكفيل بسعادة البشر كلهم، الصالح لكل زمان ومكان، الذي نظم حياة الناس أحسن نظام.
أما الكلام في إحداث الكنائس في بلدان المسلمين، فقد أجمع الصحابة زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه على منعها، حتى جعلها عمر شرطًا على أهل الذمة، بألا يحدثوا كنائس ولا بيعًا، وقد أجمع على ذلك أئمة المذاهب الأربعة فقالوا: بمنع إحداث الكنائس والبيع في بلدان المسلمين، كما روى مالك أن النبي ﷺ قال: «لَا يَجْتَمِعُ دِينَانِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ» [رواه مالك في الموطأ (2/892/18) عن ابن شهاب الزهري مرسلاً، ورواه أحمد (26352) من حديث عائشة رضي الله عنها بلفظ: «لَا يُتْرَكُ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ دِينَانِ»].
وروى كثير بن مرة قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: قال رسول الله ﷺ: «لَا تُبْنَى الْكَنِيسَةُ فِي الْإِسْلَامِ» قاله ابن قدامة في المغني الجزء العاشر[المغني لابن قدامة (9/356)].
وقد غدا هذا المنع مشهورًا ومتواترًا، ولكن بعض الناس قد يمتعض من سماع مثل هذا، لظنه أن الكنائس إنما بناها أهلها للتحنث فيها والعبادة.
وهذا وإن كان صحيحًا في مبدئها، لكن أحوال الكنائس تطورت إلى أن صارت مأرزًا ومركزًا لدعاة النصارى إلى النصرانية، يتعرضون فيها إلى ذم الإسلام، والطعن في القرآن، وفي الرسول ﷺ بتحريف الكلم عن مواضعه، حتى صارت أكبر خطر وأعظم ضرر من كل شيء لكونها تؤدي إلى فتنة الناس عن دينهم ﴿وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ﴾[سورة البقرة، الآية: 191].
وقد سمعنا عن بعض المحتسبين أنه بنى مسجدًا في بلد، ثم بنى كنيسة في بلد آخر، لظنه أنها للعبادة، ويجهل تحريم الشرع في منعها.
ونحن ننصح ونحذر أمراء وحكام المسلمين السماح بإحداث هذه الكنائس في بلادهم، التي تصد الناس عن الدين، وتوقعهم في الفتنة والضلال المبين.
فضررها على الدين وعلى عباد الله المؤمنين أعظم من ضرر مسجد الضرار الذي قال الله فيه: ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُون ١٠٧ لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا﴾[سورة التوبة، الآيتان: 107 - 108]، فكل هذه الأوصاف المذكورة في تأسيس مسجد الضرار، منطبقة بالمقتضى والتضمن لتأسيس الكنائس على حد سواء.
فهي الحجاب الثخين دون الناس واعتناقهم للإسلام، وقد قلنا في رسالتنا: (دعوة النصارى وسائر الأمم إلى دين الإسلام) ما نصه: إن أكبر صارف يصرف علماء النصارى وعامتهم عن اعتناق الإسلام، وعن التصديق بنبوة محمد عليه الصلاة والسلام، وبالقرآن النازل عليه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، هو تأثرهم بتنفير القسيسين والمبشرين في الكنائس عن الإسلام، وكثرة كذبهم وافترائهم على رسول الله ﷺ، بقولهم بأنه رجل عاقل وأنه عبقري، وأن هذا القرآن هو شيء فاض على نفسه بدون أن يوحي به الله إليه، أو ينزل به جبريل عليه، تعالى الله عن قولهم وإفكهم علوًّا كبيرًا.
فهم يتلقون هذا الكذب من القسيسين والمبشرين في الكنائس، مما جعلهم يتأثرون به ويتربون في حالة صغرهم على اعتقاده، فهذا التأثير والتأثر قد أشربت به قلوبهم، حتى صار لهم طريقة وعقيدة، فهو أكبر صارف يصرفهم عن الإسلام وعن التصديق بنبوة محمد عليه الصلاة والسلام.
حتى كانوا بسبب هذا التأثير أشد عداء للإسلام والمسلمين، وقد أساء النصارى الصنيع مع المسلمين في هذا الزمان وفي كثير من البلدان، ضد ما فعله بهم المسلمون، وضد ما كان عليه قدماء النصارى، فإن من تعاليم المسيح عليه السلام الهدوء والعفو والصفح وعدم الانبعاث بالشر، لكنهم لما تباعدوا عن تعاليم المسيح أخذوا يتميزون بالحقد والشحناء على المسلمين.
وهذا العمل بهذه الصفة ينذر بشر العواقب، وأسوأ النتائج عليهم وعلى الناس كافة ﴿وَمَن يُرِدِ اللّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللّهِ شَيْئًا﴾[سورة المائدة، الآية: 41].
وبناءً على النصيحة الصادرة منا لأمراء وحكام العرب والمسلمين نقول بضرورة عدم السماح بتأسيس وإحداث كنائس جديدة.
أما القول بهدم ما استحدث منها في أرض العرب والمسلمين من جديد فقد نص الفقهاء على وجوب هدمها؛ لأنه متى كان الأصل وجوب المنع لها في الابتداء، فكذلك في الاستدامة، إذا لم يترتب على هدمها ما هو أكبر شرًّا منه، خشية إقدام النصارى على مساجد المسلمين المؤسسة في بلدانهم، فيعملون عملهم في هدمها معاملة بالمثل.
لهذا يجوز بقاؤها حذرًا من الوقوع فيما هو أكبر شرًّا منه وقد اشترط العلماء في إنكار المنكر بألا يترتب عليه ما هو أكبر منه. كما ترك الصحابة الكنائس في الشام وفي مصر وهم قادرون على إزالتها، حذرًا من تنكر الناس لهم، وما أشبه الليلة بالبارحة.
وبما أن بعض جهلة العوام ينحون بالملام على علماء الإسلام في منع استحداث الكنائس للنصارى في أرض العرب والمسلمين، فكذلك هم دائمًا ينحون بالملام على القتال في الإسلام، لزعمهم أن المسلمين وخاصة الصحابة هم البادئون بالاعتداء في فتوحهم بلا سبب يوجبه.
أما السؤال عن حكم تجنيس غير المسلمين وتمتعهم بجنسية البلاد كسائر المسلمين، فهذا مما يحرمه الولاء والبراء، لكون المؤمنين بعضهم أولياء بعض، والذين كفروا بعضهم أولياء بعض، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير.
وحسبك ما يتقوى به المتجنس بالجنسية الإسلامية العربية من صولته، ونفاذ كلمته، يقول الله تعالى: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِين ٥١﴾[سورة المائدة، الآية: 51]. ولا شك أن السماح بتجنيس هؤلاء غاية في ولائهم ومحبتهم ﴿فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ﴾[سورة المائدة، الآية: 52].
وإنني أشيد بالثناء على ما أقره مجلس الأمة الكويتي بأغلبية كبيرة بتعديل قانون الجنسية، والذي يحصر التجنيس بالمسلم، أو من اعتنق الإسلام وأشهر إسلامه، وفقًا للطرق والإجراءات المتبعة، وبعد مضي خمس سنوات على الأقل قبل منحه الجنسية.
ونحن مقتنعون بهذا القرار ومؤيدون له، لأنه أحد ضمانات وحدة الأمة، وعامل من عوامل استقرار البلاد.
جزى الله العاملين للإسلام خيرًا، وأخذ بيدهم إلى رفعة شأنه. اهـ.
***